بذرة التطرف الصانعة لشجرة الإرهاب والتخلف العربي تتشكل من محاولات إقناع المسلم بأنه بلا قدرة على التصرف في حياته بحرية، وليس من حقه اختيار ما يراه أنسب وأصلح لحياته بنفسه، وأن دوره محصور في الالتزام بتعاليم الدين بلا نقاش. من هنا تأتي بذرة التطرف، كون حاملها أصبح منزوع العقل، مسلوب الإرادة، لا يتحرك إلا بنص ديني مهما كان هذا النص مزيفًا أو فاسدًا!
المؤسف أن الوقوع في هذا الفخ لم يعد حكرًا على ضعاف الشخصية الذين يخشون استخدام عقولهم وحرياتهم، ويُفضّلون وصفة سريعة وجاهزة ومختصرة للحياة دون عناء التفكير وعبء حرية التصرف. جميعنا أكثر عرضة للوقوع في الفخ نفسه تحت تأثير الدعاية المتطرفة المسيطرة علي الخطاب الديني، الذي يصعب علي المسلم العادي تفكيكه ونقده للأسف.
ورغم كون الدين علاقة شخصية بين المرء وربه، تعمل الجماعات الدينية على تحويل “التدين الشخصي” إلي “تدين سياسي عام”، عبر نظريات ابتدعوها تشمل “شمولية الإسلام” و”الحاكمية” و”الجاهلية” و”الخلافة” وتطبيق “الشريعة”، وشعارات “الإسلام هو الحل”، وكلها نظريات تكرس فكرة العقل النصي.
ملخص تلك النظريات أن اختيار طريقة الحديث والسلوك، والتصرف اليومي التلقائي، وحتى قصات الشعر والملابس محكومة بنص، والدخول في علاقات مع أصحاب الأديان والمذاهب والطوائف الأخرى محكوم بنص. الرسم والنحت والسينما والموسيقى ووسائل الترفيه والتسلية محكمة بنص، ومناصرة نظام سياسي أو اقتصادي عبادة منصوص عليها في الكتالوج الإلهي المطلوب أن نتقرب إلي الله بالالتزام به، انطلاقًا من فرضية أن الإسلام يحتوي علي وثيقة شمولية جاهزة ومنغلقة ونهائية من الأحكام والتشريعات التي تغطي جميع النوازل والأحداث الإنسانية من العرش إلي الفرش!
ترويج هذا المنطق يعتمد على أن الله قد خلقنا من أجل غاية واحدة فقط، وهي عبادته، وأن تلك العبادة تتطلب منا الالتزام بالمنهج الذي وضعه لنا لتحقيق تلك العبادة، بافتراض أن خالق الإنسان شرع له منهجًا ونظامًا شاملًا ما عليه بعده إلا خلع عقله واستبدال هذا المنهج الجاهز سلفًا به!
الفكرة في الظاهر تبدو لطيفة، ولا يمكن أن يُشتم منها رائحة التطرف. فما أجمل أن يكون الإسلام شاملًا لكل تفاصيل الحياة! لكن المؤسف أن جوهر تلك الفكرة خطير جدًا؛ لأنها تقوم في أساسها علي تهميش “عقلك”، وتعطيل “حريتك”، مقابل انصياعك لـ “نصوص” قادمة من كتب التراث لفرضها علي حياتك بلا نقاش عقلي حر، ومن ثمَّ فرض تلك النصوص التراثية علي واقعنا وحياتنا يستلزم إزاحة كل النظم الحديثة الأخرى في جميع المجالات، ويستلزم أيضًا قعود الإنسان عن القيام بأي دور إبداعي في نظام حياته الذي يحتاج دومًا للتطور، ويستلزم كذلك فقدان القدرة علي تمييز ما في تلك النصوص من بذور الكراهية أو العنف أو الإرهاب؛ بحجة انطلاقها من نصوص دينية مقدسة لا يجوز مناقشتها من الأصل!
يظن البعض أن تلك النظريات الدينية وليدة أفكار سيد قطب أو أبو الأعلى المودودي أو حسن البنا أو حتى ابن تيمية، لكن الحقيقة أن هؤلاء لم يفعلوا أكثر من إعادة صياغة وتنسيق وتنظيم تلك النظريات ذات الجذور الفقهية والكلامية السابقة عليهم.
في كتابه “الرسالة”.. يقول الشافعي:
وفي كتابه “الأم”، يقول في تعليقه علي آية “أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى”:
ليس الشافعي ولا أئمة المذاهب الفقهية وحدهم من عملوا على سلب حرية تصرف المسلم في حياته بهذا المنطق، فأئمة المذاهب الكلامية والعقائدية من الأشاعرة والحنابلة أيضًا وضعوا الأساس النظري لذلك بالتنظير لتهميش عقل المسلم تمامًا بمقولة “تقديم النقل علي العقل”؛ انطلاقًا من كون معرفة الصواب والخطأ في الحياة أمور ليست من اختصاص العقل معرفتها، وإنما من اختصاص النص الديني وحده!، ففي كتابه “الاقتصاد في الاعتقاد” صفحة “80” يقول أبو حامد الغزالي: “إن العقل لا يرشد إلى النافع والضار من الأعمال”. وفي كتابه “الإرشاد إلى قواطع الأدلة” يقول عبد الملك الجويني: “العقل لا يدل على حسن شيء ولا قبحه، وإنما يتلقى التحسين والتقبيح من موارد الشرع”.
المطلوب إذن من المسلم كي يضع قدمه على أول طريق الإرهاب، ألا يتحرك في الحياة بشكل طبيعي وتلقائي وإنساني وعقلاني، وإنما من خلال النص الديني فقط، حتى يصبح سهلًا بعد ذلك وضع مختلف النصوص الدينية المؤسسة للتطرف والإرهاب في رأسه، فلا يستطيع الاعتراض عليها أو مناقشتها لقناعته بأنها نصوص مقدسة لا يحق له إلا الإذعان لها مهما كانت خطورة تلك النصوص في دعوتها للكراهية والتطرف.
أقسام التوحيد عند ابن تيمية.. مفتاح تكفير المسلمين | عبد السميع جميل
البنا وقطب والقرضاوي ثالثهما.. 5 معالم لمؤسس فقه عصور التحول | هاني عمارة