لماذا لا يوجد فيلم عظيم واحد وسط أفلام حرب أكتوبر في السينما المصرية؟
السؤال يتردد منذ عقود وعقود في دولة ضمن أقدم دول العالم في صناعة السينما. وكعادتنا في الحفظ والتلقين، اعتدنا دومًا على سماع إجابات ثابتة أصبحت بمرور الوقت ضمن المسلمات غير قابلة للنقاش أو إعادة التفكير، وعلى رأسها الاجابة رقم 1: (الإمكانيات).
هذه الإجابة قد لا تخلو من صحة كليًا. لكنها كسولة بعض الشيء، وتطرح مقارنة مع نوعية سينما حربية واحدة منتشرة في هوليوود، تميزها الضخامة الإنتاجية، حيث الانفجارات الجبارة، والمجاميع العملاقة، ومشاهد المخاطرات، والخدع البصرية، وخلافه.
لماذا أصبح 1917 التجربة السينمائية الأهم في موسم أوسكار 2020؟ | ريفيو | حاتم منصور
لكن في الحقيقة، قدمت السينما العالمية أفلامًا عظيمة عن الحروب، لا تميزها صفة الضخامة الإنتاجية نهائيًا، ولا مشاهد المعارك، بقدر ما يميزها أبجديات السينما: القصة المكتوبة بإتقان، ومصداقية الشخصيات، والتسلسل الدرامي الفعال، والأداء التمثيلي المقنع، والثراء الفكري والفلسفي، وغيرها من العناصر التي غابت للأسف عن أعمال السينما المصرية عن حرب أكتوبر.
يذكر آخرون التعنت الرقابي بخصوص أي مشروع يتناول حرب أكتوبر من زوايا تثير حساسيات، وهي نقطة لا تخلو من صحة أيضًا، لكن العادة جرت على تضخيم تأثيرها بشكل مبالغ فيه.
بين الممر و أغنية على الممر.. بطولة نادية الجندي وخيانة نور الشريف..تقييم 10 أفلام حرب| أمجد جمال
يضيف البعض ملاحظة وإجابة ثالثة مهينة بعض الشيء، مضمونها أن السينما المصرية هزيلة بشكل عام، وأن حرب اكتوبر نالها ما نال غيرها من السطحية والافتعال، لا أكثر وأقل.
لكن بعيدًا عن الإجابات الثلاثة الروتينية المحفوظة السابقة التي قُتلت بحثًا، هناك 3 أسباب أخرى رئيسية لاخفاق السينما المصرية في هذا الملف:
السينما المؤثرة يصنعها فنان تحركه قضية. ومن الوارد بالطبع أن يحتاج لمساندة ودعم من جهات غير سينمائية في فيلم حربي. لكن من الصعب أن تصنع سينما جيدة بطريقة الأوبريتات الوطنية السنوية والتكليفات. ما ستصنعه في هذه الحالة غالبًا سيصبح أقرب لواجب منزلي، يستنسخه كل تلميذ دون ابداع أو احساس.
ارتبط الانتصار في حرب أكتوبر بالرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، الرجل كان ولا يزال مكروهًا في المجمل من التيارات الإسلامية التي سيطرت على الوعى العام خلال العقود الماضية، ومكروهًا أيضًا بنفس الدرجة من التيارات اليسارية المهيمنة على صناعة السينما. وهي تركيبة توارثها لاحقًا الرئيس المصري التالي حسني مبارك، قائد القوات الجوية وقت حرب أكتوبر.
لذا، وبدلًا من صناعة أفلام عن حرب أكتوبر أو الاهتمام بها، مال صناع السينما أصحاب الميول الناصرية والاشتراكية واليسارية لتقديم إطار مزيف بائس مشابه لكتابات المؤرخ محمد حسنين هيكل، حيث يخرج جمال عبد الناصر منتصرًا من نكسة 67 التي فقدنا فيها سيناء، ويخرج السادات مهزومًا من عبور 73 الذي أعاد سيناء!
جمال عبد الناصر و5 دروس من نكسة يونيو لم نتعلمها حتى اليوم | حاتم منصور
مسألة يمكن ملاحظتها من قائمة أعمال طويلة سارت على النهج التالي: مات من يستحق الحياة مضحيًا من أجل بلده في 73 ليجني الخونه والانتهازيين واللصوص ثمار النصر في عصر الانفتاح.
أفلام شهيرة بهذا النهج: المواطن مصرى – كتيبة الاعدام – سواق الاتوبيس.
رغم كل هذه العقود منذ حرب أكتوبر لا نزال أسرى لفكرة سينمائية واحدة رئيسية بخصوصها: هذا الشعب العظيم يمكنه دومًا أن ينهض من كبوته وهزيمته، ليصنع انتصارات وأمجاد ضد العدو الصهيوني.
