سينما المقولات المأثورة.. هل نحتفي بوحيد حامد للسبب الخطأ؟ | أمجد جمال

سينما المقولات المأثورة.. هل نحتفي بوحيد حامد للسبب الخطأ؟ | أمجد جمال

3 Jan 2021

أمجد جمال

ناقد فني

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

يزعجني اختزال الإنجاز الإبداعي لوحيد حامد في اعتباره الكاتب العرّاف، أو صاحب النبوءات المتحققة، أو بأنه الكاتب الذي تحولت جمل أفلامه لمقولات مأثورة في القاموس الشعبي، وكأن ذلك ما يجعل الكاتب عظيمًا في عيون جمهوره الذي أنتمي له. لكن تلك من أكثر السمات التي لا أحبها في أعماله ولا أحب أن يُحتفى به عبرها.

مثلًا، لم أصدق يومًا أن شخصية انتهازية مثل فتحي نوفل المحامي في طيور الظلام قد تصدر منه جمل رومانسية بعمق “البلد دي اللي يشوفها من فوق غير اللي يشوفها من تحت”. ولا أتخيل راقصة شعبية متوسطة التعليم والفكر كسونيا سليم في الراقصة والسياسي تخرج بمقاربة فكرية من عيار: “أنا بهز وسطي وأرقص وانت بتلعب لسانك وتخطب بس الفرق إن رقصك مالوش جمهور… إلخ”.

الأسوأ من مظاهر تأبين الراحل وحيد حامد على السوشال ميديا بتلك الطريقة الساذجة، أن بعض المقولات المأثورة المستشهد بها لم يقلها حامد من الأصل ولم تُنطق بأفلامه مثل مقولة: “لما الناس بتموت الحياة بتستمر، بس لما الناس بتبعد الحياة بتقف” باعتبار أنها قيلت في فيلم الغول.

أو مقولة “البلد مش هيتصلح حالها غير لو مسك وزارة الصحة واحد عيان ومسك وزارة العدل واحد مظلوم” باعتبار إنها قيلت في فيلم معالي الوزير.

بالطبع كان وحيد حامد لقمة سائغة لصفحات فيسبوك الصفراء التي ترتزق بترويج ما أسميه “مقولات التوك توك” على ألسنة الكتاب العظماء، لكننا مشاركين في تلك الحالة لأن معظمنا مقصّر في إبراز جماليات الكتابة السينمائية بعيدا عن ثقافة المقولات “الحراقة”،

والحقيقة أن جماليات السيناريو لا تقف عند هذه الأمور ولا تبدأ من عندها حتى. بل وفي معظم الأحيان تكون تلك الجُمل الحراقة عبئًا على النصوص السينمائية تفرمل بلاغتها الحسية بفجاجة التصريح والخطابة. وفي أحيان أخرى لا تعبر تلك المقولات عن الكاتب بل عن الشخصية.

أفلام إبراهيم عيسى | وقد اعترف المتهم أنه صاحب رأي وموقف من الحياة | أمجد جمال

الإرهاب والكباب.. أقيم منتج سينمائي مصري

أعتبر الإرهاب والكباب من أقيم ما قدمت السينما المصرية في تاريخها. رغم ذلك الإعجاب فأقل مشهد أفضله في الفيلم هو حين يجلس البطل على الكرسي ويخبرنا قصة معاناته فيقول “مش عايز أتهان في بيتي ولا في الشارع”. أظن أننا عرفنا ذلك دون أن يقوله.

لكن ماذا عن بقية جماليات تلك القصة السينمائية الرائعة؟ لو اعتبرنا صفحة النص السينمائي تنقسم لنصفين، اليمين خاص بالصورة والحركة واليسار خاص بالكلام. فكم من كاتب ظلمناه أو اختزلناه بالتركيز على النصف الأيسر وأهملنا النصف الأيمن؟

في الإرهاب والكباب مثلًا ماذا عن المشهد الأخير حين يذوب البطل ورفاقه بين جموع الناس ويخرج جميعهم في سلام مع تبادل بعض نظرات الشك والسخرية مع وزير الداخلية، دون كلمة حوار واحدة أو مونولوجات عميقة.

ماذا عن الدلالة السياسية في جعل موظف المجمع مدحت لا يرضى بقضاء حاجته سوى في حمامات الوزارات السيادية أو جامعة الدول العربية؟

ماذا عن قصة المجند هلال الذي تلبّسه شعور الظلم لدرجة تجعله عاجز عن ذكر أي شيء يخص اللواء عرعر دون أن يسبقه بألقاب التبجيل حتى وهو في لحظة تمرده: “أنا في خدمة الباشا سيادة اللوا وحرم الباشا سيادة اللوا والعيال الباشوات ولاد سيادة اللوا”، رغم أنها ليست مقولة مأثورة ولن تجد من يستشهد بها على غرار بقية العبارات إياها، لكنها عبقرية على كل المستويات لأنها تخترق العقل الباطن للشخصية وتكشف عنه بطرافة وفكاهة.

قراءة واقع وليس تنجيمًا

وحيد حامد مثقف قرأ مفردات الواقع المصري وتوقع الوصول لنقاط حتمية تحققت بالفعل.

لم يفعل ذلك بالتنجيم، بل وفق تحليل وسببية واضحة. وهو كاتب عظيم، ليس لأنه مرر جُمل رنانة أذكى من ألسنة أبطاله في كثير من الأحيان – وهذا يؤخذ عليه – لكنه عظيم لأنه أكثر كاتب سينمائي جاء بأفكار مصرية أصيلة وعالجها بدراما تشبه حالنا المتأزم وتسرب الكثير مما بين السطور عن التكوين النفسي والقيمي للشخصية المصرية.

فعلها مستخدما الواقعية والمجازية وحتى الديستوبيا تجدها حاضرة بأعماله.

هذا يتجلى بشكل خاص في سلسلة أفلامه مع عادل إمام والمخرج شريف عرفة في التسعينات وهي ذروة التوهج في مسيرته كقصاص وإن سبقها جذور وإرهاصات، قدم حامد في قصصه الأصلية أبطالا يجمعهم خيط مشترك، الاختباء في الكهف الآمن وعدم الانفعال مع مخاطر ومآسي العالم، والاعتقاد بأن الخطر غير موجود لمجرد أنه لم يصبهم بعد.

يوسف في المنسي فاته قطار الحب والزواج لأنه يتطلب بعض المخاطرة وتحمل الخسائر فاكتفى بعيش الحب في خيالاته ومضاجعة أجمل الجميلات في منامه، حتى جاءه العالم الذي يهرب منه ليدق بابه مرة وليكسر بابه في المرة الثانية فيمزق جسده تمزيقا.

أحمد في الإرهاب والكباب ظن أنه قد ينجو من قسوة البيروقراطية فقط لو تعايش معها بلين وكان مواطنًا ملتزمًا بالقانون وخاضعًا للمنظومة، لكن يكتشف أن المشي جنب الحيط كان مجرد تأجيل للمواجهة الحتمية.

حسن بهلول في اللعب مع الكبار لم تبدأ ثورته ويقينه بأن الخطر الذي يتعامل معه أكبر مما كان يظن إلا عندما اقترب الخطر منه شخصيا وقُتل صديق عمره علي الزهار، ونرى هذه الفكرة متجلية في انفعالات عادل إمام الغاضبة وهو يخاطب الناس عبر التليفونات بشكل عشوائي ويخبرهم بأن علي مات مندهشًا من عدم اكتراثهم، فعلي وما كان يواجهه لا يمثل بالنسبة لهم شيئا طالما الخطر بعيد.

عادل إمام – يوسف معاطي .. 4 اتهامات مردود عليها في محطة الزعيم المظلومة | أمجد جمال

الخطر يطول الجميع

كذلك مهمة العميد مجدي في “النوم في العسل” تحولت من حيز مهني بحت لقضية شخصية فقط حين وصل الخطر لغرفة نوم مجدي، وأيقن أن الخطر كبير فعلًا ولا هروب منه؛ لأنه لا يفرق بين من في السلطة ومن في الشعب.

نفس ما تعلمه فتحي نوفل وعلي الزناتي في نهاية طيور الظلام، ظنًا أنهما من الناجين لمجرد انتمائهم لكيانات سياسية نافذة وخاب هذا الظن، لأن الخطر يهدد الجميع ولا سبيل للالتفاف عليه حتى بالنوم في حضن السلطة.

تلك كانت السمة المسيطرة على كتابات وحيد حامد وأظن أن إرهاصاتها بدأت مع أعماله البكر، في “الإنسان يعيش مرة واحدة” هناك حالة هروب من المواجهة تتمثل في شخصيتي بكري الصعيدي والدكتورة أمل،

حالة هروب وانعزال أخرى كان يعيشها البطل الأديب عزت هلال في “أنا وانت وساعات السفر” وهي شخصية تشبه في سماتها عادل في “الغول”، مع الفارق أن عادل يقرر الانفجار مع نهاية الغول لكن عزت يستمر في الهروب.

هذا الهروب لم يكن دائما بالمعنى السياسي والاجتماعي، فهو أحيانا عاطفي. لكن بشكل عام الهروب بتعدد أشكاله هو أكتر صفة كرهها حامد في الشخصية المصرية، ولا عجب أن شخصيته كانت النقيض حيث عُرف بمعاركه وجرأته وتحديه للجميع في سبيل فنه.

ليس كل ما كتبه وحيد حامد تحفا فنية، لكن لا يوجد من ينافسه في كم التحف الذي قدمه.

وأرى أن أفضل تأبين لروحه هو نشر ثقافة القصة السينمائية بمعناها الحقيقي وبعيدًا عن ثقافة التوك توك، ليفهم الناس أن ما يجعل السيناريو عظيما ليس وفرة الاقتباسات.


 

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك