وحيد حامد يرحل شامخًا في لقطته الأخيرة بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، كما عاش ككاتب سيناريو وصاحب رأي واضح، لم يتنازل ولم يترك ميدانه، ترك لنا ثراءً سينمائيًا وتليفزيونيًا أسهم في تشكيل وجدان المصريين لأربعة عقود، بأعمال متنوعة تلامست مع حياتنا الاجتماعية والسياسية والدينية، بشكل جعل من عباراته ومشاهده السينمائية تيمات ثابتة في خطاباتنا ومزاحنا ونقاشاتنا.
لم يترك وحيد حامد ميدانًا في حياتنا إلا واقتحمه بعمل ما. وبالطبع، كما كان للدين ومجالاته الغلبة على الواقع الاجتماعي المصري طوال تلك العقود التي راجت فيها أعمال وحيد حامد، كان له نصيب ممتد في أعماله.
وكان لهذا أثر واضح في وداعه من قبل التيارات الدينية، فشيعوه بلعنات وشماتة متكررة، لم تعد ذات أثر لتكرارها وتهافتها!
فى النصف الأول من التسعينيات، كانت مصر رهينة بالفعل لدى التيار الإٍسلامي بأجنحته يشكلها كيف يشاء. في هذا العقد الفريد، جرت محاولة اغتيال نجيب محفوظ، وتفريق نصر أبو زيد عن زوجته بموجب قوانين القرون الوسطى، واغتيل رئيس مجلس الشعب بوسط القاهرة، تبعتها محاولات اغتيال متعاقبة لرئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية.
ووسط عصا الإسلاميين، كانت هناك جزرة اللين والمودة والجمعيات “الخيرية” وخطب الدعوة والمؤسسات الاقتصادية والجلباب الأبيض والابتسامة السمجة، مع التخلي عن اللسان والملابس المحلية لصالح أخرى إسلامية، تجرى معًا على أفضل ما يكون.
ومن الفن كان سلاح المقاومة. هناك من وقف وتصدى بحسم لا يبلغه لين، وهناك أيضًا من أهل الفن من باع مجاله وانضم لهؤلاء تحت مسمى الفنان التائب والفنانة المحجبة مجاراة للعصر الجديد.
عام 1994، في ظل هذا الغيم المقلق، تقدم وحيد حامد بعمله الخالد “العائلة” يذكرنا بأننا أبناء عائلة وطنية واحدة، ولسنا طائفة تسود طوائف كما روجت المنابر والخطب.. رؤية وحيد حامد هنا قال خلالها كل شيء تقريبًا، كيفية تحول المجتمع من مجتمع متماسك، إلى مجتمع يتفكك تدريجيًا خلال ربع قرن، في عمل يبدأ بنكسة يونيو 1967، وينتهى بتفجير مقهى وادي النيل بميدان التحرير في 26 فبراير 1993.
يستعرض خلاله سيادة الركاكة الفقهية، وتحولها إلى قضايا نقاشية ثم امتلاكها لآليات تنفيذ، ثم دخول حيز الواقع بالاصطدام مع الدولة مع مراعاة تحييد المجتمع!
مهمة انتحارية في مثل هذا التوقيت، الذي قد لا تستطيع الدولة فيه حماية بعض شخوصها البارزين.
سيد حجاب يكمل مهمة وحيد حامد بزجل مصري، وموسيقى لعمار الشريعي، وتشدو به أنغام في مقارعة خفافيش المعتقد، ليتشكل تتر مسلسل يستقر في مقام الأغاني الوطنية، ينشد البقاء ويرفض الانزياح والخرف المفروض علينا!
لينتهي بـ “وكلنا أصل وعيلة.. آه يا أًصيلة”
المتطرفون بلا أصل بالأساس، مجموعات قادمة من الأطراف نحو المركز بمعتقدات سفيهة، فلا مفر من تذكيرهم بأصولنا.
وحيد حامد | أحلام الفتى الكاتب وكوابيس الواقع المصري | حاتم منصور
لم يتبن وحيد حامد وجهة نظر الحكومة القائمة في المسلسل، فقد سطر مشاهد تنتقد الفساد، وتربطه بتبرير سيادة التطرف، لكن الرقابة حذفتها، ومشاهد أخرى مهمة في تشخيص التعامل مع قضية الإرهاب، منها مشهد يدور بين “ليلى علوى” وبين ضابط أمن الدولة في التحقيق، حذفته الراقبة، ربما لو كانت تفاصيل هذا المشهد محل اعتبار مسئولي الدولة حينها، لوفر علينا من العدو في المكان..
ليل/ داخلى
المكان: مباحث أمن الدولة..
– تجلس مشيرة أمام المحقق.. من الواضح أنه شخصية كبيرة ومهمة في هذا الجهاز..
– تبدو متعبة ولكنها متماسكة.
– يتأملها المحقق.
المحقق: أسألك.. ولا تحبي تتكلمي من نفسك..
مشيرة: أتكلم أقول إيه.. أنا كل حاجة عندي قلتها في تحقيق قبل كده..
المحقق: يمكن يكون عندك معلومات إضافية.. ويمكن تكوني ناسية حاجة!!
مشيرة: أفتكر إني استوفيت كل حاجة..
المحقق: عاوز أسألك.. أنتي دخلتى الجماعة بإرادتك.. ولا تحت ضغط معين؟!
مشيرة: دخلت الجماعة بإرداتي..
المحقق: ليه؟!
مشيرة: كانت حواليا ظروف.. كنت عاوزة أهرب من حياتي.. كنت عاوزة أشوف ناس تانية غير اللي كنت عايشة وسطهم..
المحقق: أثناء وجودك فى الجماعة. كنتي مبسوطة؟!
مشيرة: لأ.. علشان كده هربت.. دول كانوا عاوزين يقتلوني أنا ومصباح علشان هربنا..
المحقق: طيب.. واحدة مثقفة زيك مش غريب عليها إنها تعيش المدة الطويلة دى كلها داخل الجماعة وهي مش مقتنعة!
مشيرة: أنا زيي زي كل الناس.. وكانت فيه حواليا حاجات كتير مأثرة عليا.. وكان من الصعب إني آخد قرار.. كنت مقسومة نصين!! مش عارفة هم صح ولا غلط..
المحقق: ممكن تشرحي لنا الظروف اللى أثرت عليكي..
_ تتنهد في عُمق.. تنظر إليه في تحفز.
مشيرة: حضرتك عارف إن فيه دعاة في بعض الجوامع بينادوا بالدعوة بتاعتهم وعلنا..
المحقق: ده صحيح..
مشيرة: وحضرتك عارف إن فيه مدرسين بيستلموا الأطفال من حضانة لثانوي يشربوهم التعصب والتشدد..
المحقق: ده صحيح..
مشيرة: وحضرتك عارف إن فيه أساتذة جامعة بتكفر العلم فى قلب المدرجات، وعلى الطلبة السمع والطاعة، يا كده يا يسقطوا آخر السنة..
المحقق: ده صحيح..
مشيرة: وحضرتك عارف إن فيه مقالات بتتكتب فى الجرايد القومية وغير القومية كلها تأييد ومناصرة للعنف..
المحقق: ده صحيح..
مشيرة: ومطابع مالهاش عدد عمالة ترص في كلام لما بقى عندنا أكبر سوق للكلام فى العالم كله..
المحقق: ده صحيح
مشيرة: وتقريبا مفيش جهاز أو مصلحة مهمة إلا ما بقى فيها مندوب..
المحقق: ده صحيح..
مشيرة: حضرتك عمال تقول ده صحيح.. ده صحيح. ممكن حضرتك تقول لى إيه هو اللي مش صحيح لما انتو شايفين ده كله، ومبسوطين بالفرجة وبس..
المحقق: إوعي تنسي إننا في بلد ديموقراطي..
مشيرة: الديموقراطية اللى تقسم البلد نصين عمرها ما تبقى ديموقراطية. تبقى فوضى.. وبالطريقة دي، وطول الحال ما هو كده.. لو قبضت على إرهابي تاني يوم هتلاقي بدل منه اتنين.. ولو قبضت على عشرة.. تاني يوم هتلاقى عشرين.. انتهت أقوالي.
بروفايل | مونولوج وحيد حامد الأبدي.. البحث عن أحلام أبعد من الخيال | مصطفى ماهر
الوضع شديد الالتهاب، بنفس العام 1994 صدر فيلم الإرهابي للينين الرملي وعادل إمام، في محاولة داعمة لصد أسراب الجراد.
عدد من الفنانات ارتدين الحجاب خضوعًا للموجة وأملًا في مكاسب بنكهة إسلامية. يرسم وحيد حامد طقوس مشهد ارتداء الحجاب لفنانة بالمسلسل، نجوى فؤاد، على يد الشيخ توفيق عبد الحميد.
ولخشية رد الفعل، تحذف الرقابة المشهد أيضًا.
لم تكن المواجهة بالعموم على نفس مستوى جدية المسلسل. المثقفون يتخاذلون أحيانًا، ويمسكون بالعصا من المنتصف. بعضهم يؤدي دورًا مخادعًا، بل متواطئًا..
فتحذف الرقابة مشهدًا آخر بخاتمة المسلسل، يُقتل فيه “عبد المنعم مدبولي” في تفجير المقهى، فيغطي محمود مرسي جثمانه بأوراق الصحف المصرية، في إشارة لتواطؤ الصحافة أو خذلانها للقضية وتغطية جرائم القتلة!
يشيد أسامة أنور عكاشة بالمسلسل ويصفه بالعمل الإعلامي التنويري، الذي لم يهتم خلاله وحيد حامد بتزويق صرخته ضد التخلف والإرهاب.
يجري إبراهيم عيسى حوارًا مع وحيد حامد، يتضح خلاله مدى تعقد الأزمة الفكرية في مصر بهذا التوقيت، إلى درجة أن الجميع بالتقريب ظهره ملتصق بالحائط، ولم يتبقى سوى إعلان الحرب!
يتعجب إبراهيم عيسى من عرض التليفزيون المصري في رمضان السابق ثلاثين حلقة لعمر عبد الكافي، وبعد عام يعرض مسلسلًا ينتقد التطرف! ويواجه المؤلف بآلاف الرسائل طالبت مفتي الجمهورية بإيقاف عرض المسلسل، ويرد وحيد حامد بأنه يكفيه إثارة الجدل وتحريك المياه الراكدة، وأن على كل مواطن البحث عن الحقيقة بنفسه..
تحركت المؤسسة الدينية في مصر ضد مشهد يسخر فيه محمود مرسي من عذاب القبر، وكانت فكرة حديثة نسبيًا على آذان المصريين، ساهمت في زيادة التخويف والترويع، واستدعت فتح المصادر المتربة بالأرفف. أمام الهجوم، تراجع وحيد حامد وأضاف مشهدًا للمسلسل، يروج فيه لصحة فكرة عذاب القبر من الناحية الشرعية.
السلطة من أسفل .. الزوجة الثانية في مواجهة الإسلام السياسي | خالد البري | رواية صحفية في دقائق
يرى وحيد حامد أن الدولة كانت تعامل الإرهاب حتى العام السابق باعتباره مسألة عادية لا تستلزم الاستنفار، وتحدث عن غزل بين الناصريين والمتطرفين، جعل الناصريين يرفضون المسلسل، لربطه بين النكسة والإرهاب!
أثر المسلسل لم يقتصر على مصر. دول الخليج كان لبعضها تحفظات على عرض الدراما المصرية حينها، وبدأت في إملاء شروط بعيدة عن الفن لعرض الدراما المصرية بشاشاتها!
وبأثر عرض المسلسل، حدثت هجمة بالسعودية تستهدف تحريم اقتناء أطباق الدِش هناك، فصدرت فتاوى مكثفة ومنشورات في مارس 1994 تحرم الدش، وطارد مطوعون مواطنين وأطباقهم، وانتشرت الدعاية التي تحذر من “ويل للعرب من شر قد اقترب”.
ولم يكن التحريم شعبيًا ودينيًا فقط، بل ورسميًا، فقد تداولت الصحف وقتها أخبارًا بصدور قرار 128 بتاريخ 7 مارس 1994 من مجلس الوزراء السعودي بمنع استخدام الدش في استقبال البث التليفزيوني بالمنازل، وتوقيع غرامة على المخالفين تتراوح بين 100: 500 ألف ريال!
معركة الشحاذ.. ماذا خسرنا بتنحية الفن انتصارًا لأبناء شكري مصطفى؟ | عمرو عبد الرازق
بآخر أيام رمضان مع نهاية عرض المسلسل، وقع حادث الاعتداء على دير المحرق بأسيوط ومصرع خمسة رهبان..
الشيخ محمد الغزالي يخطب خطبة عيد الفطر فور انتهاء المسلسل، يهاجم الفنانين رافضًا أن يقوموا بدور وعظي، ويصفهم بأن رصيدهم من الإسلام صفر. يرد نقيب الفنانين حينها حمدي غيث على الغزالي بمقال يفند فيه آراءه، ويرفع خطابًا باسم النقابة يشكوه فيه لرئيس الجمهورية، ملمحًا لدعمه الفكري للتطرف والإرهاب من خلال الهجوم على الفنانين..
عام 1994، حرك وحيد حامد الواقع المصري ومحيطه الإقليمي بعمل فني عميق التأثير، شارك فيه نخبة من عمالقة الفن المصري، أبوا جميعًا إلا أن يقوموا بدورهم الفني والوطني بتوقيت عصيب..
لهذا ولغيره، كان رحيل وحيد حامد مؤلمًا للغاية لمحبيه، ولخصومه الذين طاردتهم أعماله.
لمصر لا لوحيد حامد | إلى أي مدى أوجعهم الراحل؟ وأي مصر يريدون؟ | مينا منير