باحث بجامعة لوزان - سويسرا
قبل وفاته ببضعة أشهر، أصدر جمال عبد الناصر أحد أخطر القرارات التي لم تنل حقها من الدراسة للأسف. في 27 أبريل 1970 (قبل وفاته بخمسة أشهر) أصدر عبد الناصر قرارًا جمهوريًا تشكيل “اللجنة الثلاثية” المكونة من سكرتير رئيس الجمهورية للمعلومات سامي شرف (أي مدير أجهزة المخابرات حينها)، وزير الداخلية شعراوي جمعة ووزير الحربية محمد فوزي.
بهذا القانون يتحول نشاط أعضاء ما عُرف بـ “مراكز القوى” من تنسيق في الظلام يمكن إنكاره في العلن، إلى كيان رسمي مسؤول بموجب هذا القانون عن “التأمين الداخلي والخارجي” لتصبح مصر “رسميًا” في قبضة مراكز القوى التي تسيطر على المخابرات، والجيش ووازرة الداخلية، وستنضم لاحقًا تحت لواء نائب رئيس الجمهورية علي صبري لتتحول إلى “اللجنة المركزية” التي أُريِد لها أن تحكم مصر.
وبهذا القرار، تحولت أجهزة الدولة الأمنية إلى أدوات تسجيل ومراقبة، كسيف ليس فقط على رقاب المصريين بل على رقبة رئيس الجمهورية نفسه. لكن لمصلحة من؟
في ذكرى هذا القرار وما تلاه من أحداث مايو 1971، أتناول ما نعرفه اليوم من الوثائق المنشورة عن تلك الحقبة الخطيرة من تاريخ مصر، إيمانًا بحق القارئ المصري أن يعرف إلى أين كانت تسير مصر وهول ما كان يحاك لها في تلك المرحلة الخطيرة التي نعيش آثارها إلى اليوم.
تقرير سري| كيف اعترف جمال عبد الناصر بفشل الاشتراكية في خطاب التنحي!! | مينا منير
بعد اغتيال السادات، نشر المؤرخ العسكري اللواء جمال حماد، كاتب أول بيان لثورة يوليو وأحد أهم أعضائها، 10 مقالات في مجلة أكتوبر يتناول فيها قضية مراكز القوى ومحاكمات مايو 1971.
اللواء حماد مؤرخ رصين، يكتب بقلمٍ منضبط يستطيع سرد المعلومات الأساسية والتعليق عليها بشكل ضنّ وجوده في الكتاب العربي. فلما تعرض لهذه القضية نشر بالتفصيل أخطر جوانبها، وهو الاتهام الموجه للسيد سامي شرف بالتجسس لصالح السوفييت.
ملف السويس | أسرار محاولة انقلاب الإخوان على عبد الناصر بتدبير بريطانيا | (2/3) | مينا منير
يطرح حماد اقتباسات من كتاب بارون عن سامي شرف يسرد فيها أن ضابط الحالة الذي جند شرف، ويدعى فاديم كيربيشنكو، نجح في اصطياده نظرًا لكونه ليس من ضباط الصف الأول بالثورة، غير معروف، لكن طموحه، وقناعاته أوحت لهم أنه الأفضل ليكون عين الكي جي بي على كل المعلومات التي تدخل مكتب جمال عبد الناصر وتخرج منه.
ويستمر السر حتى يصل حماد إلى المادة الخاصة بتحقيقات مايو 1971، والتي يظهر فيها اتهام سامي شرف رأسًا بالتعامل المباشر مع السوفييت، وصولًا إلى التسجيلات التي تؤكد تواصله غير المصرح به مع رجال السفارة.
وعليه، يصل حماد إلى أن تركيبة مراكز القوى كان مرادًا منها أن تصير مخلب السوفييت وقبضتها على صناعة القرار في مصر.
أشرف مروان من الزاوية الأخرى: كتاب إسرائيليون يؤكدون أنه خدع إسرائيل خدعة كبرى
حينما بلغ سامي شرف أمر المقالات، وقد خرج لتوه من السجن، استشاط غضبًا، ورفع قضية على حماد ومجلة أكتوبر، استمرت في المحاكم لخمس سنوات حتى 1989، وانتهت بانتزاع حماد لواحد من أخطر الأحكام التي بُنيت على رصانته وقدرته في طرح المعلومات، الأمر الذي لم يترك للقاضي مساحة لاتهامه بأنه يعبر عن آراء مرسلة يمكن مقاضاته على إثرها بالسب أو الادعاء الباطل.
وعليه، فقد خرج لحماد كتاب كبير ومفصل عن كل جوانب مراكز القوى بعنوان “الحكومة الخفية في عهد عبد الناصر.”
انتظر سامي شرف عقودًا حتى خرج عمله الضخم المؤلف من خمسة مجلدات بعنوان “سنوات مع عبد الناصر”، بعد 2013، ليرد على تلك “المزاعم” في نهاية مجلده الخامس.
1- الطعن في شرف جمال حماد وبالتالي مصداقيته.
2- إنكار فاديم كيربيشنكو نفسه لمعرفته بسامي شرف، في حديثٍ مع صحيفة الوسط السعودية بتاريخي 4 مايو و8 يونيو 1992، بالإضافة إلى مذكراته.
وقد شدد كيربيشنكو على كونه قد خدم في مصر بين 1970 و 1974، ومعظم تلك الفترة قضاها سامي شرف في السجن.
3- شهادات بعض أصدقائه عن وطنيته، وأنه لم يقم بأي لقاءاتٍ في السر.
ولأن القضية تخرج عن سياق الشخصنة، فلا أعتقد أن ما ساقه سامي شرف في النقطتين 1 و3 يستحق النقاش. لسنا هنا بصدد الانحياز لطرف ضد الآخر. لكن يمكننا عرض ما هو متاح من وثائق أجنبية ونترك تقدير المسألة للقارئ.
أولاً: مؤرخ المخابرات البريطانية وأستاذ تاريخ الاستخبارات بجامعة كامبريدج، كريستوفر أندرو، يذكرنا أن إنكار كيربشينكو يأتي كسلوك مُتّبع من قبل ضباط الكي جي بي الذين لا يفصحون أبدًا عن عملائهم.
ثانيًا: كيربشنكو تحدث عن فترة من خدمته في مصر ليست هي الأولى، فقد كان يتحرك في مصر كضابط صغير في السفارة منذ الخمسينيات.
ثالثًا وهو والأهم: إنكار كيربشنكو لقاء سامي شرف تدحضه مذكراته التي تحدثت عن لقاءاته مع مجموعة “التماسيح” وهو الاسم الذي أُطلق على رجال اللجنة الثلاثية، عدة مرات في منزله بالقاهرة، لإيصال معلومات دقيقة عن نوايا السادات، وصلت حد إعلانهم له استعدادهم الانقلاب عليه والإطاحة به. فيسافر كيربشنكو إلى موسكو ليبلغهم بالأمر.
كيربشنكو الذي يستند إليه سامي شرف يقول في مذكراته إن سامي شرف هو النوع المفضل للسوفييت كشخص محل ثقة، لما قدمه من معلومات “غير مصرح له بها”.
مأساة فاتن حمامة (1) | عمر الشريف الذي لم يحبها أبدًا.. وعبد الناصر الذي تمنت إسقاطه | أمجد جمال
ليس كيربشنكو الطرف السوفييتي الوحيد الذي تناول قضية سامي شرف. لدينا أيضًا ثلاثة جواسيس آخرين انتقلوا إلى المعسكر الغربي، وتحدثوا عن سامي شرف (باسمه الكودي “أسد”):
بل إن كيربشنكو نفسه يذكر أنه بعد فشل وزير خارجية موسكو لعشرة أيام في الحصول على ميعاد مع جمال عبد الناصر سنة 1955، فإن “رجل الاتصال” الخاص به نجح في تأمين اللقاء في أقل من ساعة، فمن يا تُرى “صاحب الشارب الرفيع والسمين قليلًا” الذي كان قادرًا على ذلك؟
هنا نجد في وثيقتين للمخابرات الأمريكية مراجعة لكتاب بارون الذي اعتمد عليه حماد، فوجدت أنه بمراجعتها لا تخالف ما لديها، ولا تعلق عليه بأي شكل سلبي.
بالطبع لا يمكن اعتباره الوثيقتين كمصادر، إلا أن المخابرات الأمريكية بالفعل كان لديها المعلومات التي دفعتها لإرسال أخطر عملائها حينها، رئيس جهاز الخدمة السرية Thomas Twetten لتتبع مدى اختراق السوفييت من خلال سامي شرف – بحد قولهم – للدولة، على النحو الذي سنعرفه في الجزء الثاني من هذا المقال.
لسنا بصدد إبداء أحكام على القضية. لكن في تقديري، فإنه من الخطأ اعتبارها قضية عمالة من عدمه.
في طريقة تعامل المخابرات السوفييتية تحديدًا مع الأجانب، هناك طيف واسع من أساليب التعامل. فكرة العميل الذي يخضع لتحكم ضابط حالة، أو ما يُعرف في المخابرات بـ “الكنترول” يحتاج لعوامل عديدة لإثبات هذه العلاقة التي يصفها صلاح نصر بعلاقة السيد بالعبد، أهمها طبيعة “الكنترول” والأدلة عليه.
لكن في القطاع الأعرض من نشاط المخابرات السوفييتية، هناك نوع من التعاون مع من يسمونهم بالـ confident contacts من أجل تحقيق مصالح مشتركة منها عملية الـ Subversion ضد النفوذ المعادي.
وقد كانت أشهر هذه العمليات هي عملية BOOT التي قامت من خلالها روسيا بالتأثير على صناعة القرار البريطاني من خلال التعاون مع حزب العمال (كما شرحنا في مقالٍ سابق). وأحيانًا يكون شخص الثقة المذكور ينفذ أجندة الاتحاد السوفييتي دون علمٍ منه، وهو ما يسميه السوفييت اصطلاحًا بالـ Useful Idiot.
تورط سامي شرف ورجال مراكز القوى وتعاونهم على التخلص من السادات هو ما يمكن وصفه بالتآمر المثبت عليه والذي حوكم وسُجن بسببه. فشهادات الضباط المذكورين، وأهمهم كيربشنكو نفسه الذي يستشهد به شرف، تؤكد أنهم بلغ بهم الأمر مبلغ التنسيق مع السوفييت للتخلص من رئيس الجمهورية، وأعتقد أن هذه هي قمة التآمر على الدولة.
نترك هذه المادة للقارئ، والتقييم يعود له، دون إبداء أي أحكام اتجاه هذه الشخصيات التاريخية. ولكن الأهم، كيف آلت الأمور إلى أحداث مايو؟ هذا ما سنتعرض له من خلال وثائق أرشيف ميتروخين (وهو أرشيف للمخابرات السوفييتية تم تهريبه لبريطانيا) في المقال القادم.
طبق الفاكهة البلاستيك | خالد البري| رواية صحفية في دقائق
Christopher Andrew, The World was Going Our Way: The KGB and the Battle for the Third World (Basic Books, 2006).
Idem. and Vasili Mitrokhin, The Mitrokhin Archive II: The KGB in the World (Penguin, 2005).
John Barron, KGB: The Secret Work of Soviet Secret Agents (London: Hodder & Stoughton, 1974).
Vladimir Kuzichkin, Thomas B. Beattie, Inside the KGB: My Life in Soviet Espionage (ISHI Press, 2020).
CIA Reports:
CIA-RDP77-00432R000100370007-0
CIA-RDP79-01194A000100700001-8
جمال حماد، الحكومة الخفية في عهد عبد الناصر (الزهراء للإعلام العربي، 1989).
سامي شرف، سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر، 5 أجزاء (المكتب المصري الحديث 2013 – 2016).