كيف احتفظ “الحاسة السادسة” بعنفوانه كل هذه السنوات؟ | حاتم منصور

كيف احتفظ “الحاسة السادسة” بعنفوانه كل هذه السنوات؟ | حاتم منصور

4 Aug 2019
حاتم منصور
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

يونيو 1999:

أمسك بين يدي أخيرًا عدد الصيف من مجلة أجنبية مختصة بالسينما. أتمعن في قراءة “دليل أفلام صيف 1999”. قائمة طويلة حازت بعض أفلامها مساحات ضخمة، بينما هُمشت أخرى لفقرات لا تتجاوز 100 كلمة.

وسط الأفلام المهمشة يظهر الحاسة السادسة The Sixth Sense مع فقرة توضح أنه فيلم رعب من إم نايت شيمالان؛ المؤلف والمخرج الذي صنع فيلمًا كوميديًا بعنوان Wide Awake في 1998. أبتسم للصدفة لأنني شاهدت الأخير على شريط فيديو قبل قراءة المجلة بيومين فقط، وأتساءل: ما الذي يجعل نجمًا مثل بروس ويليس يتعامل مع مخرج وكاتب متواضع كهذا؟!

أفلام تحدت الزمن | كيف أصبح “المهمة: مستحيلة” من علامات أفلام الأكشن؟ | حاتم منصور

على مدار التسعينيات كلها تقريبًا، كان ويليس يمطرنا بـ 4-5 أفلام سنويًا. النتيجة ممتازة أحيانًا مع أفلام مثل Pulp Fiction – Twelve Monkeys – Die Hard with a Vengeance – The Fifth Element وأحيانًا أقرب لفيلم درجة تالتة. نفس الملاحظة التي كتبها المحرر لتبرير تهميشه للفيلم في قائمته.

لا انتشار بعد للإنترنت، لذا ستتوقف معلوماتي عند هذه الفقرة، قبل أن أشاهد إعلان The Sixth Sense في السينما بعد أسبوع، فتتغير كل الانطباعات الأولى.

إعلان The Sixth Sense

شيء ما يلمسك في الإعلان مع درجة الأتموسفير المهيمنة من اللقطة الأولى، وتركيزه على طفل بدلًا من بروس ويليس، وابتعاده تمامًا عن أجواء الأكشن. لم يكن هذا ما تتوقعه نهائيًا وقتها مع تركيبة (بروس ويليس في فيلم رعب). ما تتوقعه وقتها هو ويليس يطارد أشباحًا أو شياطين بمنجل مثلًا، ليعيدهم إلى بُعد الأشباح، ويفجر البوابة السحرية التي يعبرون منها، وهو يردد سبابًا بذيئًا ساخرًا، سنترجمه في المنطقة العربية إلى: عودوا الى الجحيم يا أبناء الملاعين!

ينتهي الإعلان وأقول لنفسي: حسنًا أيها “الحاسة السادسة”. لقد حصلت على اهتمامي!

أغسطس 1999:

الأخبار في المجلات الفنية تتوالى عن تصدر “الحاسة السادسة” شباك التذاكر الأمريكي، وعن إشادة الجمهور والنقاد في الخارج بالفيلم. في تلك الفترة كانت أعجوبة حقيقية أن يصنع ويليس فيلمًا يروق للنقاد! هذا خبر مقلق جدًا بالنسبة لي وقتها، وقد يكون معناه أن الفيلم عمل ممل لدرجة إرضاء هذه الفئة!

أنجح 10 أفلام رعب في التاريخ |حاتم منصور

أواخر سبتمبر 1999:

الحاسة السادسة يواصل اكتساح شباك التذاكر، ويصبح أنجح فيلم في تاريخ بروس ويليس.

نوفمبر 1999:

الحاسة السادسة يبدأ العرض في مصر أخيرًا (نعم كان من العادي وقتها وجود فارق شهرين أو ثلاثة). فرصتي للمشاهدة تتأخر قليلًا حتى ترتيب موعد سفر، لكنني أفعلها أخيرًا، وأشاهد الفيلم في يوم ممطر عجيب في الإسكندرية. ويالها من تجربة سينمائية فريدة، تركت كل الموجودين في القاعة في حالة ذهول وانتشاء!

باقي المقال يحتوي على حرق للفيلم ولا أنصح بقراءته نهائيًا قبل مشاهدته.

هالي جول أوسمنت في “الحاسة السادسة”.

نظريًا، يبدو “الحاسة السادسة” كفيلم عن الأشباح، لكنه فعليًا ودراميًا ليس كذلك. إنه فيلم عن التغلب على الخوف والصدمات، وعن أهمية تفهم وجهات نظر هؤلاء الذين يخيفونك، أو يرفضونك في البداية، واقامة جسور تفاهم معهم. البطلان وهما الطفل “كول سير”، والطبيب النفسي “مالكولم كرو”، يجسدان هذه الأزمة بشكل مثالي.

والد الطفل غائب منذ بداية الأحداث، ونعرف من حوار سريع أنه ترك زوجته وابنه، وأن هذا ترك جرحا وعقدة ذنب في الطفل. جرح سببه أنه يرى نفسه السبب، باعتباره طفلا مريضا نفسيًا يستحيل التعايش معه، وعقدة ذنب ناحية أمه التي تدفع ثمن هذه المشكلة وحدها بعد مغادرة الأب.

في البدء كانت العدوى.. 10 أفلام رسمت نهاية البشرية بالفيروسات | حاتم منصور

النضج المبكر والإحساس بالوحدة والعزلة عن باقي أقرانه، يدفعان الطفل لمحاولة مقاومة مخاوفه بتجميع أي تذكارات وأيقونات دينية حوله، والهروب من الأشباح التي تطارده. لكن الأهم أنه لا يحاول التواصل بخصوص مشكلته الحقيقية مع أمه، لأن رعبه الأكبر على الإطلاق هو أن تراه كما يراه الباقون؛ طفلًا مضطربًا مريضًا نفسيًا يستحق التجاهل والمغادرة. هذا هو أخطر أشباح الطفولة على الإطلاق؛ أن تكرهك أمك نفسها.

فقط عندما يظهر الطبيب النفسي “مالكولم كرو” يبدأ الطفل في ممارسة الخطوات الأصعب على الإطلاق. أن يسرد لأحد طبيعة مشكلته تفصيليًا، وأن يستجيب لنصائح هذا الطبيب ويتواصل مع عالم الأشباح، لأنهم لا يريدون إيذاءه، بل يرونه كحلقة تربطهم بعالم الأحياء.

نفس الأزمة لدى الطبيب مالكولم كرو (بروس ويليس) لكن بطريقة أخرى. نعرف منذ بداية الفيلم وبفضل علاقته التي انتهت بمأساة مع مريض سابق، وبفضل جزء آخر يُدون فيه تسجيلاته الصوتية، أن رعبه الأكبر على الإطلاق هو أن يعجز من جديد عن مساعدة مريضه. وأنه ضحى بالكثير في حياته الشخصية والزوجية، لينجح فقط في مهامه كطبيب نفسي، لكن كل شيء انتهى بسبب مريض واحد.

في منتصف الفيلم يحاول تغيير منهجه، بترك حالة الطفل الجديد لطبيب آخر، ومحاولة إصلاح زواجه وحياته الشخصية، لكن مسار الأحداث سيعيده كما كان.

الجحيم هو “نحن” في Us | حاتم منصور

الطفل “كول سير” هو القوة الدافعة التي ستغير الطبيب النفسي ليتقبل أخيرًا فشله مع مريضه السابق، ويستوعب فيم أخفق تحديدًا، ويتفهم أيضًا في مشهد النهاية الصادم حقيقة ما وصلت إليه الأمور منذ يوم الحادثة. والطبيب النفسي هو القوة الدافعة التي ستغير هذا الطفل، وتجعله يقاوم رعبه، ويعتاد التواصل مع الأشباح، والأهم أن يتواصل مع أمه ويشرح لها طبيعة مشكلته دون خوف من أن تتركه أو تتجاهله، في مشهد مؤثر جدًا دار داخل سيارة.

من أسرار فيلم الرعب الجيد أن يجعلك تهتم أولًا بالشخصيات. كلما أحببناهم وتعاطفنا معهم أكثر، كلما أصبحت الأخطار التي تهددهم أكثر رعبًا لنا. في هذه الجزئية تحديدًا موطن قوة الفيلم الحقيقي. كل الشخصيات هنا مؤثرة ومثيرة للتعاطف سواء على صعيد النص الذي كتبه شيمالان، أو على صعيد الأداء التمثيلي الذي تألق فيه مثلث الشخصيات الرئيسية (الطبيب/بروس ويليس – الطفل/هالي جول أوسمنت – الأم/توني كوليت).

توني كوليت في لقطة من الفيلم

الشخصيات تبدو حقيقية وتتحدث كشخصيات حقيقية. لا وجود هنا لهذا النوع من الحوارات الكلامية، التي تخرج فيه الشخصيات من إطارها النفسي الواقعي. وعندما يتحرر الطبيب النفسي أخيرًا من شكوكه بخصوص حالة الطفل وقدراته على التواصل مع الأشباح، وتعرف الأم نفس الحقيقة، فإن هذا التغيير يحدث بسبب معطيات وبراهين قوية أمامنا كمتفرجين، تجعلنا نتقبل هذه النقلة للشخصيات من ناحية، ونتأثر أيضًا من ناحية أخرى.

تويست النهاية نجح وقتها وصمد أيضًا حتى الآن في اختبار الزمن؛ لأنه لم يكن خدعة رخيصة ومبتذلة على غرار طوفان من الأفلام الأخرى. التويست هنا لخدمة منظور الأحداث نفسه، وعندما تعيد مشاهدة الفيلم به، ستجد الكثير والكثير خصوصًا من ناحية الطفل، قد أصبح أكثر منطقية.

هل تحققت أسطورة نحس رفعت إسماعيل في مسلسل ما وراء الطبيعة ؟ | حاتم منصور

لا عجب أن هذا التويست تحديدًا ظل ربما التويست الأكثر أيقونية في تاريخ هوليوود، وأصبح أيضًا حجر أساس في الثقافة الشعبية الأمريكية، ومحور تشبيهات ونكات لا تنتهي.

الحاسة السادسة فيلم لا يخلو بالتأكيد من ثغرات وأخطاء، ويمكنك أن ترتدي نظارة الناقد الناقم لاصطياد بعضها بخصوص منطق عالم الأشباح، أو تسلسل بعض المعلومات، لكنه يظل حتى الآن ضمن التجارب السينمائية التي يصعب نسيانها، خصوصًا في ذلك العصر الذي لم يكن فيه الإنترنت قد انتشر بعد، ولم يكن متاحًا فيه لأي أحمق أن ينسف متعة مفاجأة لمئات أو آلاف، بكتابة سطرين على السوشيال ميديا!

السيناريست والمخرج إم نايت شيمالان مع بروس ويليس أثناء التصوير

الفيلم الذي لم يهتم به أحد أوائل العام، وصنعه سيناريست ومخرج مغمور، أصبح لاحقًا ثاني أنجح أفلام 1999 بعد حرب النجوم: تهديد الشبح Star Wars: Episode I – The Phantom Menace.

وفي استثناء لا يحدث عادة لأفلام الرعب، انتزع أيضًا 6 ترشيحات أوسكار كأفضل (فيلم – إخراج – سيناريو أصلي – ممثل مساعد/ هالي جول أوسمنت – ممثلة مساعدة/ توني كوليت – مونتاج).

في عيده الـ 20.. كيف غير “المصارع” هوليوود للأبد؟ | حاتم منصور

أو ربما لا يجوز للدرجة تصنيفه كفيلم رعب بالأساس. هذا فيلم عن مخاوف معتادة ومفهومة لأغلبنا كبشر، وأشباحه مجرد إطار لسرد قصته الإنسانية، لهذا سيصمد غالبًا في اختبار الزمن بعد 50 و100 عام من الآن.

20 معلومة طريفة عن “الحاسة السادسة” في عيد ميلاده الـ20

في أغسطس 1999 بدأ عرض فيلم "الحاسة السادسة" في الولايات المتحدة، وسط توقعات خافتة للفيلم على ضوء المستوى المتذبذب لبطله …

Posted by ‎دقائق‎ on Wednesday, August 7, 2019

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك