باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
في مفاجأة تحمل تناقضات في المواقف، وغرابة في التوقيت، وسرعة في الإجراءات، اتخذت تركيا قراًرا بتحويل متحف آيا صوفيا في إسطنبول إلى مسجد.
أيا صوفيا في الأصل كانت الكنيسة الرئيسية للمسيحية الشرقية الأرثوذكسية، ومقر حكم الدولة البيزنطية، قبل أن يحولها العثمانيون في عهد محمد الفاتح إلى مسجد، ويحولها مصطفى كمال أتاتورك إلى متحف بعد إنهاء الخلافة العثمانية.
الأول: أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان قد أعلن سابقًا أنه لا ينوي تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، مبررًا موقفه بـ “الحساسيات الدينية” بين المسلمين والمسيحيين، وما قد يترتب على قرار مماثل من اعتداءات على المساجد في الغرب، لا سيما وأنت تركيا ليست بحاجة لمساجد.
الثاني: سرعة اتخاذ القرار من إظهار وثائق “مفبركة” تدعي شراء السلطان العثماني محمد الفاتح للكنيسة، ثم سرعة البت القضائي في الأمر، وسرعة اتخاذ الإجراءات اللازمة للتنفيذ.
الثالث: عدم جدوى القرار سياحيًا واقتصاديًا بالنسبة لتركيا؛ حيث أن بقاء آيا صوفيا متحفًا أفضل سياحيًا من قرار يحوله إلى مسجد قد يدفع دول أوروبا والكنائس المسيحية بتوجيه رعاياها لمقاطعة أنقرة سياحيًا.
الوضع الحالي لدولة لتركيا فيما يخص الحدود البرية والبحرية ناتج عن معاهدة لوزان 1923، التي وقعها مصطفى كمال أتاتورك، في تعديل لمعاهدة سيفر التي كانت تعطي لتركيا أراضي وحدودا أقل مع سيادة منقوصة.
ما لا يقوله أنصار أردوغان من العثمانيين الجدد أن الاتفاقية كانت تعتبر انجازًا وانتصارًا لأتاتورك، وخروجًا من وضع مهين فُرض على تركيا بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى. في أدبيات الإسلاميين، يعتبرونها تنازلًا وانبطاحًا من أتاتورك “العلماني الخائن اليهودي عدو الإسلام مسقط دولة الخلافة”.
ومع وصول الإسلاميين بقيادة أردوغان إلى السلطة في تركيا، لم يخفوا أطماعهم في استعادة الأراضي التي سيطرت عليها الدولة العثمانية، لكنها تراوحت بين الإخفاء حينًا والإظهار أحيانًا. وإن كانت ظهرت صريحة في تصريحات عن حدود تركيا “الفعلية والقلبية” التي تتجاوز مساحتها الحالية”
والأثر الأبرز الآخر لمعاهدة لوزان كان اتفاقية تقسيم الحدود البحرية (مصر – اليونان – قبرص) والتي أظهرت محدودية المياه الإقليمية التركية بسبب الجزر القريبة من الساحل التركي، والتي حصلت عليها اليونان بموجب المعاهدة، وكذلك استقلال قبرص وخروجها عن سيادة تركيا.
الوضع القانوني للاتفاقية مع رفض تركيا الحالية لها هو السبب في كل ما سمعته عن ظلم معاهدة لوزان ونهايتها بمرور قرن على توقيعها؛ أي في 2023، رغم عدم النص على تحديد المعاهدة بـ 100 سنة في الاتفاقية.
في هذا السياق، يمكن فهم قرار تركيا بتغيير وضع آيا صوفيا إلى مسجد كتمهيد لتنصل تركيا من التزاماتها السابقة تجاه الغرب، بداية من آيا صوفيا الذي حوله أتاتورك متحف بعد اتفاقية لوزان.
حين كان عمدة إسطنبول، ألقى أردوغان قصيدة جاءت فيها تلك الكلمات: “المآذن رماحنا. وقبابها خوذاتنا. والمساجد ثكناتنا. والمؤمنون جنودنا”.. القصيدة تسببت حينها في سجنه وحظره من العمل السياسي. الآن، وبعدما صار رئيسًا، كرر أردوغان القصيدة.
