حرب الملحنين | من يحكم الأغنية المصرية؟ نحن في زمن عزيز الشافعي | أمجد جمال 

حرب الملحنين | من يحكم الأغنية المصرية؟ نحن في زمن عزيز الشافعي | أمجد جمال 

5 May 2022

أمجد جمال

ناقد فني

مصر
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

النار تشتعل في كواليس صناعة الأغنية من تيار موسيقى البوب، وبالتحديد فئة الملحنين. حيث وصل بعض أفراد تلك الفئة لحالة غير مسبوقة من التراشق. وتوزعت أرض المعركة على الفضائيات ومنشورات السوشال ميديا. 

غيرة الموسيقيين من بعضهم ليست ظاهرة جديدة؛ تلاسنات قديمة جربت بين محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش حول الاقتباسات اللحنية وأيهما تأثر بالآخر. بخلاف تلمحيات حول غيرة بين رياض السنباطي وبليغ حمدي على خلفية صعود الأخير للتلحين لكوكب الشرق، ليكسر احتكار الأول لصوتها على مدار عقد كامل. وبعدما أحدث بليغ نقلة في مسيرة أم كلثوم، أدلى السنباطي بتصريحات صحفية بها  استخفاف بأعمال الست مع “الملحنين الجُدد”. وتسبب هذا في مشكلة.

لكن تلك المشاحنات لم تصل أبدًا للحدة والخروج عن النص الذي نواقعه الآن بين ملحني عصرنا. 

فمتى بدأت الحرب؟ 

قد يظن البعض أن اللقاء الأخير للملحن عمرو مصطفى، الذي فتح فيه النار على الجميع هو السبب في إشعال الأزمة. 

وسيذهب آخرون للمنشور الذي كتبه الملحن نفسه منذ أشهر، مفسرًا بلهجة حادة صعود أغاني المهرجانات والراب، لا بجودتها الفنية، بل بانحدار أعمال زملائه من تيار البوب. وهي رؤية لا تخلو من وجاهة، لكن عابها أنه استثنى نفسه من الانحدار.

راجع أنجح أغاني البوب في الخمس سنوات الماضية لن تجد الكثير منها من ألحان عمرو مصطفى كما كان الحال في العقد الأول من الألفية مثلًا. 

لذا كان طبيعيًا أن يقابل المنشور بهجوم مضاد من زملائه، وأبرزهم على الساحة الآن عزيز الشافعي الذي ترجح مؤشرات السوق صعوده اللافت ليحل محل عمرو مصطفى.. الرجل الأول في جيش عمرو دياب، أو الذي كان، قبل أن يرث عزيز المكانة، ويحدث نقلة واضحة في مشوار الهضبة، بدأت بـ “يوم تلات” في صيف ٢٠١٩، ومرت بأماكن السهر حتى “أنت الحظ” و”اللي بينا حياة”.

وهي نقلة أشبه نوعيًا بالنقلة التي أحدثها بليغ مع الست. وأشبه كذلك في الصدى النقدي والانقسام الذي أحدثته، بين يعتبرونها تطورًا ومواكبة للتحديث، ومن يعتبرونها تراجعًا و”شخلعة” وخروجًا عن الوقار. سنفند هذا الادعاء لاحقًا.

معركة “ملحن الهضبة”

العركة باختصار، وفي كل عصر، أن الملحن الذي يحتل الثقة الأكبر عند المطرب الأول، يصبح بالتبعية الملحن الأول، ويتهافت الجميع للتعاون معه.

عزيز الشافعي لم يكتف بما فعله مع الهضبة، أعاد روبي بعد غياب ووضعها في “حتة تانية”، الأغنية التي اكتسحت اليوتيوب منذ عام.

وساهم في شدّ المسيرة المترهلة لرامي صبري بالأغنية الهيت “حياتي مش تمام”، وأعاد بهاء سلطان من العدم بصاروخ من طراز “تعالى أدلعك”.

أضف لذلك هيتات أخرى أعادت تشكيل مطربين وحققت انتشارًا ملموسًا في المدة الزمنية نفسها: الساعة اتنين بالليل لسميرة سعيد، زيها مين لمحمد حماقي، نجمة معدية لواما، حالة خاصة جدًا لأنغام، خليك فولاذي لتامر حسني، حنيت للبيت لمدحت صالح، يا ساتر لنانسي عجرم .. وغيرها. 

الأعمال تتحدث عن نفسها. فيما اختار عزيز الشافعي أن يقود ثورة تصحيح للأغنية المصرية تجعلها تنافس الموجات الشابة الجديدة، وتقربها أكثر من مزاج الشارع. اكتفى عمرو مصطفى بأن يكون “ميم” على السوشال ميديا، ويعيش على إنجازات الماضي،

فآخر أغنية “ضاربة” لمصطفى كانت “يتعلموا” الذي مر على طرحها خمس سنوات،

وخلال الفترة نفسها صدرت له عديد من الأغنيات والإعلانات التجارية وتترات المسلسلات التي لم تحقق نفس نجاحاته القديمة.

