مع نهاية الحلقة السادسة والأخيرة من مسلسل «Moon Knight – فارس القمر» يظل «الإله خونسو» مثيرًا للغموض والحيرة:
هل هو إله يدافع عن الخير؟ أم شيطان شرير يخدم أهدافه الخاصة الغامضة؟
لا تكشف أحداث المسلسل الكثير عن خونسو رغم نجاحها بشكل كبير في تجسيد حقيقة ذلك الإله الغامض، وتوظيفه بشكل عبقري في دراما مسلية على نمط الأبطال الخارقين
هنا، نعود لتاريخ موغل القدم، لنكتشف الكثير عن أحد أغرب آلهة مصر القديمة، وتحولاته العجيبة على مر العصور والثقافات. وكيف استفاد المؤلف من تنوع صوره في الأساطير المصرية لبناء قصة Moon knight الممتعة؟
«خونسو الذي يقطع أوصال الآلهة، وينحرهم من أجل الملك. ينتزع أحشاءهم لأجله؛ لأنه المرشد الذي أوفده (الملك) ليولد من جديد»
الفقرة السابقة أقدم إشارة عن الإله خونسو. وردت في «نشيد التقمص» وهو جزء من «متون الأهرام» – أقدم نص ديني في مصر القديمة – حيث يصف النشيد اللحظة الحاسمة في رحلة روح الملك بعد الوفاة؛ حينما يستحوذ على قدرات الآلهة عن طريق القتل والابتلاع بمساعدة إله وحيد: خونسو.
تكررت أوصاف عنيفة أخرى عن الإله خونسو في نصوص مصرية مبكرة عُرفت بمتون التوابيت، فيشار إليه في ترنيمة آكلي لحوم البشر بـ «الإله المتعطش للدماء»، و«خونسو الساكن في عقولنا»، و«القادر على الغضب وحرق قلوبنا».
تقود الفقرات السابقة لمسألة أصل اسم «خونسو Khonsu» في اللغة المصرية القديمة، والذي فُسر في البداية على مقطعين: (KH) بمعنى عضو المشيمة، و (Nisw) بمعنى الملك، لذلك ربط التفسير بين خونسو وعملية الولادة الملكية.
لكن التفسير الأدق الآن هو اشتقاق الاسم من الفعل «خنس – khenes» بمعنى: يعبر أو يخترق، وهو ما يتفق مع وصف خونسو الأشهر «العابر في السماء ليلًا».
أحدها مصري وبعضها اقتبسته الأديان الإبراهيمية.. أقدم 10 أعياد في تاريخ البشرية | قوائم في دقائق
واجهت مصر القديمة حركة تحول عميقة بعد الانهيار السياسي للدولة القديمة، التي أعقبها مرحلة انتقالية عُرفت بعصر الاضمحلال الأول.
في تلك المرحلة، ظهرت صياغة جديدة لكثير من الآلهة، فغاب تدريجيًا وجه الإله خونسو الدموي.
أفسح غياب الشكل العنيف لخونسو المجال لطبيعته كإله قمري، مرتبط بالترحال الدائم في السماء. لكن، رغم علاقته بالقمر، ظل بلا وظيفة محددة، فظهرت صورته كإله مغامر، باعث للسرور والمسرات، ومحب للألعاب.
تدريجيًا، اكتسب الإله خونسو «المتعطش للدماء» لقبًا جديدًا «الإله الطفل»!
ترصد أسطورة مصرية الوجه الطفولي لخونسو عندما استدرجه الإله تحوت لإحدى ألعاب المراهنة، واستحوذ بذكائه على أغلب الليالي القمرية من خونسو نتيجة شغفه بالألعاب!
تكشف الأسطورة أن خونسو لا يعبر عن القمر بذاته، فقد كان للقمر إله آخر هو «إياح». أما خونسو فهو الإله الذي يؤثر على تبدل قرص القمر وتناقصه اليومي طوال الشهر، لذلك ارتبط خونسو أيضًا بكل الظواهر السماوية الغريبة، ومنها حركات الكواكب الشاذة عن النظام في السماء.
أشكالهم “مش كيوت” | 8 معلومات لا تعرفها عن الملائكة.. هل أتوا من مصر القديمة؟ | قوائم في دقائق
ظل الإله خونسو حتى بدايات الدولة الحديثة في مصر القديمة إلهًا مجهولاً وغامضًا، رغم تعدد أشكاله القديمة سالفة الذكر. وظل معبودًا مهمًا فقط في حدود منطقة طيبة بصعيد مصر تحت اسم “خونسو في طيبة – نفر حتب”.
لكن، مع صعود نجم طيبة كعاصمة للدولة الحديثة، ارتفعت مكانة خونسو لأعلى درجة، فصار الابن الوحيد للإله الأعظم في الدولة الحديثة “آمون” مع زوجته الإلهة الأم الكبرى “موت”، فنال شهرة واسعة وألقابًا مهيبة مثل “الإله الأعظم من الآلهة الكبار”.
اكتسب الإله خونسو شهرة شعبية واسعة في كل أنحاء مصر بقدرته على طرد الأرواح الشريرة وشفاء من أصابهم الجنون والمس. والربط ما بين خونسو وما بين قدرات الشفاء وعالم الأرواح والمس يعود لمعتقدات قديمة ترى للقمر سلطة كبيرة على الأجساد سواء بالصحة أو المرض.
عمليات التجميل | بدأتها مصر القديمة: كيف تطورت جراحات التجميل بسبب عقوبة الزنا؟| الحكاية في دقائق
يبقى السؤال حاضرًا رغم الشواهد العديدة السابقة: هل طبيعة الإله خونسو الخير أم الشر؟
عملية البحث في الأساطير المصرية على اختلاف العصور تكشف وظائف متعددة، بل متناقضة لخونسو. لكن هناك شاهد تاريخي عُثر عليه في معبد الإيبت بمنطقة الكرنك، سجل في عصر البطالمة، لكنه يعود في الأصل لعصر الملك رمسيس الثاني واللوحة تسجيل لواقعة تاريخية وأسطورية معًا تكشف عن سر أشكال خونسو المتعددة.
تحكى اللوحة وقوع رمسيس الثاني في غرام الأميرة “بختان”، بنت حاكم إمارة شرقية – مكانها غير معلوم إما سوريا أو فارس – فتزوجها رمسيس وهاجرت معه إلى مصر. كان للأميرة التي تزوجها رمسيس أخت صغرى أصابها مرض غريب، فأرسل الحاكم لرمسيس طلبًا للمساعدة في شفاء ابنته.
اتضح فيما بعد أن الأميرة الصغرى ممسوسة، وعندما علم رمسيس بالأمر توجه بالابتهال للإله خونسو الأكبر، والعجيب هو إشارة خونسو الأكبر لرمسيس بإرسال “خونسو الشافي” لعلاج الأميرة.
تؤكد اللوحة أن تعدد أشكال خونسو في الديانة المصرية ليس عشوائيًا، لكنه يعبر عن ثلاثة شخصيات أو تجليات مختلفة لنفس الإله:
1- الوجه الطيب لخونسو المسمى “خونسو الشافي”.
2- الوجه العنيف “الذي يرسل الغضب في العقول والقلوب”.
3- “خونسو الأكبر” الذي يعمل على التوازن بينهما.
الأهم أن النص يظهر أن الشخصيات المختلفة لخونسو تدخل في تفاعل وصراع فيما بينها.
ونظرًا لحقيقة خونسو المزدوجة فقد صورته معابد الكرنك بشكلين: رجلًا بالغًا برأس صقر ممسكًا بصولجان، وهو الجانب العنيف من جهة، وطفل يتدلى على جانب رأسه ضفيرة شعر يضع إصبعه الأصغر بالقرب من فمه تعبيرًا عن الجانب الطفولي البريء، وفي الحالين يعلو رأسه شعارات القمر ورأس الكوبرا الملكية.
موسيقى مصر القديمة | كيف علموا العالم السلم السباعي؟ وما علاقته بـ “طقوس الخميس”؟ | أمجد جمال
استمرت تلك التجليات المختلفة لخونسو في الثقافة الشعبية لمصر القديمة في عصورها المتأخرة، وعبرت أيضًا إلى الثقافات المجاورة.
مع بدايات العصر البطلمي اليوناني، انتج المصريون أساطير جديدة مناسبة للقاء الثقافة اليونانية بالحضارة المصرية، ومنها الأسطورة التي تحكي عملية ولادة الإله خونسو: اعتقد المصريون أن الإله الأكبر آمون مات – ربما كان الأمر تعبيرًا عن نهاية مصر القديمة سياسيًا – لكن بعد وفاته، اتحد في العالم الآخر بالإله أوزوريس، ودخل من خلاله في رحم أم أوزوريس الإلهة “نوت”، التي تلد آمون في هيئة جديدة وهو “خونسو – إله الشفاء”.
ذاع صيت خونسو كإله للشفاء عند اليونان، لدرجة أن الملك بطليموس الرابع قال إنه شفاه شخصيًا، وأطلق على نفسه لقبًا جديدًا: “محبوب خونسو – حامي الملك وطارد الأرواح الشريرة”.
من المحتمل أن الثقافة العربية القديمة قد عرفت خونسو أيضًا. ورغم غياب الشواهد المباشرة قديمًا، إلا أن حضور مصر القديمة داخل الجزيرة العربية يعود لفترة الدولة الحديثة وخصوصًا الملك رمسيس الثالث، إذ عُثر على نقوش فرعونية وخرطوش ملكي له في منطقة تيماء غرب الجزيرة العربية.
وعلاقة رمسيس الثالث بخونسو وثيقة فهو الملك الذي قام ببناء معبد خاص له في منطقة الكرنك.
تسربت الكثير من الآلهة والأساطير المصرية للثقافة العربية القديمة، ومن طبيعة العقل العربي أنه يضع عالمًا كاملًا من “الجن والعفاريت” بين البشر والإله الأعلى. ويبدو أن الثقافة العربية عرفت خونسو في جانبه الشيطاني خصوصًا.
الفعل “خنس” في اللغة العربية شبيه النطق والمعنى في اللغة المصرية القديمة، وقد ورد الفعل في القرآن الكريم: “فلا أُقسمُ بالخُنسِ * الجَوارِ الكُنسِ” (سورة التكوير).
وفي لسان العرب لابن منظور تعريف للفعل “خنس” بأنه وصف “للكواكب السيارة منها دون الثابتة“.
وقد رأينا أن خونسو كان إلهًا ارتبط في بعض جوانبه – بالنسبة للمصريين القدماء – بالحركات الشاذة لبعض النجوم والكواكب.
وأيضًا ورد اللفظ في صيغة الفاعل في سورة الناس “مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ”، وقد فسرها أغلب المفسرين بأن “الخناس” هو الشيطان الخفي أو المختفي الذي يوسوس للانسان ليظهر فقط عند استجابة بعض البشر لوسوسته.
وقد ذكر ابن منظور أن الخناس هو إبليس “الشيطان الرجيم” نفسه، وأن له “رأس تشبه الثعبان يجثم بها على القلب”. وقد ذكرنا أن الصورة العنيفة لخونسو في النصوص المصرية تصفه “يعيش على العقول والقلوب”، وهو في كل الأحوال تزين تماثيله برأس الحية أو الكوبرا الملكية.
1- الأساطير المصرية – دون ناردو
2- الحضارة المصرية القديمة – جورج هارت
3- Wilkinson, Richard H. The Complete Gods and Goddesses of Ancient Egypt
4- آلهة المصريين – والاس بدج
5- لسان العرب – ابن منظور