بعد ماراثون استمر لشهر تقريبًا، وصلنا لمحطة النهاية بخصوص كأس العالم 2022. لكن كالعادة ستصمد مواقف وقضايا محددة من مونديال قطر في الذاكرة أكثر من غيرها، وتتركنا بتساؤلات مهمة، ومنها مثلًا:
بحصاد تضمن 172 هدفًا (الأعلى في التاريخ بفارق هدف واحد عن مونديال فرنسا 1998 والبرازيل 2014)، وبمعدل تهديفي وصل 2.68 هدف لكل مباراة، وبمسار تنافسي ساخن للغاية في أدوار خروج المغلوب، تضمن أكبر عدد من مباريات اللعب لوقت إضافي واللجوء لركلات الترجيح، وبمباراة نهائية شرسة وساخنة للغاية بين الأرجنتين وفرنسا، يمكن القول أن مونديال قطر هو واحد من أمتع المونديالات في التاريخ.
كيف مررت قطر رشوة كأس العالم؟ كشف جديد بالوثائق. ومعلومات تنشر لأول مرة | س/ج في دقائق
معطيات عديدة تصلح للتفسير، على رأسها أن هذا المونديال هو الأول الذي يبتعد عن الموعد الصيفي المعتاد، ويجنح لموعد شتوي يواكب منتصف الموسم بالنسبة للمحترفين.
الإرهاق الأقل إذن للاعبين قبل بدء المونديال، قد يكون السبب الأكثر منطقية لتقديمهم أفضل ما لديهم، وهو ما يدفعنا للتساؤل: هل يمكن تثبيت الموعد مستقبلًا في المونديالات القادمة، أم أن الصيف سيظل الاختيار المفضل للفيفا، باعتباره مرتبط بإجازات الطلاب والعائلات، وبالتالي الأفضل من حيث كم المتابعة والمشاهدات والعائدات الإعلانية وخلافه؟
تكلفة استضافة كأس العالم في قطر وصلت لـ 220 مليار دولار، طبقًا لأقل التقديرات، بينما تؤكد جهات لها موثوقيتها في المجال ومنها مثلًا الإيكونوميست، أن الرقم الحقيقي يتجاوز الـ 300 مليار.
في المقابل، من المرجح أن العائدات لم تتجاوز 10 مليارات في أفضل الحالات.
من الرابح الأكبر إذن في هذه المعادلة؟
الحقيقة أنه الغرب بالأساس؛ حيث الجهات والشركات التي تولت بناء وتجهيز البنية التحتية والملاعب وشبكات المواصلات وخلافه لقطر، وحيث الخبرات البشرية واللوجستية اللازمة.
كأس العالم قطر 2022 | المكاسب والخسائر و”حديث الرشاوى”.. هل أهدرت قطر 300 مليار دولار؟
إقامة المونديال في أي بلد آخر، لم تكن ستوفر هذا الكم من فرص العمل والمكاسب للغرب والشركات العالمية.
رغم ذلك يصمم كثيرون في منطقتنا العربية وإعلامنا حتى اليوم، على قراءة وتحليل إقامة المونديال في قطر، باعتباره هزيمة نكراء للعالم الغربي، ودرس من العرب لهم!
لا أحد يكره أن يحقق مونديال قطر مكاسب أكبر على المدى البعيد، بفضل الدعاية والسياحة وخلافه، وأن تخرج من من التجربة بخبرات بشرية أفضل في مختلف المجالات. لكن تحليل الحدث إعلاميًا، باعتباره إنجازًا حضاريًا قطريًا عربيًا حصريًا، أقرب ما يكون للإدعاء أن راكب السيارة هو صانعها ومصممها.
تنقلنا مهازل الإعلام العربي الشعبوية، وقراءات “الغرب ضد الشرق” لنقطة أخرى.
الحدث: بدء مونديال قطر.
الوهم على السوشيال ميديا: إسلام ألاف الأجانب والزوار خلال أول يوم من المونديال.
الحدث: فوز السعودية على الأرجنتين.
تحليل أبو تريكة للنتيجة على قنوات بين سبورت: علم لا إله إلا الله يرفرف عاليًا.
الحدث: مباراة منتظرة بين المغرب وفرنسا.
عنوان هاشتاج: #نشجع_المغرب_ونهتف_للرسول
دين قطر: لماذا حولت الدوحة كأس العالم 2022 إلى “مونديال ذاكر نايك”؟ | دقائق
ما سبق مجرد عينات للهوس الديني المسيطر على العقل العربي، ومن حسن الحظ أن أغلب العالم تجاوز هذه المرحلة، وأنه لا يوجد خطاب معاكس مماثل منتشر يتضمن مثلًا:
نجح منتخب المغرب في الوصول للمربع الذهبي، في إنجاز لم يسبقه إليه أي منتخب عربي، والمثير هنا أن كثيرين من لاعبي هذا المنتخب وُلدوا أو عاشوا كمهاجرين في أوروبا، ونالوا فرصتهم مبكرًا في الأندية هناك منذ سن المراهقة.
هذه معادلة أخرى تثبت أن الاستفادة من تجارب الغرب وخبراته ومناهجه، والانفتاح على حضارته، هما أول مفتاح للتحسن في أى مجال.
وتثبت أيضًا أن الغرب، أكثر ترحيبًا بالمهاجرين وأبنائهم، وأن المنظومة هناك لم تقصهم من الفرص. يمكننا هنا أن نسأل أنفسنا مثلًا على سبيل المقارنة بخصوص الإقصاء والتعصب: كم مرة شاهدنا لاعبًا مسيحيًا في فريق مصري على مدار آخر ربع قرن؟ وهو سؤال يستحق التوجيه لدول أخرى.
دستور 1923 | كيف حلت مصر إشكاليات الهوية – المواطنة – الحريات قبل 100 عام؟ | مينا منير
رغم ما سبق، وكعادتنا في الشرق الأوسط بسبب الشعبوية وموجات الكراهية للغرب، ذات الطابع الإسلامجي اليساري، أصبح الدرس المستفاد الذي يقدمه لنا الإعلام من نجاح منتخب المغرب هو استنتاجات من عينة: نحن أفضل وأرقى من الغرب – علمناهم فنون الكرة كعرب كما علمناهم في ألف مجال قبلها – الرجل الأبيض العنصري الشرير يتلقى صفعة كروية قاسية.. إلخ من التصريحات الطفولية العجيبة.
إذا تجاوزنا كرة القدم فالصورة الأكبر واضحة. المسألة باختصار امتداد نفسي وفكري لشعوب تكره الغرب وما يمثله، وتتوهم أن النجاح يمكن أن يتحقق بإنغلاق تام على نفسها، وبأفكار إسلامجية واشتراكية بائسة، لم تحقق أبدًا أي نجاحات عمليًا.
تمنح فرنسا وغيرها الجنسية للمهاجرين العرب والأفارقة، وينالون الفرص في الرياضة أو غيرها بفضل ذلك، فتصبح التهمة: أوروبا الاستغلالية التي تعيش على مجهودات وكفاح أبناء غيرها.
يناقش اليمين في أوروبا وضع قيود أكبر على الهجرة والإقامة وشروط منح الجنسية، فتصبح التهمة: ها هو الرجل الأبيض العنصري القذر يظهر على حقيقته.
ماكرون “نصف اليساري” في مهمة لإنقاذ العالم من “الوعي” اليسار-إسلامي | ترجمة في دقائق
لا أحد يعلم ما نريده من المجتمعات الغربية بالضبط، لكننا في جميع الحالات سنهاجمهم، ونصنف أنفسنا كالنموذج الأفضل والأرقى، والأقل احتياجاً لأى تغييرات سلوكية وأخلاقية!
حسمت ألاعيب التكنولوجيا ومستشعرات الحركة الجديدة، الموجودة في كرة المونديال، العديد من المواقف المثيرة للجدل كرويًا عادة، ومنها مثلا:
اللعبة التي جاء منها هدف لليابان وتسببت في خروج ألمانيا، وكانت محور شك في خروج الكرة من الملعب.
واللعبة التي جاء منها هدف ميسي الثالث في مباراة النهائي أمام فرنسا وكانت محور شك في وجود تسلل.
كأى شىء آخر تتطور كرة القدم مع التكنولوجيا، والسؤال المنطقي ربما الآن: في أى مونديال مستقبلي، سيختفي تمامًا حامل الراية والحكم؟
على صعيد آخر يصمم البعض في بلادنا، على وصم أى تحديث في الكرة أو غيرها، باعتباره نقلة للأسوأ، ربما لأن العقلية السلفية مهيمنة، وتحكم منظورنا للعالم في كل شىء دون أن ندري.
الأداء الذي قدمه لاعب مثل لوكا مودريتش وعمره 37 سنة في المونديال، بالإضافة للاعبين آخرين بمتوسط 35 سنة، وحقيقة أن أغلب المباريات التي امتدت لوقت اضافي، لم تشهد خفوت في مستوى اللياقة البدنية كما كان يحدث عادة سابقًا، معطيات تدفعنا للتساؤل:
هل نحن على مشارف استمرارية أكبر للنجوم في الملاعب، بفضل النمط الغذائي الصحي، والبرامج التدريبية الحديثة، وتراكم العلوم والمعارف الطبية؟
وكيف تستقبل العقلية المتدينة، حبيسة أفكار بركة الدعاء وسر السجدة.. الخ، كل ما سبق من تغييرات وضوابط عادة؟