بل وأصدر ألبومًا غنائيًا كاملًا بصوته وألحانه بعنوان “لعبت مع الأسد” ولم تنجح منه أغنية واحدة، رغم استعانته بموزعين عالميين أبرزهم الهندي الحائز على الأوسكار والجرامي إيه أر رحمان. 

3 دقات.. أزمة الصناع

نعود لسبب الأزمة الحقيقي، في تفسيري، وهو أقدم من ذلك قليلًا. ويرجع بالدقة لسبتمبر ٢٠١٧. قنبلة نووية انفجرت اسمها “٣ دقات”. وهي أغنية البوب الأنجح على الإطلاق في العشر سنوات الأخيرة. وتسبب انتشارها الجنوني في عقدة لأفراد الصناعة، من أصغرهم لأكبرهم. 

العقدة ليست بأن هناك أغنية نجحت. هذا يحدث دائمًا. لكن لأنها جاءت من خارج مطبخ الصناعة المعتاد. فقلبت الموازين ووضعت حراس المهنة القدامى في موقف محرج. 

ورغم ضعف صوت المؤدي؛ لأنه في الأصل ملحن، نجحت الأغنية بشكل صارخ. هنا أدرك الوسط الموسيقي بأن أزمة موسيقى البوب ليست أزمة مطربين، ولا أزمة منافسة مع نوعيات أخرى، ولا أزمة تكرار لمواضيع الحب كما يروّج الكسالى. بل هي أزمة صناع، “شبعوا” أو تم استهلاكهم، وآن أوان تجديد الدماء. 

وهذا ما كان يفعله عمرو دياب في كل وقت. عمرو مصطفى نفسه كان جزءًا من مرحلة أوجدها الهضبة في مطلع الألفية مع شريف تاج ومحمد رحيم وخالد عز، لينهوا بالتدريج مرحلة رياض الهمشري وحجاج عبد الرحمن ومصطفى كامل وخليل مصطفى. 

عزيز الشافعي كان الرجل الأنسب للنقلة الجديدة، لسبب وجيه، فهو الوحيد الذي يضع ساقًا في أرض البوب، وساقًا أخرى في أرض الأغنية الشعبية بشكلها الحديث.

فأغانيه مع مصطفى حجاج “يا بتاع النعناع”، و”خطوة” تشهد على ملحن يملك دكتوراة في المزاج المصري المعاصر.

وكانت رؤية عمرو دياب واضحة في اختياره، بمساعدة الشاعر تامر حسين. والرؤية ببساطة: هذا ليس عصر اللاتين والهاوس والريجاتون، ولا أعني أنه عصر المقسوم بالضرورة، والدليل ألحان لعزيز على غرار “زي مانتي” و”حالة خاصة جدًا” من ألمع أغنياته، نجحا بدون المقسوم وبغياب الحالة الشرقية الخالصة! 

بكلمات أخرى، هذا ليس عصر “الستايل”، كما كانوا يسمونه. فالقالب الموسيقي للأغنية أو أسلوب توزيعها لم يعد بالأمر الأهم كما كان في سنوات الألفية الأولى. الآن تكمن أهمية الأغنية في الأغنية نفسها، بتفاصيلها النغمية ومفرداتها الشعرية.

العبرة دائمًا بالمقامات

هناك رأي شائع بأن عزيز الشافعي يحكم الساحة الموسيقية الآن لأنه عاد لمدرسة التلحين القديمة وصار يلحن “أغاني شرقي” بعد ملل الجماهير من “الغربي” وهرولتهم نحو المهرجانات.

هذا الرأي يحتاج لبعض التدقيق، فبتحليل ألحان عزيز الشافعي الأخيرة سيصعب وصفها بالأغاني الشرقية البحتة، والعبرة دائمًا بالمقامات، وآخر أغنية لحنها عزيز من مقام شرقي أصيل (يحتوي على الربع تون) كانت “يا منعنع” (٢٠١٥) ثم “خطوة” (٢٠١٨) لمصطفى حجاج، أي قبل الفترة التي نستهدفها. والأغنيتان من مقام البياتي. 

أما لاحقًا، فكل أغانيه الناجحة مع نجوم البوب خلال النقلة الأخيرة توزعت بين النهاوند والكرد، نفس المقامات الشائعة بالأغاني المصرية المعتادة، وهي مقامات (نص تون)، أي شرقية وغربية بالتقائها مع سلم المينور.

فلحّن من مقام الكرد: يوم تلات – قدام مرايتها – سهران – أنت الحظ – زيها مين .. ومن النهاوند: حياتي مش تمام – أماكن السهر – تعالى أدلعك – الجمال عدى الكلام. 

إذن، عزيز الشافعي لم يأت بمقامات شرقية بحتة، أو مختلفة عما استهلكه عمرو مصطفى في العشرين عامًا الأخيرة؛ لأن العامل الأهم في نجاح ألحانه يعود إلى المزاج والموهبة والثقافة والطزاجة، تلك الأمور تظهر في تفاصيل بسيطة لكنها فارقة. 

فمثلًا في “أماكن السهر” التي لحنها على نهاوند الدو، نجده يمر بنغمة سي بيكار هبوطًا، وتحديدًا في جملة “أنا قمري طلع واتشهر – الموج يهدأ ويختشي”.

نظريًا، النغمة لا تنتمي لهذا المقام بشكله المنتشر في الأغاني المصرية، ويستخدم بدلًا منها نغمة السي بيمول، فتعطينا ما يسمى بالنهاوند الكُردي، وهو النهاوند المعتمد مصريًا.

لكن عزيز الشافعي طبق القاعدة القديمة التي يتجاهلها معظم الملحنين الآن، وهو أن سلم نهاوند الدو يختلف في صعوده (سي بيمول) عن نزوله (سي بيكار). هذه فكرة لا تحتاج لربع تون، لكن تحتاج إما لثقافة، أو لإحساس شرقي دفين. 

فما استخدمه عزيز الشافعي هنا هو النهاوند الأصلي أو ما يعرف بالنهاوند الحجازي، جنس أصله نهاوند وفرعه حجاز. لذلك تشعر أن هاتين الجملتين تحديدًا غارقتان في السلطنة والأصالة والتفرد عن السائد. عزيز كرر الفكرة نفسها في تعالى أدلعك مع بهاء سلطان.

بجانب تفاصيل صغيرة كتلك، عزيز يتميز في تكنيك اللحن لا نغماته وحسب.

فلعله الوحيد في جيله – مع خالد عز- الذي يستخدم آلة العود للتلحين، أو تحفيظ اللحن. فيما سارت موضة التلحين عند ملحنين جيل الألفية بالجيتار الإسباني. ونظريًا من حق الملحن ألا يستعين بأي آلة من الأساس ويخترع ألحانه “بقيقي” أو بالتطبيل على الترابيزات. لكن عمليًا، هناك تميز لملحن يستخدم العود في عرض اللحن على مطرب. 

فالعود آلة تتميز بتفصيلها للنغمات، وتحتوي على السلالم الشرقية والغربية، بينما الجيتار بالطريقة المستخدمة حاليًا أي بالعزف على “كوردات” chords فهو آلة مساعدة للحن، وليست مفسرة له، هذا مجرد هارموني أو تآلفات من عدة نغمات تبروز اللحن،

لكن اللحن في تلك الحالة سيعتمد فقط على الأداء الصوتي للملحن، ولو كان الصوت نشازا لضاعت كثير من تفاصيل اللحن، في عصر اتفقنا أن الأغنية بتفاصيلها النغمية باتت أهم من التوزيع أو القالب الموسيقي. 

جوع “عزيز”

العامل الأخير، أن عزيز لديه جوع وشغف واضح لتحقيق نجاحات وبناء اسمه بعدما تأخرت نجوميته كثيرًا في هذا المجال، حيث لم يبدأ بنفس البداية القوية لعمرو مصطفى أو رحيم أو تامر علي أو محمد يحيى. وجاءته الفرصة أخيرًا لتعويض ما فاته، بعد أن أثقل موهبته بقدر لا بأس به من الثقافة والتعلم والسماع.

على الجانب الآخر، تجد عمرو مصطفى في حواراته الأخيرة أكثر اهتمامًا بالأمور المادية. حتى لو لجأ إلى الفصال على ثمن لحن قديم باعه لمطرب، ثم ندم على “التسعيرة” بعد مرور عشرين سنة من “البيعة”، راغبًا المزيد من التربّح بأثر رجعي، وبعيدًا حتى عن قوانين حقوق الأداء العلني.

والملاحظ أنه في العام الأخير فضّل بيع ثمانية من ألحانه لإعلانات تجارية بدلًا من بيعها لمطربين كما اعتاد، والسبب معروف: من سيدفع له أكثر بطبيعة الحال، السلعة التجارية تدفع الضعف، وهذا حق مشروع له بالطبع. لكن هكذا صار يفكر، وهكذا خاصمه الإلهام والوحي الموسيقي.

ختامًا، لا شك أن عمرو مصطفى صنع تاريخًا مبهرًا من الأغنيات على مدار عقدين من العمل، وأظن التاريخ سيضع اسمه بحروف من نور بجوار عمالقة هذا الفن. لكننا، وبكل موضوعية، نعيش الآن عصر عزيز الشافعي.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك