“إنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم“
يؤكد القرآن على أن كتاب اليهود المقدس محرف، كما ورد في التاريخ الإسلامي الكثير من الحوادث التي جادَل فيها مسلمون يهودًا بأن أسلافهم حرّفوا كتابهم.
هذا تسبب في العديد من "المناقرات اللاهوتية" بين الطرفين، حول مدى أصالة الكتاب المُقدّس لكل دين.
وبالرغم من حُرية الجدل التي سُمِح بها في بعض فترات الدولة الإسلامية، لكن اليهود لم يكن لهم مُطلق الحرية في انتقاد الإسلام، ووُضعت عقوبات قاسية بحقِّ كل من يمس سيرة النبي بسوء أو يُشكك في قُدسية القرآن.
لذلك، استعمل اليهود أشكالًا عدة من "الترميز" في جدالاتهم التشكيكية في القرآن، فحرصوا على قصرها على الأحاديث الشفوية فقط، وإن اضطروا للكتابة استعملوا اللغة العبرية غير الشائعة بين العرب، وعبّروا عن الكلمات الإسلامية الشائعة كـ"محمد" و"قرآن" و"صلاة" بأكواد لا يفهمها سواهم.
لذا نادرًا ما وصلتنا كتابات يهودية أرّخت لتلك اللحظات التأسيسية في عُمر الإسلام، وهو ما يزيد من أهمية تلك الوثيقة.
يقول الباحث روفين فايرستون، إن هذه المخطوطة النادرة، محاولات شعبية يهودية لدحض الاتهام الإسلامي لكتابهم المُقدس بالتحريف، عبر وضْع سلسلة من القصص تلقي نفس التهمة على القرآن.
في أوائل العصور الوسطى، بدأ اليهود تبادل قصص شفوية، سرية بينهم وبين بعضهم، تدّعي أن القرآن لم يُوحَ إلى النبي محمد من الله، وإنما كُتب بواسطة جماعة من اليهود، ألّفوه ثم أعطوه للنبي، بعدما غرسوا بداخله من الإشارات ما يكفي للدلالة على عدم صحته!
أغلب هذه القصص غابت بمرور الزمن، لكن حفظت واحدة منها وثيقة يهودية تنتمي إلى القرن العاشر الميلادي، ضمن مجموعة وثائق تُعرف بـ"خنيزة القاهرة".
الخنيزة (Genizah) هو مستودع ضمَّ آلاف الوثائق اليهودية بالغة القدم، يقع في معبد "بن عزرا" في حي مصر القديمة، نُقِل أغلبها إلى جامعات أوروبا حيث خضع لدراسة بحثية دقيقة.
المخطوطة بالغة القِدم، متآكلة في أجزاءٍ كثيرة، ما جعل مستحيلا قراءة سطورها كاملة، لكن السطور الباقية تسمح بتخمين بقية القصة، والتي يمكن تسميتها بـ"اليهود الذين ألّفوا القرآن".
من أشهر الشخصيات اليهودية التي عرفها التاريخ الإسلامي، كان عبد الله بن سلام، الزعيم والقائد اليهودي الذي دخل في طاعة النبي محمد، وحسن إسلامه حتى مات.
عُرف عبد الله في حياته اليهودية بِاسم "الحصين" وانحدر من بني قينقاع، وبعدما أسلم أطلق عليه الرسول اسمه الأشهر "عبد الله بن سلام".
تُسهب المرويات الإسلامية في الحديث عن فضل عبد الله بن سلام، وتصفه بـ"الصحابي الجليل"، الذي أجلّه الله فنزلت بسببه بعض آيات القرآن، مثلما فعل النبي الذي بشّره بالجنة وقال عنه "يموت وهو آخذ بالعروة الوثقى"، ولطالما لعب في التاريخ الإسلام دور حجة "شهد شاهد من أهلها" على اليهود، فعلى لسانه وردت أنباء سيرة النبي المحذوفة من التوراة عمدًا بأيدي الأحبار.
أما في هذه الوثيقة، فإننا إن افترضنا صدق محتواها فسيكون ابن سلام هو أول "خلية نائمة" في التاريخ الإسلامي.
بعدما رفضت العقلية الجمعية اليهودية إقرار نبأ إسلام ابن سلام مع استحالة نفي واقعة إسلامه ومصاحبته للنبي، والتي أكدتها كافة مراجع التاريخ.
تزعم الوثيقة، أن ابن سلام لم يُسلم أبدًا، وإنما اختار أن يكون عميلاً سريًّا انضم لجماعة النبي ليُلقّنه القرآن ويؤثر على طريقة تفكيره كيلا يُؤذي اليهود بأي شكل.
بحسب الوثيقة، فإن ابن سلام وجماعة الشيوخ اليهود العشر الذين لم نعرف بقيتهم، أخفوا هويتهم وانضموا لجماعة النبي حتى كسبوا ثقته، ونفذ أغلب نصائحهم التي اقتنع بصحتها،
لكنهم في الواقع - حسب الرواية في الوثيقة - كانوا يكتبون القرآن بأنفسهم ثم يقنعونه لاحقًا بأنه تلقى وحيًا من السماء، وكل ذلك بسبب حرصهم على حماية شعبهم من خطر النبي وسُلطته المتصاعدة في بلاد الحجاز.
تحت عنوان "هكذا نصح حكماء إسرائيل ... (هنا يرمزون لشخص النبي بـ الأخرس الشرير)"، كشفت الوثيقة أن جماعة اليهود أقنعوا النبي بوضع الحروف غير المفهومة في بداية بعض سور القرآن مثل "ألم" و"يس" و"كهعيص"، والمعروفة في علوم القرآن بـ"الحروف المتقطعة".
فعل اليهود ذلك حتى يسهل عليهم دحض القرآن لاحقًا بدعوى احتوائه على كلمات غير مفهومة ومفككة، بينما في الواقع هي كلمات عبرية مُشفّرة، وهو سلوك شائع في التوراة.
وتعتبر المخطوطة أن هذه المعلومات "بالغة السرية"، وتتوعّد كل مَن يكشف عنها بـ"لعنة إلهية"، وتدعو كل مَن تقع بيده الوثيقة إلى إبقاء معلوماتها في طيِّ الكتمان.
تكرّرت القصة التي قدّمتها المخطوطة العبرية في مخطوطة أخرى، بالعربية هذه المرة، وُجدت أيضًا ضمن "جنيزة القاهرة"، نُشرت لأول مرة عام 1925م.
كُتبت هذه الوثيقة في القرن الثاني عشر الميلادي، أي في عهد الخليفة العباسي المقتدر.
مثل نظيرتها العبرية، تسرد المخطوطة قصة "الصحابة اليهود"، الذين تسللوا ضمن عشيرة النبي، حتى نالوا ثقته وبات بإمكانهم التأثير على أفكاره.
تختلف المخطوطة العربية في تفصيلة صغيرة، وهي أن الحروف المتقطعة هي في الواقع اختصارات لأسماء الحكماء اليهود العشرة.
ادّعت المخطوطة أن الجماعة اليهودية دسّت 21 آية في سورة البقرة، وأوردت أجزاءً منها.
لكن بمقارنة الآيات المكتوبة بنص سورة البقرة الحالي، لا نعثر على أيِّ تطابقٍ بين المكتوب والموجود.
يقول الباحث روفين فايرستون: لماذا وُضعت مثل هذه الوثيقة إذن؟ سيكون من الصعب وضع إجابة محددة أو تخيّل وجودها إلا في ضوء اعتبارها محاولة شعبية شفهية لمقاومة المدِّ الإسلامي الهائل الذي انتشر في أرجاء العالم، مدُّ عاش بسببه اليهود كأقلية أو كمواطنين درجة ثانية.
لذا ليس بالغريب، أن تظهر محاولات متحمسة شعبية كتلك، لا تهتم بالمسلمين ولكن بتثبيت اليهود!
ففي عهد بلوغ الدولة الإسلامية أوج قوتها، لم يكن اليهود ليستطيعوا وضع مؤلفات تطعن في العقيدة الإسلامية حتى لأبناء مِلتهم، فلجأوا إلى مثل هذه القصص على أسماء اليهود، لعلها تمنع المستعمين من التخلي عن ديانتهم والانضمام إلى دولة الإسلام، وتحفظ لليهودية ما تبقى لها من رجال.
سقطت "المخطوطة اليهودية"، في فخِّ الاستسلام للحكايات الشعبية على حساب الدقة التاريخية.
فبحسب زعمها، فإن الهدف الرئيسي من إعلان عبدالله بن سلام إسلامه هو حماية دماء اليهود، وهو ما لم يحدث أبدًا.
فبحسب المرويات الإسلامية، دخل ابن سلام في الإسلام فور قدوم النبي إلى المدينة 1هـ.
يحكي محمد التويجري في كتابه "موسوعة الفقه الإسلامي"، أن يهودياً زنَى بِامرأةٍ يهودية، ولما جئ بهما إلى الرسول، حاولت طائفة من اليهود أن يكتفي الرسول بجلدهما، وهو ما رفضه ابن سلام، بعدما أنبأ النبي أن الحُكم هو الرجم، وفقًا للشريعة اليهودية، فاستجاب له الرسول وأمر برجم الرجل والمرأة.
كما نعرف، أن ابن سلام كان مُعمرًا، ومات في 43هـ، أي أنه حضر كافة عمليات قتال/ إجلاء اليهود عن ديارهم بدءًا بيهود بني قنيقاع وانتهاءً بيهود بني قريظة الذين انتهوا بـ"قتل الرجال المحاربين، وتقسيم الأموال، وسبي النساء"، مرّ ابن سلام بكل هذا دون أن تُسجِّل له كتب التاريخ اعتراضًا، ما يؤكد أنه انخرط تمامًا في جماعة الإسلام، ولم تعد تثير أخبار حرب قومه السابقين أي ضيق.
كتاب الإيماء إلى زوائد الأمالي والأجزاء، نبيل جرار، الجزء السادس، ص 117
المعجم الكبير للطبراني، الجزء الـ14، ص 322
محمد واليهود وتكوين القرآن: التاريخ المقدس والتاريخ المضاد (بحث)
العلاقات الإسلامية – اليهودية في عهد الرسول، عماد الدين خليل، ص 22 (بحث)