ماذا لو طلب صديقك مشروب بوريو لنفسه وشايًا عاديًا لك؟ | شادي عبد الحافظ

ماذا لو طلب صديقك مشروب بوريو لنفسه وشايًا عاديًا لك؟ | شادي عبد الحافظ

5 Jul 2020
شادي عبد الحافظ دقائق.نت
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

قبل أيام قليلة، وبينما أتابع مباراة شطرنج جديدة بين بطل العالم النرويجي ماجنوس كارلسن، وأحد أشهر أبطال الصين لي رين دينج، إذا بجدار الثلج النرويجي يخرج بوزيره فجأة في العراء تمامًا على الرقعة، ثم يعطيه هدية لخصمه!!

هل جُن بطل العالم؟! في الواقع لا. قبل هذه المباراة بيوم واحد فقط، جمعت البطلين مبارة أخرى. كانا متعادلين، وبدا أن كلًا منهما سيحصد نصف نقطة ثم يستكملا معاركهما، لكن الإنترنت انقطع عن دينج ففاز كارلسن بالمباراة. وما حدث في اليوم التالي كان ببساطة رغبة من كارلسن في أن يغلب دينج بلعبة عادلة، لا عبر الحظ.

تسبب ذلك الموقف في ضجة لذيذة الطابع بين لاعبي وهواة الشطرنج حول العالم، فنحن البشر – مثلنا مثل كارلسن – كائنات بسيطة، تميل إلى الاهتمام بوجود لعبة عادلة في حياتنا. لكن الأمر أعمق من مجرد حركة على رقعة الشطرنج.

لعبة الإنذار الأخير

في تلك النقطة، دعنا نبدأ من من ريتشارد ثيلر، الأمريكي الذي حصل على نوبل في الاقتصاد 2017. تجارب ثيلر أثبتت أننا نميل إلى الاهتمام الشديد بمدى عدالة الأوضاع، حتّى في قراراتنا المالية. لفهم تلك النقطة، دعنا نفترض تجربة بسيطة.

رجل يبيع المظلات، بسعر 10 دولارات فقط للمظلة الواحدة، لكنه يرفع السعر حين يشتد المطر ليصبح 25 دولارًا؛ لأن المطر سيضطر الناس لشراء المظلات على أية حال. أليس كذلك؟

بحسب الاقتصاد الكلاسيكي، فالناس سيضطرون لشراء المظلة بأي سعر طالما تقودهم الحاجة ومنظومة العرض والطلب، لكن تجارب ثيلر كشفت فارقًا واضحًا بين المتوقع والحاصل في أرض الواقع.. كثيرون فضلوا البقاء تحت المطر من دون مظلة إذا كانوا يظنون أن البائع يستغل حاجتهم.

إحدى الألعاب الشهيرة في عالم الاقتصاد هي “لعبة الإنذار الأخير” Ultimatum game. لنفترض أننا نود إعطاء 20 دولارًا لشخصين، لكن بشرطين:

أولًا: سنعطي المبلغ كله لأحدهما، ثم يقرر هو أي كمية من المبلغ سيأخذه لنفسه، وأيها سيعطي لرفيقه.

ثانيًا: إذا قبل الشخص الآخر بهذا التوزيع – أيًا كان – سيحصل كلٌ منهما على ما قُسم له، وإذا رفض، فإن كليهما لن يحصل على شيء.

آلات حاسبة

في تلك النقطة قد تفكر لوهلة: لو أن الـ20 دولارًا كلها معك، ربما ستعطي الشخص المقابل 10 دولارات لتقنعه بالقبول بتلك النتائج، ويأخذ كل منكما أرباحًا متساوية. لكن ماذا لو قررت أن تأخذ أنت 11 دولارًا وتعطيه 9 دولارات؟

لا بد وأنه قد يوافق أيضًا. في النهاية لو رفض هذا الاتفاق لن يحصل على شيء.

يفتح ذلك الباب لفكرة أخرى: ماذا لو قررت إعطاؤه 5 دولارات فقط؟ ماذا لو قررت إعطاؤه 4 دولارات أو دولارين أو دولار واحد؟

بحسب النظرية الاقتصادية الكلاسيكية فإن الطرف الآخر سيوافق على أي رقم؛ لأنه لو رفض فسيخسر كل شيء حتى لو كان دولارًا واحدًا. وبذلك تفترض النظرية أن الاتزان سيحدث عندما تقرر أخذ 19 دولارًا لنفسك، وتترك له دولارًا واحدًا. لكن هل يحدث ذلك على أرض الواقع؟

الإجابة البسيطة: لا، فالبشر ليسوا آلات حاسبة تقبل بقواعد الربح والخسارة، مثلما تجري عمليات الجمع والطرح، الحاجة إلى شيء ما ليست المحرك الوحيد أثناء اتخاذ قراراتنا المالية أو أي قرارات أخرى، بل وقد نضطر – في بعض الأحيان – لدفع مبلغ أكبر من المال، أو الامتناع عن مكافأة كبيرة، أو الخضوع لخسارة كبيرة، فقط لمعاقبة آخرين نظن أنهم ينتهكون القواعد العادلة للعبة.

لو كنت مجرد آلة حاسبة، سوف نفترض أنك ستسعد حينما تجلس مع صديق لك في المقهى فيطلب لنفسه مشروب بوريو مرتفع الثمن، بينما يطلب لك شايًا عاديًا، لكن ما يحدث في الواقع هو أنك قد تغضب بشدة وربما تقرر أن ترد له الصاع صاعين في المرة القادمة، فتطلب لنفسك سلطة فواكه، ولصديقك شايًا مع ملعقة سكّر واحدة!

هل العالم عادل حقًا؟!

في الواقع، الاهتمام بقواعد اللعبة العادلة يأخذ البشر إلى ما هو أعمق من الاقتصاد. في كتابه “القناعة بعالم عادل” يشير ميلفن ليرنر، أستاذ علم النفس الاجتماعي من جامعة ووترلو، إلى أننا نميل للنظر إلى هذا العالم على أنه مكان عادل، ما يعني أن كل فعل نقوم به يستدعي نتيجة من نفس النوع، أنت تستحق ما أنت فيه – كان جيدًا أو سيئًا – بسبب أفعالك.

على سبيل المثال، في أحد تجارب ليرنر، اختلفت مجموعتان من الجمهور على فتاة ظهر في فيديو معروض عليهم أنها تُصعق بكهرباء خفيفة بسبب أنها أجابت بطريقة خاطئة عن أسئلة وجهت إليها. المجموعتان سُئلتا عن رأي كل منهما في شخصية تلك الفتاة، لكن قيل للمجموعة الثانية إنها تلقت أجرًا مقابل الصعق.

هنا أجابت المجموعة الأولى أن الفتاة قد تكون سيئة الطباع، وقال البعض ما معناه :”تستاهل، ليه مجاوبتش كويس؟”. بينما أبدت المجموعة الأخرى التي قيل لها إن الفتاة تلقت نقودًا مقابل ذلك، تقبلًا لموقف الفتاة، مع اتفاق على أنها “جيدة”.

بحسب ليرنر، فالمجموعة الأولى اندفعت للوم الفتاة لسبب واحد، وهو تحقيق اللعبة العادلة، فالعالم عادل ولا بد أنها تستحق ما حدث لها، وبما أنه لا يبدو هناك أي مبرر ظاهر لما حدث، فإننا نفترض تلقائيا مبررات تجعل الفتاة تستحق ما حدث لها.

لنطلب بوريو!

يقول ليرنر إننا نستخدم مغالطة أو فرضية العالم العادل Just-world hypothesis لكي نطمئن على مستقبلنا في هذا العالم القاسي بطبعه، فلا يمكن لنا بسهولة أن نتقبل فكرة أنه بطبيعته عالم غير عادل، أو أن بعض الظلم قد يكون غير مبرر.

لذلك، يمكن لفرضية العالم العادل أن تبرر ثقافة لوم الضحية لدى البعض، فعادة ما تجد ادعاءات شبيهة في بعض المجتمعات عن هذه الفتاة التي تحرش أحدهم بها، سيقولون “إيه اللي ودّاها هناك” أو “لماذا ترتدي تلك الملابس الفاضحة؟!”.

هؤلاء، في هذا الموقف، لا يلومون الفتاة فقط (بدلًا من لوم المتحرش وهو الفعل المتوقع والعادل حقًا في موقف كذلك)، لكنهم يطمئنون أنفسهم بأنها استحقت نتائج أفعالها، وبما أنهم لا يفعلون ما تفعل، لن يحدث لهم ما حدث لها، لن يكونوا ضحايا مثلها، لكن ذلك للأسف مجرد وهم.

في كل الأحوال، أنت الآن تملك ما يمكن أن تقوله لصديقك حينما تجلس معه في المقهى فيطلب لنفسه مشروب بوريو، بينما يطلب لك شايًا عاديًا. قل له أننا نشجع اللعبة العادلة، لكن هذا العالم غير عادل يا صديق، “اطلب لي بوريو زيّك”.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك