في أغسطس 2019، سمع مقربون من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقول: “هناك شخصان أعتبرهما مناسبين لقيادة إسرائيل – يوسي كوهين ورون ديرمر”، في إشارة إلى رئيس الموساد وسفير إسرائيل في واشنطن.
لم يكن معتادًا أن يتكهن نتنياهو بشأن خليفته، أو أن يشير لاحتمالية نهاية فترة ولايته. هذه الحقيقة دفعت البعض لتفسير التعليق المسرب، الذي لم ينكره نتنياهو لاحقًا، كرسالة مقصودة إلى أعضاء الكنيست من الليكود بأن نتنياهو لا يرى أيًا من زملائه السياسيين صالحا للمنصب، وأنه يخطط لدعم خلف خارجي عندما يحين الوقت.
لكن آخرين أخذوا التعليق في ظاهره. اختيار يوسي كوهين ورون ديرمر تحديدًا لم يكن عشوائيًا. سببه اختبارهما في الأزمات، وإشرافهما على الركيزتين الأساسيتين لإرث بنيامين نتنياهو: العلاقة الحيوية “المعقدة “مع واشنطن، والحملة التي لا هوادة فيها ضد إيران.
أكثر من أسلافهما، وربما أكثر من خلفائهما، يوسي كوهين ورون ديرمر محترفان في سياستهما، ويتمتعان بثقة رئيس الوزراء، وقادران على قيادة تحركات سياسية جريئة حتى في الأماكن البعيدة والمثيرة للجدل.
اشتهر رون ديرمر بتنسيق خطاب نتنياهو في 2015 أمام الكونجرس لانتقاد اتفاق إيران النووي، رغم مقاومة باراك أوباما. كما كان الحلقة الرئيسية في العلاقة الوثيقة بين نتنياهو ودونالد ترامب.
لكن يعتقد بشكل عام أن ديرمر لا يسعى إلى منصب سياسي بعد انتهاء فترة عمله كسفير.
أما يوسي كوهين فهو رجل عمليات الموساد منذ فترة طويلة، ويعتقد أنه وراء عملية اغتيال رئيس البرنامج النووي الإيراني محسن فخري زاده، ويبدو أنه مستعد لتولي زمام القيادة، ويحظى بمباركة نتنياهو.
مهما قيل في تأثير يوسي كوهين فلن يحتمل شبهة المبالغة. منذ تولى الموساد في 2016، تطور الجهاز بسرعة في الموارد المالية والبشرية، ووسع بنيته التحتية التشغيلية وشارك في بعض أعمال التجسس الأكثر جرأة التي شهدتها المنطقة على الإطلاق.
كما حل محل السلك الدبلوماسي المحترف ووزارة الخارجية في إسرائيل في المسارح الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية، مثل تحالفات إسرائيل مع جيرانها العرب.
بصفته مستشارًا للأمن القومي ثم مديرًا للموساد، لعب كوهين دورًا رئيسيًا في مساعدة نتنياهو على وضع ملفات السياسة الإستراتيجية الأكثر حساسية وأهمية داخل مكتب رئيس الوزراء، وإبعاد المؤسسات المتنافسة، من وزارتي الدفاع إلى الخارجية، خارج دائرة العمل.
الموساد يتفوق على المخابرات الأمريكية في اغتيال محسن فخري زادة| ترجمة في دقائق
بعد وقت قصير من إعلان نتنياهو في 2018 حصول إسرائيل على أرشيف إيران النووي السري، أعلنت وسائل إعلام عبرية أن مصادر مجهولة أكدت لهم أن يوسي كوهين أشرف شخصيًا على العملية الجريئة.
في أبريل 2020، وسط أول إغلاق بسبب كورونا، سُرب للصحافة مجددًا أن الموساد استخدم أصوله الاستراتيجية لجلب المعدات التي تحتاجها إسرائيل لمكافحة الوباء، بما في ذلك أجهزة التنفس الصناعي والأقنعة. وتضاربت التقارير حول كيفية جلب المعدات بالسرقة؟ أم بالشراء بأعلى من قيمتها؟ ولم تتضح الحقيقة لكون الموساد غير خاضع للرقابة والتدقيق.
هذه الميزات – السرية والولاء والتسلسل الهرمي المسؤول أمام رئيس الوزراء – تجعل الموساد الوسيلة المثالية لرجل مثل يوسي كوهين – بتشجيع ودعم نتنياهو – لبناء علامته التجارية وحضوره العام.
كسر يوسي كوهين تقاليد الموساد القديمة في السنوات الأخيرة من خلال الظهور علنًا للتحدث عن تحديات الوكالة، وإجراء مقابلات مع الصحافة، والجلوس في الصف الأول في الأحداث الدبلوماسية، وأحيانًا الابتسام للكاميرات.
هذه الدعاية، إلى جانب دوره الذي يُشار إليه كثيرًا في المفاوضات التي أدت إلى اتفاقيات التطبيع الإسرائيلية الأخيرة، ومدح بنيامين نتنياهو العلني المتكرر له، والتدفق المستمر من التسريبات إلى وسائل الإعلام حول نجاحات الموساد في السنوات الأخيرة، جعلت كوهين إلى حد بعيد أبرز رئيس للجهاز في تاريخه.
إيمان نتنياهو بكوهين أعمق من ولائه الشخصي أو رغبته في اختيار من يخلفه.
ينحدر يوسي كوهين من عائلة صهيونية متدينة يمينية، وهو سليل ثمانية أجيال من المقدسيين، وابن مقاتل في ميليشيا الإيتسل اليمينية قبل قيام إسرائيل، ويشترك في التوجه الثقافي والسياسي الأساسي مع رئيس الوزراء، كما يتفق مع نتنياهو – مثل ديرمر- في توقع حدوث الفوضى القادمة.
ينبع قلق نتنياهو السياسي من تحليله للاتجاهات الإقليمية، وهو يرى أن الشرق الأوسط سيصبح أكثر خطورة وفوضى في السنوات المقبلة حيث يتم تحرير النظام الإيراني من القيود الدولية، مما يجعله يتوغل في العالم العربي المنهك سياسيًا وعسكريًا.
لقد أدى تمرد إيران – وتصميمها على قلب نظام الدولة الوستفالية “الوطنية” في المنطقة – إلى عودة جميع بلدان الشرق الأوسط إلى ولاءات وهويات أقدم وأعمق.
لم يعد من المنطقي أن تكون لديك سياسة معنية بإيران منفصلة عن سياسة لبنان، أو سياسة تجاه العراق تفترض أن الحكومة المركزية في بغداد هي صاحبة القرار في البلاد، حيث باتت المنطقة تنقسم وفق تحالفات أكثر جوهرية، بين الشيعة والسنة، بين المحافظين والإسلاميين.
4 أسرار يجهلها بايدن: إسرائيل لم تعد طفلًا يتلقى تعليمات واشنطن بشان حرب إيران | ترجمة في دقائق
نظرة خاطفة حول الشرق الأوسط تكشف أن النظام الإيراني بقيادة علي خامنئي عابر للحدود، يموّل ويسلّح ويسيطر على الميليشيات في لبنان واليمن وسوريا والعراق، لقد أرسل عملاء لضرب المجتمعات اليهودية في جميع أنحاء العالم، وقضى الجزء الأكبر من السنوات الخمس والعشرين الماضية في محاولة الهروب من قيود معاهدة حظر الانتشار النووي.
لا يقتصر الأمر على أن النظام الإيراني ليس مؤمنًا كبيرًا بقدسية سيادة الدولة، بل إنه يشارك الحركات الإسلامية الأخرى في عقيدة إرشادية تنظر إلى نظام الدولة الحديث، الذي فرضته القوى الأوروبية على الشرق الأوسط منذ قرن مضى، باعتباره قيودًا مسؤولة عن جزء لا بأس به من الضعف والفوضى في بلاد الإسلام.
لقد أصبح الموساد تحت حكم يوسي كوهين أداة استراتيجية كبرى لرئيس وزراء قلق بشأن تهديدات استراتيجية كبيرة للغاية، كما أن مكانته الفريدة في التسلسل الهرمي للحكومة الإسرائيلية تمنحه الاستقلال والمرونة التي تسمح لنتنياهو بممارسة السياسة دون عائق من الخصوم السياسيين أو التدقيق العام.
وقد جعل ذلك كوهين نفسه المهندس الذي لا غنى عنه لحملة نتنياهو البعيدة المدى والمتعددة الطبقات لتعطيل برامج إيران النووية والصاروخية الدقيقة وبناء تحالفات استراتيجية جديدة ضد الفوضى.
نتنياهو لا يرى في كوهين مجرد تلميذ، بل الخبير الاستراتيجي الجريء الذي ستحتاجه إسرائيل للتغلب على الأزمة القادمة بأمان، وتعتبر رعايته له إشارة للاتجاه الذي يعتقد نتنياهو أن الشرق الأوسط يتجه إليه.
اغتيال فخري زاده، إذا كان بالفعل من عمل كوهين، فهو ليس سوى البداية.
اغتيال محسن فخري زادة | لماذا تفشل إيران في حماية رجالها؟ وكيف سترد؟ | س/ج في دقائق