هذه الفكرة يمكن تفهم وجودها؛ لأنها جزء من تراث السينما الحربية عالميًا، وقت الحروب والصراعات. لكن اختزال الأمر في هذا الجانب منذ أفلام حرب أكتوبر في السبعينيات، التي صُنعت بعد الحرب مباشرة مثل الرصاصة لا تزال في جيبي، حتى أفلام العصر الحاضر مثل الممر، مسألة تعكس درجة من الفقر والتجمد الذهني بخصوص الحرب مع إسرائيل، وهي حالة يعاني منها المجتمع المصري والعربي ككل، وليس صناع السينما وحدهم.
40 عامًا من معاهدة السلام.. ماذا واجه السادات؟ وماذا جنت لمصر؟ | س/ج في دقائق
المقارنة مع أفلام مجتمعات أجنبية مرت بحروب مثل الحرب العالمية الأولى والثانية، تعكس الفارق.
في فترة أوائل الأربعينيات خلال الحرب، كانت كل سينما مشغولة بالحشد ضد عدوها، وبتقديم الحرب باعتبارها شرف بطولي لأي مجند. النموذج الأشهر هنا قد يكون فيلم الرقيب يورك Sergeant York الذي قدمته هوليوود عام 1941 عن بطولات جندي أمريكي أثناء الحرب العالمية الأولى.
خلال العقود التالية، مرت كل هذه المجتمعات بتطور وتغييرات، لدرجة أصبح معها السائد حاليًا أفلام لا تمجد الحروب ولا تطالب بالمزيد منها. بل وأحيانًا أفلام تدين حروبًا بعينها، وعلى رأسها حرب فيتنام وحرب العراق. بالإضافة طبعًا لنظرة إنسانية أعمق للعدو في هذه الحروب، باعتباره لا يمثل نهائيًا الشيطان المطلق في المعادلة.
كيف انتفضت هوليوود من تحت أنقاض 11 سبتمبر؟ | حاتم منصور
باختصار يوجد تنوع في المنظور الفكري، وتغير وتطور مستمر في القناعات، انعكس على فناني السينما وأفلامهم.
النقيض لا يزال السائد هنا، في سينما تنظر إلى حرب أكتوبر باعتبارها حدثًا ينبغي استنساخه، وتحرص على تقديم الإسرائيلي في صورة كاريكاتيرية باعتباره شخصا شريرا منفرا شكلًا ومضمونًا، يستحق السحق بلا رحمة.
وبالطبع، لا تتردد هذه السينما في مغازلة الجمهور من المنطلق الديني، حتى وإن تطلب ذلك تدمير أي منطق سردي في الأحداث، ولنا في مشاهد الجدل الديني المبتذلة في فيلم الممر بين الظابط المصري المسلم ونظيره الإسرائيلي اليهودي أثناء صراعهما، نموذج لسينما تقدم مضمونًا لا يختلف كثيرًا عما تروج له التيارات الدينية.
فيلم “الممر”.. شريف عرفة وضع الفن في كفة والذخيرة في الكفة الأخرى | أمجد جمال
يحلو للفنانين في مصر التحجج بأن السلطات المصرية لا تسمح بأعمال تنتقد المؤسسة العسكرية، أو تحميلها مسؤولية هزيمة 1967 وأن هذا ضمن أسباب ابتعاد السينما المصرية عن حرب أكتوبر والصراع العربي الإسرائيلي ككل.
لكن في المقابل، يمكننا أن نتساءل أيضًا عن نوعية الضغوط واتهامات الخيانة والعمالة التي سيوجهها مجتمع الفن والمثقفين قبل غيره، ضد أي مخرج أو فنان يقرر تقديم فيلم متعلق بصحة خطوة السلام مع إسرائيل، أو يجرؤ على تقديم الإسرائيلي في صورة أخرى إنسانية، مغايرة لصورة الشرير المطلق الكاريكاتيري التي اعتدناها.
محمد منير – محمد رمضان – ياسمين صبري | أسطورة النجوم الذين لم يعودوا كذلك | حاتم منصور
والإجابة يسهل معرفتها إذا تأملنا ما تعرض له أي مفكر أو كاتب مصري، ساند قضايا السلام والتطبيع في العقود الأخيرة.
الأفلام المصرية بخصوص أكتوبر ليست حبيسة السائد من حيث المضمون والفكر بسبب السلطات وحدها إذًا، بقدر ما هي كذلك بسبب وعى مصري وعربي عام لا يزال حبيس الستينيات، ومشغول بفكرة “إلقاء الإسرائيلين في البحر”.