I’m Thinking of Ending Things | تشارلي كوفمان ينقذ العام السينمائي بأول تحفة فنية | أمجد جمال

I’m Thinking of Ending Things | تشارلي كوفمان ينقذ العام السينمائي بأول تحفة فنية | أمجد جمال

7 Sep 2020

أمجد جمال

ناقد فني

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

تنبيه: المقال يحتوي على حرق لأحداث فيلم I’m Thinking of Ending Things – أفكر في إنهاء الأمور للمخرج والكاتب تشارلي كوفمان


العبقرية ليست مجرد نعت أو درجة من درجات التفوق، ليست مرحلة ما بعد “الجيد” و”الممتاز” و”العظيم”، لكنها تقدير بمعيار مختلف نوعيًا وخارج كل الشروط. إنها التفوق في سباق لم تحدد له حلبة أو مضمار أو أبعاد، أو كما وصفها أحد الكُتاب هي ليست التفكير خارج أو داخل الصندوق، وإنما التفكير في ماهية الصندوق.

أكثر المقولات إلهامًا حول صناعة الأفلام

تشارلي كوفمان.. عبقري السينما المعاصرة

على ضوء ذلك، فالمخرج والكاتب تشارلي كوفمان يعتبر من العباقرة القليلين في السينما المعاصرة، رغم أن رصيده من الأفلام يُعد على أصابع اليد، ومعظم تلك الأفلام لم تحقق عوائد ضخمة في شباك التذاكر، لكنها حققت انتشارًا ضخمًا في العروض ما بعد السينمائية، ووجدت طريقها لطائفة عريضة من الجمهور باتت شديدة الولاء لها، فهي ذلك النوع من الأفلام القادر بصدقه على أن يهزّ نظرتك للحياة أو لنفسك أو للفن.

عندما بدأ مشواره كسيناريست، كانت الأفلام تُنسب له لا لمخرجيها؛ بسبب البصمة الواضحة في كل نص كتبه ولم يخرجه، مثل Eternal Sunshine of The Spotless Mind وBeing John Malkovich. وحتى النصوص السينمائية التي بناها على كتب أو أعمال أدبية لغيره ظلت هويته كمؤلف مسيطرة عليها مثل Adaptation الذي كان علامة فارقة في مشوار تشارلي كوفمان تؤكد أنه لن يتخلى عن ذاتيته في الكتابة حتى لو دُفع لذلك.

سينما المؤلف والمخرج.. الفن يتسع للجميع

أحدث التحف.. I’m Thinking of Ending Things

وها هو يفعلها من جديد بفيلمه الأحدث أفكر في إنهاء الأمور أو I’m Thinking of Ending Things الذي أنتجته نتفليكس وبدأ عرضه على منصتها منذ بضعة أيام.

الفيلم مبني على الرواية الأكثر مبيعًا بنفس العنوان للكاتب آيان ريد. صدرت الرواية في عام 2016، وكتب لها تشارلي كوفمان السيناريو والحوار بجانب الإخراج، لتصير اليوم بين أهم إصدارات نتفليكس في 2020.

بطل الفيلم جيسي بليمونز له تصريح منذ عام يقول أن كوفمان كان مخلصًا في نصه لجوهر الرواية التي كتبها ريد، لكنه لم يستعن بأكثر من 15% من حوارات الرواية. وعلى أي حال فلسنا بحاجة لجهاز يرصد درجة التشابه بين النصين؛ لأن الاقتباس هذه المرة ليس من كتاب توثيقي عن الورود مثل الحال في Adaptation، وإنما قصة تملك في داخلها كل التيمات التي تثير هوس تشارلي كوفمان وتملأ أفلامه السابقة: التقدم في العمر، الوحدة، الذكريات، الثقة بالنفس، الواقع ضد الخيال. ما الذي يحتاجه كاتبنا أكثر من ذلك؟

الفيلم من نوعية دراما الطرق (Road trip) وتدور أحداثه حول الفتاة “لوسي” التي تذهب في رحلة بالسيارة مع حبيبها “جايك” للتعرف على والديه للمرة الأولى، وفي الطريق تراودها أفكار بإنهاء علاقتها بهذا الرجل والتي لم تكن تجاوزت الست أسابيع على الأرجح، تتطور هذه الأفكار لدى لوسي ربما للأسوأ بعد مقابلة أسرة جايك جراء سلسلة من الأحداث الغريبة التي تقع في ذلك المكان النائي.

قوام القصة يمكن تقسيمه لثلاثة أجزاء، الطريق إلى منزل الأسرة، المكوث للعشاء، ثم طريق العودة. وهي فصول تحاكي نظرية البناء المسرحي بالثلاثة فصول.

قراءة في قائمة أنجح 10 أفلام من إنتاج نتفليكس | حاتم منصور

وتبدأ الحيرة

عدد الشخصيات الرئيسية لم يتجاوز أربعة أفراد، وكذلك أماكن التصوير التي كانت قليلة واقتصادية إنتاجًيا، وهو السبب الثاني لإقدام تشارلي كوفمان على إخراج تلك الرواية تحديدًا حين قرأها. رواية تستطيع تحقيق كل أحلامه بأبسط التكاليف.

لكنه من البداية يحذرنا بلمسات متفرقة من أن تلك البساطة التي يسير بها البناء والشكل العام للفيلم لا تعني الفقر، وأن الأمور ليست كما تبدو، خاصة تلك القصة الخطية التي تحمل بداخلها طبقات أعمق وأكثر التواء، ولدرجة أراها تتجاوز أعمال كوفمان السابقة في السوداوية.

على مدار زمن الفيلم، نتنقل من الأحداث الرئيسية إلى لقطات خارج السياق لرجل مُسن، عامل نظافة في مدرسة نعلم لاحقا أنها نفس مدرسة جايك، ويعيش هذا الرجل في منزله وحيدًا. نعلم لاحقا أنه يعيش في نفس منزل عائلة جايك.

التكوين الثقافي لهذا الرجل يتطابق مع جايك في مسرحياتهم وأغانيهم المفضلة وحتى متجر الأيس كريم الذي يقصدونه. وهو ما يصنع حيرة للمتفرج عن هوية ذلك الرجل، وتبدأ الشكوك تدور في أذهاننا إذا كان هو النسخة المستقبلية من جايك، ولكن في أي زمان يعيش ياترى بالمقارنة مع زمن الأحداث الرئيسية.

الحيرة تمتد بلمسات أخرى، فالأفكار تراود البطلة عن إنهاء علاقتها بجايك، ونحن نسمع تلك الأفكار منها بأداة التعليق الصوتي لأنها راوية الأحداث ومركزها، لكن الغريب أن جايك يبدو وكأنه يسمعها معنا، فمع كل مرة يسود الصمت في السيارة وتخاطب البطلة نفسها بهذا الكلام نجد جايك يسألها أسئلة من نوعية: “ماذا قلت؟” أو “فيم تفكرين؟”

لكل مخرج عرّابه ومريدوه.. خمس”رومانسيات” بين عظماء الإخراج | أمجد جمال

التويست الدرامي.. الراوي الوهمي!

الأغرب حين يصل الثنائي لمنزل العائلة، نجد أن اسم لوسي يتغير أكثر من مرة.

قصيدة الشعر التي ألّفتها ورددتها في السيارة، تندهش لوسي لاحقًا حين تعثر على نفس القصيدة في كتاب قديم لشاعرة مشهورة داخل غرفة جايك بالمنزل.

اللوحات التي تقول لوسي إنها رسمتها تُفاجأ بوجودها داخل قبو منزل جايك بتوقيع رسام آخر يرجع للقرن التاسع عشر.

لوسي نفسها بدت رائعة أكثر من اللازم، فهل يُعقل أن تكون فيزيائية وشاعرة ورسامة في وقت واحد؟

ولولا الحدث الأكثر غرابة لقلنا إن الأمور كلها تدور في خيالات لوسي، لكن ما يزيد التعقيد أن أعمار وهيئة والدي جايك تتغير في الليلة الواحدة أكثر من مرة أثناء العشاء، فهم مرة شباب ومرة كهول ومرة متوسطي الأعمار، أحيانًا أصحاء وأحيانًا مرضى، وكأننا نرى نسخًا متفرقة منهم عبر الزمن، إذن ربما لا تكون الخيالات في عقل لوسي بل عقل جايك، لأنه أولا الوحيد الذي لا يتغير، وثانيًا الوحيد الذي يملك الصورة المرجعية لأبويه في كافة مراحلهم.

هنا يتبادر سؤال آخر: كيف لجايك أن يكون مركز الإدراك في تلك القصة والمتحكم فيما نراه وهو ليس الرواي ولكن لوسي؟

هنا الجديد، سمعنا عن راوٍ يحكي القصة وهو ميّت في بعض الأفلام، لكنها المرة الأولى التي نسمع عن راوي وهمي، راوي اصطنعه المروي، وهي واحدة من أكثر الأدوات السردية المدهشة في الفيلم.

ليس فقط لأنها تصنع تويست دراميًا أو مفاجأة أو تكسب أرضًا جديدة في أدوات السرد الماورائي، لكن بالأخص لأنها مخلصة لواحدة من تيمات تشارلي كوفمان الشهيرة: الثقة القليلة بالنفس والخوف من الرفض في العلاقات، معظم أبطاله لديهم تلك العقدة، اعتقاد بأنهم أشخاص غير جذابين للجنس الآخر، وهم دائمًا منطوون على أنفسهم، ولذا فعليهم تقبل فكرة أن يكونوا الطرف الأضعف في العلاقات، وليس أفضل تعبيًرا عن ذلك من أن تُسحب مركزية البطولة من جايك لصالح لوسي، ولو بشكل مؤقت.

تلك العقدة النفسية تظهر بوضوح في استماتة جايك بأن يُرضي لوسي، يناقشها في مقالة علمية تفصيلية من صميم شغلها ليثبت جدارته لها كحبيب. دائمًا مرتاب من تكوينها انطباعًا سلبيًا تجاه والديه، ويكرر سؤاله أكثر من مرة “هل يروقان لك؟” الملاحظ أيضًا أنه يغيّر آرائه في أغنية أو فيلم بسهولة لتتماشى مع آرائها.

إذن لوسي رفيقة رومانسية وهمية اختلقها جايك لتؤنس وحدته وبؤسه، فكرة ليست جديدة عن أفلام كوفمان، الجديد رغم كونها متوهمة فهي تملك بعض الإرادة، فالخيال استحضرها لا لتكون دمية مطيعة، بل لتكون نسخة محسنة منه، توليفة من كل الخبرات والثقافة التي اكتسبها في حياته، حتى النساء اللاتي عرفهن في شبابه، لذلك كان يتغير اسمها.

فن كتابة السيناريو.. 5 نصائح من كاتب The Social Network آرون سوركين | أمجد جمال

خزان خيال الراوي

الفيلم بقدر تعقيد وتعدد طبقات استيعابه التي تعتمد على الإحالات الثقافية والفنية، بقدر ما يعطي بعض الشروح لتلك الإحالات ولا يعتمد بصفة كاملة على الحصيلة المعرفية للمتفرج، الإحالة لمسرحية “أوكلاهوما” مثلًا من الأمور التي عرضها الفيلم بشرح لا بأس به، كذلك الإحالة لقصيدة “ضياع” جاءت سهلة الفهم. والأكيد، سيلتقط غالبية المتفرجين الإحالة لفيلم A Beautiful Mind في المشهد الأخير والذي سبقه بمنتصف الفيلم لقطة في مكتبة جايك تظهر إسطوانة بارزة لنفس الفيلم، وهي إحالة مفهومة لأن الفيلم فائق الشهرة.

مكتبة جايك عملت في الفيلم عمل خزان الوقود لخيال الراوي، والملاحظ أن تترات البداية والنهاية للفيلم مكتوبة بنفس خط الكتب شكلًا وحجمًا.

تبقى الإشارة للإحالة التي أراها الأفضل بالفيلم والمتمثلة في كتاب For Keeps للناقدة الأمريكية “بولين كايل”، والذي كان يلمع في مكتبة جايك، وكانت اللقطة تمهيد لمشهد السيارة في الطريق للعودة حين يدخل البطلان في جدل حول فيلم A Woman Under Influence (1974) للمخرج جون كازافيتس.

كل حرف نطقت به لوسي في هذا المشهد مقتبس من مقال كتبته بولين كايل عن الفيلم السابق، والمثير أن الممثلة “جيسي باكلي” لم تكتف باقتباس الكلام بل قلدت كايل في الصوت وأسلوب الحديث بشكل رائع، أعترف أن الإحالة أصعب من سابقاتها، خاصة على غير الأميركيين، لكن حتى من لا يعرف بولين كايل أو قرأ نقدها عن الفيلم المذكور لابد وأنه لاحظ التغير في نبرة لوسي، وخاصة في الأسلوب، حيث عُرفت كايل بنبرة مميزة في الحديث، تتضح بالجمل الطويلة المركبة وحين تسبق أسماء الفنانين بكلمة السيد والسيدة من باب التوقير إذا عجبها الفيلم، والاستهزاء لو لم يعجبها.

هل خلود الفن معيار لجودته؟ خمس ثغرات لهذه النظرية | أمجد جمال | دقائق.نت

قبلة الحياة لعام منكوب

الخلاصة، أن تشارلي كوفمان يعطي العام السينمائي المنكوب 2020 قبلة الحياة عبر I’m Thinking of Ending Things فقط ليصمد منه قليل من التحف في الذاكرة.

يفعلها بفيلم يقع في نقطة وسط بين السينما الفنية والتجارية، لو تجاوزنا عن تلك التصنيفات، حيث يمكن للبعض أن يراه فيلم إثارة ورعب خفيف ومتقن في عناصره خاصة على صعيد الصورة والتمثيل وشريط الصوت فهناك تطور فائق يشهد على حرفة كوفمان المتنامية كمخرج بجانب عبقريته ككاتب سيناريو، وستظل كالعادة قلة من الجمهور تبحث عما وراء الخطوط البسيطة، وترى الفيلم كما هو لوحة جديدة من لوحات كوفمان التي تشرّح العقل الباطن وتحتج على حقائق الحياة الحزينة بأساليب الكتابة التفكيكية. وفي الحالتين، الطلقة تصيب الهدف.

نولان ضد مولان | تفاصيل حرب ستحسم مستقبل السينما | حاتم منصور

قاعات السينما أم المشاهدة المنزلية؟ 5 فروق رئيسية قد تحدد مستقبل قاعات العرض | حاتم منصور

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك