شخص بسيط ومؤلف قصص أطفال بالنهار، يعمل متخفيا ليلًا تحت هوية أخرى سرية لمحاربة الأفكار العنصرية والشرور في العالم، وإقناع الأجيال التالية بضرورة التخلي عنها.
الوصف السابق يبدو كما لو كان ينتمي لشخصية خيالية أخرى من أبطال الكومكس، لكنه في الحقيقة وباستثناء جزئية الهوية المزدوجة، قد يكون أدق وصف يمكن قوله عن الراحل ستان لي، مؤلف ومبدع العديد من شخصيات الكومكس الأمريكية المعروفة في فترة الستينيات، التي أصبحت مؤخرًا مصدر هوس للملايين في العالم بعدما انتقلت بنجاح لشاشات هوليوود.
7 أسباب تجعل “ما وراء الطبيعة” أهم مسلسل عربي في أخر 20 سنة | حاتم منصور
لمعرفة حجم إسهاماته في هذا المجال، يكفي أن أقول أن أغلب الشخصيات الموجودة هنا في الصورة، تم ابتكارها بمشاركته مع مبدعين آخرين، وأن الشخصية الوحيدة الشهيرة في فريق أفنجرز الأصلي التي لم يشارك في ابتكارها هي كابتن أمريكا.
تماما مثل أي بطل خارق، فقصة حياته قبل اكتساب قواه الخارقة في تأليف الكومكس، لا تقل تسلية عن قصة حياته بعد اكتسابها، والأهم أنها قصة تمثل المفتاح لفهم كل شيء يخص فنه لاحقًا.
وُلد ستانلي مارتن ليبر عام 1922 لأبوين فقيرين من أصول يهودية رومانية، ومن السهل استنتاج الكثير عن طفولته مع هذه التركيبة وقتها. التعرض للتنمر بانتظام في المدرسة، والرغبة المستديمة في الهروب لعالم خيالي أفضل حالًا من حياته المتواضعة. العالم المتواجد بالفعل في الروايات وأفلام السينما التي عشقها منذ طفولته.
ألان تورنج.. عبقري الحرب العالمية الثانية المنسي والمثلي المنتحر
قرار الانضمام لعالم الكتابة والتأليف لم يتأخر كثيرًا. قبل إنهاء دراسته الثانوية كان يشارك بالفعل في كتابة بعض المنشورات للجرائد المحلية المتواضعة مجانًا، وتحضير المواد الدعائية المطبوعة للمسارح المحلية، ويعمل أيضًا في مهن أخرى كبائع في المحلات، أو موظف شباك تذاكر من أجل لقمة العيش.
بمجرد إنهاء دراسته الثانوية، أراد ستانلي العمل كمؤلف، لكنه وقتها كان يرى نفسه كمؤلف روايات أدبية طويلة. الفرصة الوحيدة التي توفرت كانت وظيفة صغيرة فيTimely Comics، دار النشر الوليدة التي تغير اسمها لاحقًا إلى مارفل.
عمله الأساسي كان تحضير عبوات الحبر للرسامين، وإعادة تعبئتها، لكنه تعلم بالملاحظة خبرات جديدة خاصة بتحضير نسخ الطباعة، والأهم من ذلك أنه تعلم تفاصيل كتابة القصص المصورة. تحضير مادة كتابية ووصفية لرسام، ليصوغ الأخير القصة متسلسلة في صور.
في هذه الفترة كان طموحه الأساسي لا يزال الانضمام لعالم الأدب التقليدي، ومن هنا جاء قراره باستخدام اسم ستان لي بدلًا من ستانلي ليبر، بغرض توفير الاسم الأصلي الكامل لمستقبله الأدبي لاحقًا!
كل شيء ولا شيء في “أفنجرز انفينيتي وور”
النموذج الأسطوري من حيث النجاح وقتها في مجال القصص المصورة، كان روايات سوبرمان وباتمان، التي تصدرها دار نشر دي سي كومكس. حلم أغلب العاملين في المجال كان يتلخص في خلق شخصيات ناجحة أخرى مماثلة. بالفعل حاول ستان لي تحقيق ذلك مع شخصيات ابتكرها مثل Jack Frost، لكنه لم يحقق نجاحًا يذكر. في المقابل، اكتسب بعض الخبرات بفضل المشاركة في إصدارات شخصية كابتن أمريكا، التي لم يبتكرها.
قبل أن يشق طريقه ويسجل نجاحات، استدعاه الجيش الأمريكي للتجنيد عام 1942، أثناء الحرب العالمية الثانية. عمل أولًا في سلاح الإشارة، قبل أن ينتقل إلى قطاعات أخرى أنسب لمهاراته، مثل تحضير الأفلام الخاصة بتدريبات الجيش، وكتابة لوائح التعليمات، وتحضير رسومات الواجهات واللافتات وخلافه.
لاحظ هنا تأثير هذه التجربة. ابن العشرين الحالم بعالم بطولي خيالي، يصطدم الآن لأول مرة بصراعات العالم المميتة الحقيقية، في حرب عالمية أودت بحياة ملايين وملايين الشباب في نفس سنه.
بعد انتهاء الحرب وفترة تجنيده عاد للعمل، في فترة كانت فيها دي سي كومكس لا تزال مهيمنة بفضل شخصيات قديمة، مثل سوبرمان وباتمان ووندروومان، وإضافات أحدث مثل فلاش – جرين لانترن. هذه الهيمنة، بالإضافة لانتهاء الحرب العالمية واختفاء الحاجة لأبطال مقاتلين، دفعته مع آخرين للابتعاد عن المنافسة، والتركيز على تأليف قصص مصورة تنتمي إلى نوعيات مطلوبة أخرى، مثل الويسترن والكوميديا والرومانسية.
أساطير هوليوود يخوضون الحرب العالمية بسلاح الكاميرا (جزء 1)
مر عقد الخمسينيات دون أن يحقق ما يأمله، وهو ما دفعه للتفكير في الاعتزال نهائيًا، والعمل في مجال آخر، لكن زوجته أقنعته بتجربة نفسه للمرة الأخيرة في مجال الأبطال الخارقين، وتقديم شيء يروق لذوقه الشخصي أولًا، ولا تنطبق عليه شروط ومتطلبات السوق بالكامل.
وقتها، كان زميله جاك كيربي قد ابتكر فريقًا من أربعة مغامرين باسم Challengers of the Unknown، لمصلحة دي سي كومكس المنافسة، قبل أن يغادر العمل فيها وينضم لمارفل. رأى ستان لي في هذه الشخصيات ما يصلح كنواة لشيء آخر.
تعاون الاثنان لابتكار شيء مختلف عن كل أبطال دي سي كومكس الخارقين، شيء يحتوي على أبطال أقل مثالية، وأكثر قربًا من البشر الحقيقيين، والأهم أن الأحداث ستدور في نفس مدن أمريكا ونفس عالمنا، بدلًا من العوالم والمدن الخيالية التي تظهر فيها شخصيات المنافسين، مثل جوثام سيتي ومتروبوليس.
النتيجة كانت فريق المدهشين الأربعة Fantastic Four. بشر عاديون يتعرضون لأشعة كونية أثناء مهمة في الفضاء، ويكتسبون بفضلها قوى خارقة متنوعة.
أسوأ 10 أدوار في أفلام الأبطال الخارقين | حاتم منصور
النجاح الباهر لـ Fantastic Four كان أول بصمة لستان لي، والنقطة التي جعلته يستقر في مجال الكومكس. الأهم أنه دشن به النموذج الذي سيتبعه لاحقًا لابتكار شخصيات أخرى، مثل هالك – الرجل العنكبوت، نموذج البشري العادي الذي سيتعرض لحادثة غير عادية تنتهي باكتسابه قواه الخارقة وتغيره للأبد.
خلال الستينيات، أضاف ستان لي لترسانة مارفل شخصيات وسلاسل أخرى ناجحة مثل Doctor Strange – Daredevil – Thor – Iron Man – Black Panther – X-Men – Ant Man، ووضعها للمرة الأولى كمنافس حقيقي وقوي لدي سي كومكس.
لدغة مارفل أضعف في Ant-Man and the Wasp
لكن الطفرة الحقيقية في المبيعات جاءت مع الرجل العنكبوت Spider-Man، الذي فاق نجاحه كل التوقعات. مع هذه الشخصية لم تعد اللعبة صياغة بشري عادي يكتسب قواه الخارقة بسبب حادثة، بل أصبحت أيضًا صياغته كشاب يعاني من نفس مشاكل وتحديات الأطفال والمراهقين والشباب. التنمر من زملائه في المدرسة، الحفاظ على علاقة عاطفية متذبذبة، الضغوط المادية بسبب الفقر، إرضاء الأسرة.. إلخ.
على عكس فترة الثلاثينيات والأربعينيات التي شهدت ميلاد شخصيات مثل سوبرمان وباتمان ووندروومان وكابتن أمريكا، بكل ما تمثله هذه الشخصيات من مثاليات وقيم، وعزف على أوتار المشاعر الوطنية – وهى عناصر ملائمة جدًا لفترات شهدت كسادًا اقتصاديًا وحربًا عالمية – جاءت شخصيات ستان لي مختلفة لتواكب تغيرات الستينيات.
نتحدث عن حركات الحقوق المدنية ومناهضة العنصرية ضد السود والأقليات العرقية، وحالة عامة يراجع فيها المجتمع الأمريكي نفسه، مع إحباطات عديدة كان أبرزها اغتيال الرئيس كينيدي وحرب فيتنام وخلافه، مع انتصارات مهمة في المقابل في ميادين العلم، كان أهمها الوصول إلى القمر.
النازيون أنشأوا قاعدة عسكرية في الجانب المظلم من القمر| الحكاية في دقائق
شخصيات ستان لي كانت أقرب لشباب هذه الفترة. لا تخلو من انكسار وحيرة، ولا تملك نفس ثقة سابقيها أو استقرارهم النفسي، تخطيء وتجرح المقربين منها أحيانًا، تعاني من هزائم شخصية واحباطات وظيفية وعاطفية وعائلية، لا تملك حلولًا لكل شيء، لكنها تملك عزيمة لمواصلة الكفاح رغم كل الهزائم.
في X-Men تحديدًا، تبدو القضية الأساسية دومًا هى العنصرية واضطهاد المختلف. عنصرية بعض أشرار هذه السلسلة ضد البشر، وعنصرية بعض البشر ضد شخصيات السلسلة، وعنصرية بعض هذه الشخصيات ضد بعضها، وعنصرية السلطات ضد هذه الشخصيات.
أراد ستان لي للجيل الجديد قناعات تجعله يصنع عالمًا أكثر سلمًا من العالم الذي حضره في شبابه. عالمًا بدون حرب عالمية ثالثة. حتى وفاته عاش في هذا العالم فعلًا. والأهم أنه ترك حلمه القديم في كتابة الأدب التقليدي، وحقق كل أحلامه في الكومكس، ليظل دومًا وللأبد معروفًا بالاسم الذي اختاره كبديل مؤقت. اسم ستان لي.
نبيل فاروق | لغز كوكتيل نتجاهل أهميته حتى اليوم | حاتم منصور
بعض السلاسل والشخصيات التي ابتكرها، لم تحقق أمجادًا قوية في بداياتها، ومنها X-Men، واحتاجت اسهامات وبصمات من مؤلفين آخرين غيره، قبل أن تلحق بقطار الأمجاد، وتحفر اسمها في تاريخ الكومكس، لكنها رغم ذلك تظل تحمل جيناته أولًا قبل غيره، وبدونه كنا غالبًا سنخسرها للأبد.
في الجزء الثاني المقبل، نستكمل قصة هذا البطل الخارق، مع ملاحم أخرى لا تقل أهمية في مشواره. ملاحم تتضمن علاقته بالقراء والجمهور وطريقه تواصله الفريدة معهم، وتأثيره المهول على هوليوود مؤخرًا.
رابط الجزء الثاني: