منذ 1987، تعتمد تونس نظام التعددية الحزبية ولو صوريا. لكن كل الأحزاب ظلت غير فاعلة، باستثناء حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي حكم البلاد بين عامي 1956 - 2011.
بعد الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي في 2011، أعلنت عشرات الأحزاب عن نفسها، أثقلها حركة النهضة، الجناح التونسي لتنظيم الإخوان.
لكن، لم ينجح أي حزب في ضمان السيطرة المطلقة: في الانتخابات الأولى، حصدت النهضة الأغلبية بـ 42% من المقاعد بعدما حصلت على 37% فقط من الأصوات، فشكلت تحالفًا ثلاثيًا يعرف بـ "الترويكا" مع تكتلين يساريين كانا قائمين قبل 2011:
- المؤتمر من أجل الجمهورية (يسار قومي) يرأسه أبرز حلفاء النهضة، منصف المرزوقي، والذي حل ثانيًا في انتخابات المجلس التأسيسي.
- التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات (يسار الوسط) العضو في منظمة الأممية الاشتراكية، والذي حل رابعًا في نفس الانتخابات.
استمرت السيطرة المطلقة لتحالف الإخوان - اليسار حتى 2014.
خلالها، تولى منصف المرزوقي رئاسة الجمهورية، بينما أدار أمين عام النهضة حمادي الجبالي الحكومة الأولى، التي استحوذت فيها الحركة على 16 وزيرًا من أصل 30، مقابل 9 وزراء لحليفيها، و5 وزراء مستقلين.
واجهت حكومة النهضة إشكاليات تذبذب مسار ما بعد الثورة، والفساد والمحسوبية، بخلاف تحديات الاقتصاد والبطالة والفقر وتراجع الاستثمارات والخدمات.
لكن الأزمة الكبرى كانت اغتيال المعارض شكري بلعيد في 2013، ليعاد تشكيل الحكومة برئاسة قيادي النهضة علي العريض، مع 28 وزيرًا، بينهم 9 للحركة الإخوانية، و6 لحليفيها، و13 وزيرًا مستقلًا.
أضيف لتلك الحكومة تحدي الإرهاب، خصوصًا بعد أحداث جبل الشعانبي، في 25 يوليو 2013، واغتيال النائب المعارض محمد البراهمي، لتضطر النهضة للحوار مع المعارضة، بما أدى لتسريع التصديق على الدستور الجديد وتشكيل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وتشكيل حكومة مستقلين برئاسة مهدي جمعة، ليبقى لتحالف الإخوان - اليسار فقط السلطة التشريعية، التي تراجعت قبضتهم عليها مجددًا مع انتخابات مجلس نواب الشعب في أكتوبر 2013.
انتخابات 2014 حملت نتائج مختلفة.
حلت النهضة في الترتيب الثاني بعد أبرز منافسيها، حركة نداء تونس الوليدة التي شكلها الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي الذي فاز بانتخابات الرئاسة في 2014 رغم حشد حركة النهضة قواعدهم الشعبية لحساب الرئيس المنتهية ولايته منصف المرزوقي.
لكن مشكلة نداء تونس أنه لم يكن إلا انعكاسًا للرفض الواسع للتحالف الإخواني.. مجرد تجمع كبير فضفاض من "الآنتي إخوان" معتمدًا في نجاحه بالدرجة الأولى على كفاءة شخص السبسي السياسية.
لذا، شهد بعد عام واحد من الانتخابات انقسامات داخلية أدت لانسحاب عدد كبير من نوابه، لتعود الأغلبية الضئيلة لحركة النهضة في مجلس نواب الشعب.
لاحقًا، شكّلت وفاة السبسي ضربة قاصمة لـ"نداء تونس"، وفشل ابنه حافظ السبسي، الذي خلفه في القيادة، في الحفاظ على تماسك الحزب، ما أدّى لانهياره سريعًا، ليحصد في انتخابات 2019 على 3 مقاعد فقط مقابل 86 مقعدًا حصدها في انتخابات 2014.
وبغياب "نداء تونس"، خسر معارضو الإسلاميين منبرهم السياسي الرئيسي، ما زاد دوافعهم للجوء إلى الشارع.
بعد السقوط في انتخابات 2014، ناورت حركة النهضة بخيار "التوافق".
قبلت أولًا أن تشارك في حكومة نداء تونس بتمثيل رمزي. قبل أن يصل التوجه ذروته في مؤتمرها العام العاشر 2016، والذي عنونته بـ "التقييم العام للحركة منذ التأسيس وتجربة الحكم.. والفصل بين السياسي والدعوي"، ودعت لحضوره رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي.
خلال المؤتمر، قالت النهضة إنها ستتخصص في العمل السياسي، تاركة المجالين الدعوي والخيري لمنظمات المجتمع المدني، وعرفت نفسها بـ "حزب تونسي مدني ديمقراطي ذي مرجعية إسلامية" بينما قال راشد الغنوشي إن "مصطلح الإسلام السياسي لم يعد مبررًا في تونس"، مستعيضًا عنه بـ "مسلمون ديمقراطيون".
في نفس العام، أعلنت النهضة توسيع مكتبها السياسي بعودة قيادات من اليسار الإسلامي، وضم مستقلين غير إسلاميين، وتمثيل مهم للنساء.
رغم مناورة تغيير مسار النهضة، لم يلحظ التونسيون تغييرًا على الأرض.. على الأقل، لم تنجح تونس في تشكيل المحكمة الدستورية منذ إقرار دستور 2014، بسبب غياب "التوافق" حول اختيار قادتها.
وفي غياب بديل متماسك للحركة، حصلت النهضة على الأغلبية في انتخابات 2019، لكنها كانت أغلبية ضعيفة لم تتجاوز 19.63%، بينما خرج حليفاها في الترويكا (المؤتمر والتكتل) بلا مقاعد، وتفتتت المقاعد بين 21 حزبًا بنسب متفاوتة، ليتجه المشهد السياسي والنيابي إلى مزيد من التشتت.
وفي انتخابات جرت بالتزامن، جدد التونسيون تأكيدهم على فقدان الثقة في الأحزاب، فاختاروا للرئاسة أستاذ قانون دستوري غير منتمٍ إلى أي حزب، وهنا وصل قيس سعيد للسلطة..
لكن وصوله كان مشحونًا بخيار العودة للتظاهر للتعبير عن أي مشكلة كان يفترض أن تعمل كل تلك الأحزاب في المعارضة عن التعبير عنها، أو حلها إن كانت في السلطة.
اختيار قيس سعيد كان مثاليًا لحركة النهضة، بعدما فشل مرشحهم عبد الفتاح مورو في الجولة الأولى، فدفعوا قواعدهم لترشيح سعيد، لأسباب:
1- بدا حذرًا بشكل مفرط من الاحتكاك مع السلطة رغم معارضته لنظام زين العابدين بن علي.
2- بدا زاهدًا في السلطة: رفض تولي وزارة العدل 3 مرات، كما قبل تقديم المشورة بشكل منتظم للجمعية التأسيسية للدستور، لكنه رفض عضوية لجنة الخبراء رسميًا.
3- جماهيري لكنه ليس حزبيًا: عرفه الناخبون بمداخلاته التليفزيونية بعد 2011 كخبير دستوري للتعليق على بناء مؤسسات ما بعد الثورة، وتشريحه لدستور 2014، لكنه لا ينتمي إلى أي حزب، ولا تدعمه أي ماكينة انتخابية، لا يملك أي مقرات، وحملته ضعيفة لا تضم إلا 15 شخصًا.
4- متوافق مع الهوى الإخواني العام: وقت الانتخابات، تبنى خطابًا محافظًا للغاية دفع بعض النقاد لتوصيفه كـ “سلفي”. أيد عقوبة الإعدام، ومعاقبة المثليين جنسيًا، وعارض مشروع المساواة في الميراث، تمسك بالإسلام كدين للدولة، واعتبر الحديث عن تطبيع العلاقات مع إسرائيل “خيانة عظمى”، ورفض الحديث عن احترام التنوع والاختلافات الثقافية والدينية في تونس باعتباره “إشعالًا لمشكلة من الصفر”.
كل ذلك كان يعني أنه سيكون رئيسًا قادرًا على حمل عبء التعامل مع الإحباط العام من النخب السياسية لتمرر النهضة مواقفها عبر مجلس نواب الشعب دون ضخب، وأنه لن يصطدم بالمشروع الإخواني "توافقًا أو حذرًا".
تمتلك تونس نظامًا حاكمًا برلمانيًا، وزّع السُلطات بين رئيس حكومة تختاره الأغلبية البرلمانية، ورئيس محدود الصلاحيات.. هنا كانت الأزمة الأولى في 2014، عندما جرت جرت مناوشات بين الرئيس السبسي والبرلمان، بسبب رغبة الأول في اقتناص المزيد من الصلاحيات لنفسه.
لكن الأزمة كانت أشد في 2019: قيس سعيد في الرئاسة، وحركة النهضة تسيطر على مجلس نواب الشعب لكن دون أغلبية كبيرة، وترفض التحالف مع الحزبين الثاني والثالث (قلب تونس الذي يقوده رجل الأعمال نبيل القروي والدستوري الحر الذي تقوده عبير موسي)، ليصبح تشكيل الحكومة مستحيلًا تقريبًا.
نجح الإسلاميون في إيصال راشد الغنوشي شخصيًا إلى رئاسة مجلس نواب الشعب، في مشهد كان ليصبح كافيًا للنهضة، لو بقي قيس سعيد في وضعه الذي انتخبوه على أساسه.. وهو ما لم يحدث؛
إذ استغل الرئيس "أستاذ القانون الدستوري بالأساس" كل تفصيلة دستورية ممكنة لتوسيع صلاحياته.
فشلت النهضة في ضمان أغلبية كافية لتشكيل حكومة برئاسة الحبيب الجملي، فتدخل قيس سعيد بتكليف إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة، وهو اختيار عكس عُمق الأزمة؛ باعتبار الرجل ينتمي إلى حزبٍ فشل في الحصول على أي مقاعد في الانتخابات الأخيرة.
هذه المرة أتى الدور على النهضة التي أسقطت مرشح الرئيس بعد 6 أشهر من رئاسته للوزراء.
تدخل قيس سعيد ثانية بتكليف هشام المشيشي رئيسًا جديدًا للوزراء، وهو أيضًا غير منتمٍ لأي حزب، لكنه دخل في مشكلات مع الرئيس نفسه، حيث أجرى تعديلات وزارية في 2021 دون التشاور مع سعيد. حازت التغييرات الثقة النيابية، لكن الرئيس رفض اعتمادها باعتبارها مخالفة للدستور.
لكن تشكيل الحكومة لم يكن رقعة الشطرنج الوحيدة بين قيس سعيد وحركة النهضة. كان الأمر أوضح في في ملف إدارة علاقات البلاد الخارجية، الذي منحه الدستور للرئيس.
بعد انتخابه رئيسًا للبرلمان، سافر راشد الغنوشي إلى تركيا وعقد مباحثات مع رئيسها رجب طيب أردوغان دون عِلم الرئاسة.. حينها، كان قيس سعيد قد تسلم منصبه منذ أقل من 3 أشهر، ولم يقم بأي زيارة خارجية.
بسبب هذه الزيارة خضع الغنوشي لجلسة محاسبة برلمانية فور عودته.
وفي مايو من نفس العام، سيطرت قوات حكومة السراج على قاعدة جوية تابعة للجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، هنأ الغنوشي السراج على الخطوة، في تناقض مع دعوة الرئيس لإرساء "شرعية جديدة" في ليبيا.
بعدها، كشف تسريب صوتي للغنوشي عدم اقتناعه بالسياسات الخارجية للرئيس، ورفضه لتنفيذها. ليرد قيس سعيد بحدة: "تونس لها رئيس واحد فقط داخل البلاد وخارجها".
في خلفية المشهد، كانت الأوضاع المعيشية في تونس تزداد تعقيدًا، خصوصًا مع أزمة كورونا التي سببت انهيار المنظومة الصحية في البلاد، مع انقسام مجلس النواب، وفشل الحكومة في التعامل.
وبينما بدت الحلول السياسية منعدمة، اختار الرئيس أن يجري اللعبة الحاسمة "كش ملك" لحل الأزمة المحتدمة. أستاذ القانون الدستوري وجد الحل في الدستور الذي كان أحد مستشاري صياغته، فقرر تفعيل الفصل 80 الذي ينظم حالة الطوارئ،
فجمد مجلس نواب الشعب، وأقال الحكومة، وانتزع لنفسه كل السلطات مجتمعة، بما فيها رئاسة النيابات العمومية التي ستتولى التحقيق في اتهامات فساد تشمل أعضاء مجلس نواب الشعب الذي رفع الرئيس الحصانة عنهم.
بعد خطوة قيس سعيد الأخيرة، أعلن رئيس الحكومة هشام المشيشي انسحابه من المشهد، لكن راشد الغنوشي حاول دخول مقر مجلس نواب الشعب، فمنعته قوات الجيش، فبدأ اعتصاما لأنصار تياره في محيط البرلمان، مصرًا على أن مجلسه لا يزال منعقدًا.
هنا، تبقى الحلقة الأحدث معلقة حول احتمالين: مواصلة حركة النهضة رفضها الإجراءات الجديدة عبر الشارع أو حشد القوى السياسية - أو الاستسلام لـ "سقوط الملك" إيذانًا بنهاية اللعبة إلى حين.
تونس: الأحزاب السياسية والديمقراطية في أزمة (ويلسون سنتر)
الحكومة التونسية: البرلمان يسقط حكومة الجملي والفرصة القادمة لـ”حكومة الرئيس” قيس سعيّد (بي بي سي)
أزمة الديمقراطية التونسية بعد إطاحة الرئيس بالحكومة (سي إن إن)
خلافات الرئاسات الثلاث في تونس هل تتحول إلى معركة كسر عظم؟ (بي بي سي)
قيس سعيد في مواجهة راشد الغنوشي.. فمن سيحدد إدارة العلاقات الخارجية التونسية؟ (يورو نيوز)