أود الحديث معك لفترة أطول لكني أنتظر صديقًا قديمًا على العشاء.
العبارة السابقة الشهيرة التي تنتهي بها أحداث فيلم صمت الحملان The Silence of the Lambs على لسان هانيبال ليكتر، صمد تأثيرها المرعب حتى اليوم؛ لأننا نعلم جيدًا ما يقصده كواحد من آكلي لحوم البشر بها.
لكن كأي شيء آخر في هذا الفيلم الفريد يمكننا أن نتساءل عما إذا كان أحد من صناعه توقع وقتها أن تصبح علامة مميزة وخالدة في السينما لهذه الدرجة؟
بدأ عرض صمت الحملان 14 فبراير عام 1991. وتمامًا مثل بطله هانيبال ليكتر، الذي نشاهده في بداية الأحداث هادئًا وحبيسًا في زنزانة، قبل أن نتابع ما سيفعله لاحقًا، شق الفيلم الذي تكلف 19 مليون دولار طريقه بهدوء وثبات يحسد عليه في شباك التذاكر على مدار أشهر، ليحطم كل التوقعات، بإجمالي عالمي قدره 273 مليون دولار.
كما شق طريقه أيضًا ليلة الأوسكار، وتحديدًا في 30 مارس 1992 ليتوج بخمس جوائز كأفضل (فيلم – إخراج – ممثل/ أنتوني هوبكنز – ممثلة/ جودي فوستر – سيناريو مقتبس)، وهي الفروع التي تصنف باعتبارها الجوائز الخمس الرئيسية.
لمن ستبتسم أوسكار 2021 ؟ عشر دلائل وعلامات تساعد على غش الإجابات | حاتم منصور
حتى الآن، يظل صمت الحملان آخر فيلم حصد هذه الفروع الخمسة كلها ضمن قائمة قصيرة تضم فيلمين آخرين فقط. كما يظل فيلم الرعب الوحيد أيضًا الذي حصد جائزة الأوسكار كأفضل فيلم.
باقي أعضاء نادي الخمس أوسكارات الرئيسية
أفلام رعب ترشحت لأوسكار أفضل فيلم
قصة صناعة صمت الحملان أكثر إثارة وغرابة، وعدد مفاجآتها لا يقل عن المفاجآت في أحداث الفيلم.
بوستر الفيلم – غلاف الرواية
أول ظهور لشخصية هانيبال ليكتر في الأدب كانت عام 1981 عندما أصدر المؤلف توماس هاريس رواية التنين الأحمر Red Dragon. حققت نجاحًا متوسطًا، لكنها راقت للمنتج دينو دي لورانتس وللمخرج مايكل مان لتحويلها لفيلم بعنوان صائد البشر Manhunter عام 1986.
وقتها قام بدور هانيبال الممثل براين كوكس، ودارت الأحداث عن المحقق جراهام بيل، الذي ألقى القبض على الطبيب النفسي والقاتل المتسلسل هانيبال ليكتر منذ سنوات، وعليه الآن الاستعانة به لإلقاء القبض على قاتل متسلسل خطير آخر.
فشل Manhunter في اصطياد جمهور لشباك التذاكر، وأصبح هذا الفشل سببًا في تردد المنتجين في تقديم معالجة سينمائية للرواية التالية صمت الحملان، عندما صدرت عام 1988، رغم حماس الممثل والمنتج المعروف جين هاكمان لإنتاج وإخراج فيلم عنها.
عصر هوليوود الذهبي لم يصدأ بعد: 5 مفاهيم مغلوطة (جزء 1) | أمجد جمال | دقائق.نت
اتفق جين هاكمان مع شركة أوريون على تمويل المشروع، وكان مقررًا أن يشارك فيه كممثل أيضًا، إما بدور هانيبال ليكتر أو بدور المحقق جاك كروفورد رئيس البطلة.
لكن عندما راجع نفسه، قرر الانسحاب؛ لأنه شعر أنه قدم سابقًا ما يكفي من أفلام العنف، وبالأخص في حرائق مسيسيبي Mississippi Burning الذي عُرض أواخر عام 1988 في فترة مقاربة جدًا لبداية التحضير لصمت الحملان.
جين هاكمان
رغم أضرار هذا الانسحاب، واصلت شركة أوريون دعمها للفيلم، وتعاقدت مع المخرج جوناثان ديمي لإخراجه، وهو اختيار غير متوقع نهائيًا بالنظر لمسيرته التي تضم بالأساس أفلامًا كوميدية وقتها.
لكن الجزء الأكثر إثارة بالتأكيد يتعلق بأدوار البطولة.
الواضح أن ديمي أراد لدور هانيبال ممثلًا صاحب حضور استثنائي وهيبة فريدة، واختار شون كونري في البداية، لكنه رفض الدور، فبدأ البحث عن بديل.
شون كونري.. لا تقل أبدًا مجرد بوند.. جيمس بوند | حاتم منصور
أرادت شركة أوريون نجوم شباك في نفس وزن كونري لدور هانيبال، وتضمنت تفضيلاتها أسماء ثقيلة مثل (جاك نيكلسون – داستن هوفمان – روبرت دي نيرو – آل باتشينو) لكن دون جدوى.
بينما تواصل ديمي كمخرج مع أسماء متميزة لكنها أقل شهرة، مثل جيرمي أيرونز الذي رفض الدور لأنه كان خارجًا للتو من أداء شخصية سوداوية في فيلمه Reversal of Fortune ولم يود أن يلتصق للأبد بهذه الشخصيات فقط. وروبرت دوفال الذي لا نعرف حتى اليوم هل رفض الدور في النهاية، أم تجاهله جوناثان ديمي لصالح أنتوني هوبكنز.
جيرمي أيرونز
روبرت دوفال
أيًا كان ما حدث، فقد اختار ديمي في النهاية أنتوني هوبكنز، وبرر اختياره لاحقًا بأدائه في فيلم الرجل الفيل The Elephant Man عام 1980.
وهو التبرير الذي جعل هوبكنز يسأله بتعجب: “لكن شخصيتي في الرجل الفيل تخص شخصًا طيبًا”. و رد عليه ديمي قائلًا: “وكذلك هانيبال ليكتر. إنه رجل طيب لكنه محبوس في عقل مختل”.
دستة أفلام حديثة عادت بنا لسحر سينما الأبيض والأسود وتستحق المشاهدة | حاتم منصور
اختيار هوبكنز لم يستقبله منتجو الفيلم بترحاب؛ لأنه كان وقتها غير مشهور نهائيًا وسط الجمهور الأمريكي، وعديم القيمة تسويقيًا. وبدأت الضغوط للبحث عن بديل.
كيف احتفظ إذًا بالدور؟ الاجابة تنقلنا للصفحة التالية مع ترشيحات دور كلاريس ستارلنج (البطلة) وهي صفحة لا تقل إثارة.
أنتوني هوبكنز في صمت الحملان
جودي فوستر كانت ضمن المعجبين برواية صمت الحملان. وعندما علمت أن التحضير قد بدأ لفيلم عنها، تواصلت مع الشركة للقيام بدور البطلة.
راقت لهم الفكرة بالطبع؛ لأنها كانت نجمة، وخارجة للتو من نجاح ساحق بفضل فيلم المتهمة The Accused الذي حصدت عنه الأوسكار كأفضل ممثلة عام 1989 عن دورها كفتاة تعرضت للاغتصاب.
أهم 10 أفلام عن الاغتصاب والتحرش والجرائم الجنسية | حاتم منصور
جوناثان ديمي في المقابل رشح للدور أولًا النجمة ميشيل فايفر، التي تعاون معها سابقًا في فيلمه الكوميدي متزوجة من رجل مافيا Married to the Mob.
لكنها اعتذرت لأنها وجدت صمت الحملان قصة أعنف من اللازم. وفي رواية أخرى، يقال أن السبب الحقيقي كان طلباتها المادية، التي رفضتها الشركة.
ميشيل فايفر
واصل ديمي لاحقًا مفاوضاته مع الشركة بخصوص ترشيح أخريات مثل ميج ريان ونيكول كيدمان للدور، لكن الشركة كانت قد حسمت أمورها، وأرادت النجمة الأثقل وقتها بينهن بكل المعايير، وهي جودي فوستر.
جودي فوستر في صمت الحملان
بفضل هذا الخلاف بين الشركة المنتجة والمخرج جوناثان ديمي، وصلنا للتسوية الذهبية، التي ضمنت لصمت الحملان الثنائي الفني الذي يعتبره ملايين حتى اليوم، أقوى عناصر الفيلم ككل، وأهم ثنائي تمثيلي في آخر عقود.
بنود هذه التسوية بسيطة للغاية. الشركة ستقبل أنتوني هوبكنز رغم أنها لا تراه الأنسب لدور هانيبال، بشرط أن يوافق جوناثان ديمي على جودي فوستر التي لا يراها مناسبة لدور كلاريس. وديمي سيقبل اختيار الشركة لجودي فوستر، بشرط أن لا يعارضه أحد بخصوص اختياره لهوبكنز.
10 اختيارات تمثيلية رفضها الجمهور ثم أثبتت صحتها | حاتم منصور
فاعلية وحيوية هذا الثنائي من أهم عناصر الفيلم، وانتهت بتتويج مستحق لكل منهما بالأوسكار. والـ 4 مشاهد التي يجتمعان فيها تحديدًا، لا تزال موضع دراسة حتى اليوم سواء كتمثيل أو إخراج؛ لأن كل مشهد يتحرك بصريًا بمسار يعكس رغبة الطرفين المتواصلة في انتزاع اعتراف أو معلومة من الطرف الأخر.
نجاح أنتوني هوبكنز تحديدًا في الدور، لم يتحقق بالصدفة.
طبقًا للمخرج فقد اقترح هوبكنز لهانيبال عنصرين قمة في الفاعلية:
1- الإبقاء على العين مفتوحة طوال الوقت، وهي جزئية عرف هوبكنز تأثيرها بفضل صديق قديم كان يعاني من مشكلة في عضلة العين، وتترك دومًا انطباعًا موترًا جدًا لمن حوله بسبب ذلك.
2- ثبات وهدوء نبرات الصوت لدى هانيبال أغلب الوقت، كعنصر يعكس حقيقته كقاتل معقد وبارد وذكي وقاسٍ وصارم ومنطقي لدرجة مرعبة، على طريقة تأثير صوت الكمبيوتر هال في تحفة المخرج ستانلي كوبريك الشهيرة 2001: A Space Odyssey
أضاف جوناثان ديمي تفاصيل أهم، منها مثلًا الأقنعة التي اختارها لهانيبال ليكتر.
بعضها يمنحنا التأثير المرعب المطلوب للشخصية، وبعضها مصمم ليناسب دراميًا مشهدًا محددًا. شاهد مثلًا القناع الخانق هنا، الذي يلخص العلاقة بين هانيبال وشخصية تتلذذ بإذلاله في السجن.
وهنا يمكنك ملاحظة طباع أكثر وحشية لهانيبال مع قناع يجبرنا على التركيز في العين وحدها، ويمنح فكه بصريًا أنيابًا تناسب كلماته القاسية في المشهد.
وهنا بروفات أقنعة أخرى تم رفضها لأنها لم تحقق المطلوب
بفضل أداء هوبكنز وإتقان جوناثان ديمي في تنفيذ هذه المشاهد، خرج هانيبال ليكتر كالرابح الأكبر من فيلم صمت الحملان والشخصية التي تصمد أكثر في الذاكرة.
لهذا لم يكن غريبًا أن تصبح الرواية التالية في السلسلة باسمه وحده مباشرة (هانيبال)، وأن تسعى هوليوود لتنفيذها في فيلم بنفس الاسم عام 2001 أخرجه ريدلي سكوت، وحصد الكثير في شباك التذاكر، لكنه لم يترك نفس التأثير الذي تركه صمت الحملان.
هل خلود الفن معيار لجودته؟ خمس ثغرات لهذه النظرية | أمجد جمال | دقائق.نت
رفضت جودي فوستر العودة في هانيبال لأنها لم تره منصفًا لما أحبته في شخصية كلاريس، واتفق معها المخرج جوناثان ديمي وانسحب بدوره.
لكن الجمهور ظل مهتمًا بشخصية هانيبال، وهو ما كفل لها أفلامًا أخرى، بالإضافة إلى مسلسل ناجح بدأ عرضه عام 2013 وقام ببطولته مادس ميكلسن.
مؤخرًا، بدأ أيضا عرض مسلسل جديد عن كلاريس ستارلنج، ولا يزال في مرحلة التقييم من حيث درجة النجاح.
تأثير صمت الحملان سينمائيًا لم يتوقف عند هذا الحد، بعد أن حطم الفيلم عددًا لا بأس به من الثوابت:
1- أصبح أول فيلم رعب يحصد الأوسكار كأفضل فيلم، لينهي النظرة الدونية لهذه النوعية، ووصمها الدائم بالرخص.
أنجح 10 أفلام رعب في التاريخ |حاتم منصور
2- حصد جوائز الأوسكار الرئيسية رغم الفاصل الزمني الكبير بين بداية عرضه، وحفل الأوسكار التالي (فبراير 1991 – مارس 1992) ليحطم نظرية مضمونها أن الفاصل الزمني الطويل كفيل بالنسيان، وبالقضاء على فرص أي فيلم مهم في موسم الأوسكار.
3- أثبت أن قولبة مخرجي ومؤلفي الكوميديا في هذه النوعية فقط أمر خطأ؛ لأنه كان أول تجربة مهمة بعيدة عن الكوميديا والأجواء الخفيفة في مسيرة مخرجه الراحل جوناثان ديمي.
لكل مخرج عرّابه ومريدوه.. خمس”رومانسيات” بين عظماء الإخراج | أمجد جمال
4- أثبت أن الفشل التجاري لأي فيلم مقتبس من رواية أو سلسلة أدبية، لا يعني بالضرورة فشل أي فيلم تالٍ مقتبس عنها، بعد أن حقق أمجادًا مقارنة بفيلم صائد البشر Manhunter الذي سبقه اقتباسًا من نفس سلسلة الروايات.
قبل صمت الحملان لم يحقق عالم القتلة المتسلسلين نجاحات كثيرة في شباك التذاكر، وخلق الفيلم هوسًا بهذا العالم، ليس فقط على المستوى السينمائي، وهو ما يمكن أن نلاحظه في أفلام بعده مثل سبعة Seven أو المختل الأمريكي American Psycho ، لكن على المستوى الثقافي عامة.
آخر الأعمال المهمة هي مسلسل نتفليكس صائد العقول Mindhunter الذي زار فيه المخرج ديفيد فينشر، أبرز القصص والشخصيات الحقيقية الإجرامية في هذا العالم.
القتلة المتسلسلون .. الجنس يحدد كيفية ارتكاب الجريمة | الحكاية في دقائق
من الناحية الجماهيرية، صمت الحملان واحد من أهم تجليات هوليوود في العقود الأخيرة، ووجوده لحظة كتابة هذه السطور في المركز 23 ضمن قائمة موقع IMDB التصويتية الشهيرة لأعظم الأفلام في تاريخ السينما، شهادة تكفي لإثبات صمود جماهيريته.
لكن الأغرب من كل ما سبق ربما، أن صمت الحملان عمل يستحيل إنتاجه اليوم في هوليوود، وذلك لسببين بالأساس:
أولهما: الاعتراضات النسوية التي ستوصم الفيلم باعتباره تشجيعًا للعنف ضد المرأة. ومن المضحك بالمناسبة أن ينال فيلم تحقق بطلته الأنثى انتصارًا وسط عالم شرس من الذكور وتنقذ فتاة غيرها، اتهامات من هذا النوع، ومن نفس الفريق النسوي الذي يحاضرنا طوال الوقت عن حجم العنف الذي تتعرض له المرأة في كل المجتمعات، وضرورة التركيز على هذه القضية.
كيف أصبحت الأجندة النسوية المعاصرة في هوليوود منفرة؟ | حاتم منصور
وثانيهمًا: اعتراضات الصوابية السياسية، التي ستوصم الفيلم باعتباره تحريضًا ضد المثليين جنسيًا، وأصحاب الهوية الجنسية المضطربة، على ضوء اختيار الطبيعة النفسية والدوافع للمجرم الشرير في الفيلم.
لقطة من صمت الحملان
تعرض صمت الحملان وقت عرضه للتهمتين. وبسبب الثانية ربما قرر جوناثان ديمي أن يكون فيلمه التالي مباشرة عام 1993 هو فيلادلفيا Philadelphia الذي دارت أحداثه في إطار من التعاطف مع البطل مثلي الجنس، الذي تفصله شركته بعد إصابته بالإيدز، فيقاضيها بسبب القرار.
لا جين بعينه مسؤولا عن المثلية الجنسية.. لكنها ليست القصة الكاملة! | س/ج في دقائق
لكن أوائل التسعينيات، لم تكن قيود النسوية والصوابية السياسية بنفس سخافاتها وحدتها اليوم، ولم تكن ثقافة الإلغاء هي المهيمنة.
ولم يكن تويتر موجودًا كمنصة يمكن أن تنهي مستقبلك المهني، بناءً على أوامر مراهقين ومراهقات لا يجدون شيئًا آخر يشغل وقتهم!
ثقافة الإلغاء | اليسار خارج السلطة يمارس هوايته في القمع | تعريفات في دقائق
باختصار، لم يكن صمت الحملان مشروعًا سينمائيًا من النوع الذي يقال عنه في غرف اجتماعات المنتجين “مشروعًا مرفوضًا وسيعرضنا لاتهامات لا تنتهي”.
ولهذا وحده ربما سنظل دومًا نملك حنينا لا ينتهي لهذه العقود، التي لم تبال فيها السينما بهراء ومزايدات لا محل لها من الاعراب.
موضوعات متعلقة
نسخة للطباعة