الكلمات تعبر عن عقلية الإسلاميين ونظرتهم للمساجد كأدوات حربية عسكرية، وهو الأمر المترسخ فعلًا في عقل أردوغان.
مؤخرًا، أطلق أردوغان الدعوة لقراءة سورة الفتح في المساجد التركية، مع تكبيرات الفتح الشبيهة بصلاة العيد، بينما أقامت المليشيات الداعمة صلاة الفتح في المدن التي دخلوها. وصلاة الفتح صلاة إسلامية قديمة كانت يؤديها المسلمون بعد الانتصار ودخول البلدان.
من هنا يمكن الربط بين رمزية آيا صوفيا ودخول القسطنطينية كآخر الفتوحات الإسلامية الكبرى.
نحن هنا أمام عمل دعائي يجيش عاطفة المسلمين في العالم باستعادة زمن الفتوحات، كما يظهر بوضوح في وصف القرار باعتباره نصرًا مبينًا مع إعلان أردوغان في حسابه بالعربي عبر تويتر بأن القرار مقدمة لتحرير الأقصى.
أيا صوفيا بالعربي VS أيا صوفيا بالإنجليزي.. باللغة العربية اعتبر #إردوغان أن تحويل كنيسة أيا صوفيا التاريخية إلى مسجد على يد الأتراك مقدمة لتحرير "#المسجد_الأقصى"، الذي لا يزال مسجدا، من اليهود. أما بالإنجليزية فقد خاطب جمهوره بأن "أبواب آيا صوفيا ستكون، مفتوحة للجميع. pic.twitter.com/2iLVpkEPa4
— دقائق (@daqaeqnet) July 11, 2020
عودة آيا صوفيا لدائرة الضوء وبؤرة الاهتمام بسبب جدل تحويله، وما تبعه من استقطاب ديني، سيجعل من خطب الجمعة فيه محط اهتمام ومتابعة من العالم الإسلامي عبر الميديا التركية الناطقة بعدة لغات. بما يسمح ببساطة باستخدام الخطب الأسبوعية لشحن المسلمين في صف مواقف تركيا في حروبها الإقليمية.
لذا، لم يكن غريبًا أن تظهر حملات إلكترونية تطالب أردوغان بالخطبة وإمامة الصلاة في افتتاح آيا صوفيا.
حديث أردوغان الذي أشرنا إليه سابقًا عن تبعات تحويل آيا صوفيا إلى مسجد يعني أنه يدرك جيدًا التبعات المتوقعة للقرار الجديد، واحتمالات الشحن الإسلامي المسيحي. وهو ما يريده بالضبط.
بدرك أردوغان أن موقفه ضعيف قانونيًا على الأقل في صراعاته الإقليمية المتوسعة، وأن دول أوروبا والناتو لن تدعمه في صراع مماثل. فقرر أن يلقي بالورقة الأخيرة بتحويل الصراع إلى حرب دينية بين الإسلام و”الصليبية”.
تعبير الصليبية هنا ورد على لسان أردوغان ورجاله في أكثر من مناسبة مؤخرًا، في وصف مواقف الدول الأوروبية في بعض القضايا المتعلقة بالأقليات، والجاليات الإسلامية، والهجرة غير الشرعية.
قرار مثل تحويل آيا صوفيا يعني إضافة زخم جديد لأردوغان كبطل إسلامي في مواجهة الغرب بين المسلمين غير الناطقين بالعربية، بما لا يصعب معه إدراج الصراعات في الشرق الأوسط في الدعاية العثمانية الموجهة إليهم باعتبارها حربا إسلامية في مواجهة الصليبية.
الدول الوطنية في الشرق الأوسط عقبة في وجه طموح أردوغان الإقليمي، لهذا تحتل صدارة الدعاية التركية الموجهة إعلاميًا وسياسيًا.
ترويج معارك تركيا في الشرق الأوسط باعتبارها حربا إسلامية مسيحية سيخدم الصورة السلبية التي تروجها تركيا عن تلك الدول أمام غير الناطقين بالعربية؛ باعتبارهم خونة للمسلمين.
لاحظ مثلًا الحرب في ليبيا، حيث تركيز إعلام العثمانيين الجدد على الحرب التي تخوضها تركيا ضد روسيا خصوصًا، بينما مصر في دعايتهم مجرد تابع ومنفذ لأجندة غربية، تنحاز لها ضد تركيا المسلمة.