لم يعد صعبًا ملاحظة تغيرات السنوات الأخيرة في هوليوود، والمحاولات المستمرة لصبغ العديد من الأعمال بمضمون يواكب الرسائل الفيمنستية (المرأة يمكن أن تنجح في أى مجال – النساء لا تقل قوة وعزيمة عن الرجال – المرأة تضحي ولا تحصد نصيبها العادل بسبب الهيمنة الذكورية في كل المجتمعات.. إلخ).
هذه الرسائل لا تمثل مشكلة في حد ذاتها إذا وُجدت في فيلم أو مسلسل جيد، بل يمكن القول إن التفاعل والاستمتاع بقصص وأفلام جيدة تتضمن هذا الجانب مسألة سهلة، ويمكن أن تشمل حتى المتفرج غير المقتنع بهذه الرسائل.
المشكلة الحقيقية الآن أصبحت متعددة الأسباب، لكننا سنكتفي هنا بثلاثة عيوب وأسباب رئيسية قاتلة، خلقت حالة نفور جماعي، وجعلت الطابع الفيمنستي في هذه الأعمال يحقق عكس أهدافه، مع ذكر مثال لعمل معروف جماهيريًا، لتوضيح المقصود.
المثال: مسلسل تشرنوبل
Chernobyl
إجمالًا، أصنف تشرنوبل كواحد من أفضل المسلسلات التي شاهدتها على مدار حياتي، وأسباب هذا التصنيف مذكورة في مراجعة نقدية تفصيلية عنه. لكن كما يقول المثل المصري (الحلو ما يكملش). عدم الاكتمال هنا مصدره شخصية نسائية غير حقيقية تم ابتكارها في الأحداث، لعالمة مختصة بالطاقة النووية، قامت بدورها الممثلة إميلي واتسون.
طوال الأحداث تتصرف هذه الشخصية بشكل يخالف باقي الشخصيات، ويناقض التفاصيل التي يعرضها المسلسل عن الاتحاد السوفيتي وقتها، كمنظومة بيروقراطية متسلطة ترعب الكل بدرجة ما، ولا تتسامح مع أي فرد معارض.
مستقبل الترفيه: كيف تحققت نبوءة مخرج تيتانك في لعبة العروش وأفنجرز؟ | حاتم منصور
تأثير مانديلا في السينما.. ذاكرة مزيفة أم إبداعية؟ | أمجد جمال
هذه البطلة الخيالية تتنقل طوال الأحداث بمنتهى الحرية، وتفعل الصواب والصواب فقط. تصحح المعلومات لزملائها من العلماء الذكور، وتواجه السياسيين المهملين في مكاتبهم، وتصدر الأوامر للأطباء وأطقم التمريض في المستشفيات.. إلخ. كل شيء أصبح سهلًا وممكنًا وعاديًا فجأة لأن صناع المسلسل أرادوا صياغة شخصية نسوية فعالة في الأحداث بشكل إيجابي.
يبرر صناع المسلسل اختلاق هذه الشخصية باعتبارها أداة درامية يختزل فيها المسلسل عشرات العلماء الذين حاولوا تصحيح الأوضاع وقت الكارثة، لكن اختيار أنثى خلافًا للسائد في علماء هذا المجال فعليًا – خصوصًا وقتها – وصياغتها بهذا الشكل المثالي الشجاع الجريء الذي لا يخشى مواجهة السلطات، أقرب لطعنة مهولة في أهم مزايا هذا المسلسل، وهي واقعيته ومصداقيته وتشريحه وتوثيقه الدقيق للمجتمع والمنظومة الروسية وقتها.
وجودها ببساطة اختيار فني فيمنستي الدوافع، أضر بالمسلسل، وأضر بالقضية النسوية أيضًا، وجعلها أشبه بنكتة سخيفة محشورة خارج السياق، وخارج حدود المنطق والواقع.
المثال: فيلم طاردو الأشباح (نسخة 2016).
Ghostbusters
حقق أول فيلمين في هذه السلسلة (1984 – 1989) نجاحًا جماهيريًا ممتازًا، واحتاجت هوليوود لسنوات طويلة تضمنت أفكارًا وسيناريوهات ومشروعات عديدة تم إلغاؤها، قبل أن تقرر العودة فجأة للسلسلة مع تعديل مهم، وهو استبدال فريق الذكور الأبطال بفريق نسوي.
فشل الفيلم تجاريًا وحقق خسائر لمنتجيه؛ لأن الجمهور ببساطة اعتبر ما حدث أقرب لمحاولة سرقة واستحواذ نسوي. والشىء الجيد أن هذا الفشل أجبر الشركة المنتجة (سوني) على استبعاد هذا الشكل النسوي وفريقه، والعودة للطابع الأصلي في فيلم جديد منتظر عرضه في صيف 2020.
10 سنوات على توم وسمر.. من الظالم والمظلوم؟ | أمجد جمال | دقائق.نت
نظرة جريئة وصادمة للأمومة والإنجاب في Tully
عندما يحب الجمهور سلسلة وشخصيات ما بطابع محدد، يصبح التغيير غير مستحب. الأزمة هنا لم تكن ذكورية الدوافع أو تعصب لجنس، بقدر ما هي عاطفية الدوافع وتعصب للأصل. لا أعتقد أن ردود الفعل ستختلف إذا قررت هوليوود مثلًا استبدال لارا كروفت بطلة ألعاب وأفلام Tomb Raider بشخصية أخرى لذكر.
قرار تغيير طاردو الأشباح النسوي الدوافع، ألحق ضررًا بالسلسلة، وبالقضية النسوية التي أصبحت متهمة بسببه بالإفلاس الفني، وبالسطو على نجاحات لا تخصها. للأسف كررت هوليوود الخطأ في فيلم Ocean’s Eight وغيره، ويبدو أنها لن تتوقف قريبًا. تأمل مثلًا هذا الخبر عن فيلم قادم لـ (شرلوك هولمز الأنثى).
النجم الأمريكي هنري كافيل المشهور بدور سوبرمان في السنوات الأخيرة، سيبدأ قريبا تمثيل دور المحقق البريطاني الفذ "شرلوك…
Posted by دقائق on Sunday, June 30, 2019
المثال: كابتن مارفل
Captain Marvel
تحدثنا سابقًا في مراجعة هذا الفيلم عن عيوبه، وعن السخافات النسوية التي مارستها بطلته بري لارسون في الإعلام قبل عرضه، وجعلت البعض متحفزًا ضده. لكن يبدو أن الفيلم لم يكتفِ بكل هذه العيوب التي ورثها من النسوية، فأضاف لها عيبًا آخر، وهو التحامل الإعلامي على جمهور شاهد الفيلم لكنه لم يعجبه، وأعلن رأيه فيه وفي بطلته.
كيف أصبح التمثيل أهم قوة خارقة في Avengers: Endgame؟ | حاتم منصور
أسوأ 10 أدوار في أفلام الأبطال الخارقين | حاتم منصور
تصرف عادي جدًا، لكن مع كابتن مارفل يمكن أن يعرضك لاتهامات بالتحيز الجنسي واحتقار المرأة! هذه نقطة تذكرنا بالمناسبة بفيلم أفضل نسبيًا لمارفل، لكنه يظل إجمالًا متوسط المستوى، ولا يُفضل أن تذكر عنه أية سلبيات، وإلا ستتعرض لاتهامات بالعنصرية ضد السود، وهو Black Panther.
اللافت للنظر بخصوص هذه الادعاءات أن أغلب الجمهور المتهم بعداوة الشخصيات البطولية النسائية، هو نفسه الجمهور العاشق لشخصيات نسوية بطولية قدمتها هوليوود منذ عقود في أفلام وسلاسل أفضل، أشهرها Terminator – Alien.
هذا الجمهور لم يمانع أيضًا في إضافة شخصية نسوية بطولية مثل فيريوسا، في سلسلة سينمائية ذكورية الأصل مثل ماد ماكس في Mad Max: Fury Road. والسبب يتلخص ببساطة في كونها شخصية سينمائية صُنعت بإتقان على يد السيناريست والمخرج جورج ميللر، وأدتها ممثلة موهوبة (شارليز ثيرون).
فيريوسا شخصية غير دخيلة على عالم ماد ماكس، بل هي في الحقيقة ناتج أنثوي حتمي لهذا العالم ومعطياته، ومنطقية من حيث الدوافع والسلوكيات، وليست مجرد أداة محشورة يستخدمها صناع الفيلم لترديد جمل وعبارات وعظية.
البعض يفضلونها نسوية في The Favourite | حاتم منصور | دقائق.نت
لدغة مارفل أضعف في Ant-Man and the Wasp
الأزمة حاليًا أن هوليوود والإعلام اليساري العالمي، يحاولان إقناعنا بمعادلة بائسة مضمونها أن المزيد من النسوية يعني بالضرورة المزيد من الجودة. وأن أي اعتراض على المزيد من النسوية، أو على وجودها في أي فيلم، لا يعني إلا تحيزً وتعصبًا ذكوريًا.
لكن المعادلة الواقعية تتلخص في أن الجمهور يبحث عن الجودة السينمائية، ولا يعاني من أزمات ذكورية أو تعصب حاد ضد كل ما هو نسوي. وأن محاولات هوليوود المصطنعة لفرض أجندة نسوية في أي عمل، وكل عمل، خلال السنوات الأخيرة، لم ينتج عنها جودة سينمائية أو إبداع في أغلب الحالات.
موجات النسوية المعاصرة في هوليوود ستبدأ في تحقيق أهدافها إذا توقفت عن محاولات الاستيلاء على سلاسل لا تخصها، وبدأت في إبداع شخصيات صادقة ومؤثرة وأفلام قوية. إذا تحولت إلى طاقة لصياغة قصص مقنعة، بدلًا من صياغة مقالات وخطب وعظ على شريط سينما.
سكاكين السوشيال ميديا التي تحتاجها صناعة الفن أحيانًا | حاتم منصور
الأخوات المسلمات أمام تمثال العضو الأنثوي: الإخوان واليسار في غزوة سويسرا | مينا منير
أما الوضع الحالي وتدشين أسئلة وأفكار سخيفة ومبتذلة من نوعية “لماذا لا نجعل جيمس بوند امرأة؟”، فهو بالتأكيد لا يمثل إضافة للنسوية وقضاياها، بقدر ما يمثل في الحقيقة خطوة للعكس، واعتراف بأن انجازات المرأة شيء صعب فعله، ولا يتحقق إلا بالسير على جسور وأمجاد بناها الرجال.