موسيقى مصر القديمة | كيف علموا العالم السلم السباعي؟ وما علاقته بـ “طقوس الخميس”؟ | أمجد جمال

موسيقى مصر القديمة | كيف علموا العالم السلم السباعي؟ وما علاقته بـ “طقوس الخميس”؟ | أمجد جمال

26 May 2021

أمجد جمال

ناقد فني

مصر
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط
  1. في المقال السابق، تناولنا افتراضات مؤرخين بانحصار ألحان موسيقى مصر القديمة في حدود السلم الخماسي في الدولتين القديمة والوسطى (2686 ق.م – 1710 ق.م).

وهناك ردود. منها ما نشرته كلية الفنون بجامعة لوفان البلجيكية (1). وأشهرها أن عدد الأوتار والثقوب في بعض الآلات القديمة كانت تعكس عدد أصابع اليد فقط، دون علاقة بالمدى النغمي للنظام الموسيقي.

لغز عدد الأوتار

الباحث لاحظ أن آلة الهارب على الجداريات التي تصور موسيقى مصر القديمة تحتوي على أعداد أوتار تفوق أوتار الآلات المكتشفة في مقابر نفس الحقبة، واستنج أن التفسير إما حرية إبداعية للراسم غير معبرة عن حقيقة الآلة، أو أن الآلات المدفونة في المقابر نسخ تبسيطية أو رمزية من آلاتهم الحقيقية، مثل مزامير وفلوتات الأطفال التي تباع في متاجر الألعاب الآن.

الاحتمال الآخر أن موسيقى مصر القديمة عرفت تنغيم الهارب خماسي الأوتار بتقنية القرص (Pinching Technique)، أي شد الأوتار بيد واستخدام الأخرى في العزف بالتوازي: نفس التقنية التي يُعزف بها العود والجيتار والبزق المعاصرين، ويعطون كافة النغمات.

دراسة أخرى بجامعة شيكاجو (2) استهدفت الرد على كتابات كيرت زاكس بالتحديد، حلل فيها الباحث تكوين الهارب ثُماني الأوتار من الدولة الوسطى، فرجح أن الثمانية أوتار دليل كافٍ على أوكتاف موسيقي سباعي السلم، وإن كنا لا نعرف أسلوب التنغيم للمقامات.

لكنه لاحظ الأمر الأهم: حين يكون الهارب قليلا في عدد الأوتار نجد في الأوركسترا هاربين أو ثلاثة، ما يعني أن كل هارب يكمل الآخر لصنع سلم موسيقي كامل.

لا نستطيع الجزم إن كانت تلك الهاربات تعزف نفس اللحن وراء المطرب، أم تصاحبه بنغمات طباقية أو نغمات باص Bass داعمة للهارموني. وفي تلك الحالة فقد يكفي ثلاثة أوتار أو أربعة من أجل نظام موسيقي كامل.

رد إضافي من آلات النفخ

وعن آلات النفخ، درس الباحث آلة كلارينيت مزدوجة ترجع لعصر الدولة القديمة، وتتكون من أربعة ثقوب لكل أنبوبة، ما يعطي انطباعًا مبدئيًا بأنها تعزف السلم الخماسي. لكنه لاحظ أن ازدواجية الأنابيب تعني أن الآلة تستهدف عزف الكوردات لا الصولو، أي نغمتين في كل كورد، وبالتالي فهي آلة هارموني لا صولو، وليست دليلًا على السلم الخماسي.

ومن عصر الدولة الوسطى، عُثر على آلتي فلوت، لكل منهما ثلاثة ثقوب، ما قد يعني أن الآلة الواحدة تعزف سلمًا من أربع نغمات فقط. لكن الباحث لاحظ تفاوت أطوالهما واختلاف أبعاد الثقوب في كل فلوت.

بتجريب كل آلة على حدة أعطوا ٨ نغمات، إحداها مشتركة، ما يعني أن الفلوتين يمكنهما عزف سلم موسيقي كامل بالتناوب، إذ اكتشف الباحث أن كل الفرق الأوركسترالية المرسومة على الجداريات تحتوي على آلتي فلوت، لا واحدة.

ثم يستشهد بتاريخ آلة الترومبوت النحاسية في عصر الموسيقار الألماني باخ (١٦٨٥-١٧٥٠)، أي قبل اختراع مفاتيح التنغيم لتلك الآلة، فقد كانت الأوركسترا تستخدم آلتين أو ثلاث منها: ترومبوت كبير مسؤول عن النغمات المنخفضة، وترومبوت أصغر مسؤول عن النغمات الأعلى، بنفس الطريقة التي طوّع بها المصريون آلات الناي.

واعتبر الباحث أن الفلوتين في مقبرة بني حسن، دليل أن موسيقى مصر القديمة – بما فيها عصور ما قبل الإمبراطورية – لم تنحصر بالسلم الخماسي، وإلا كان يفترض أن تزداد الثقوب من ثلاثة إلى أربعة في الفلوت الواحد لتعزف خمس نغمات، فهي سهلة تصنيعيًا وفي قدرة العازف، لكن الاكتفاء بثلاثة ثقوب مع جمع الفلوتين سويًا بحصيلة ستة ثقوب تعطي سبع نغمات، يفسر نظرية العزف بالتناوب للخروج بأوكتاف موسيقي من السلم الكامل.

موكب المومياوات الملكية.. رسائل من العالم الآخر | عمرو عبد الرازق

موسيقى مصر القديمة.. وحي الفلك

ما سبق ينفي اقتصار موسيقى مصر القديمة على السلم الخماسي. لكنه لا يعطينا صورة واضحة عن شكل ألحانهم، وأنواع السلم السباعي والمقامات التي استخدموها.

فلاسفة ومؤرخي الإغريق من أفلاطون لأرسطو لفلوطرخس لهيرودوت، أجمعوا على تفوق موسيقى مصر القديمة على كافة الحضارات المعاصرة، وأكدوا أنها سارت وفق نظرية صلبة بقوانين معقدة، لكنهم لم يصفوا لنا مسامعها.

ديو كاسيوس (القرن الثاني الميلادي) كان بين المؤرخين الإغريق المهووسين بدراسة علوم الفلك والزراعة المصرية، وكيف أثرت في الرومان والإغريق. وهو من استشف علاقة بين نظام المصريين الفلكي ونظريتهم الموسيقية.

هذه النظرية يشرحها باستفاضة عالم المصريات الأمريكي-المصري مصطفى جاد الله في الفصلين الثالث والرابع من كتابه عن نظرية الموسيقى المصرية (3).

المصريون هم من اخترع تقويم الأسبوع (سبت، أحد، إثنين …) وقسموا الشهر لأربعة أسابيع، وهم من قسموا اليوم لـ 12 ساعة صباحًا ومساءً، استلهموا أيام الأسبوع من الحلقات (السماوات السبع)، زحل، المشترى، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد، القمر بالترتيب المسافي. كذلك نغمات السلم الموسيقي السبع تمثل أيام الأسبوع.

عقد كاسيوس علاقة بين أيام الأسبوع وعدد ساعات اليوم بالمفهوم المصري (الذي اقتبسه العالم) وبالدوران الفلكي للكواكب، لو افترضنا أن الساعة الأولى من اليوم الأول تبدأ بالنغمة الأعلى (سي) زحل، وبالترتيب الأفقي فالساعة الثانية (دو) المشترى، الثالثة (ري) المريخ، الرابعة (مي) الشمس. اكتشفنا بهذا التناسق الطبيعي أن أول ساعة في اليوم الثاني ستكون (مي).

موسيقى مصر القديمة كانت ترمز للنغمات بالكواكب

موسيقى مصر القديمة كانت ترمز للنغمات بالكواكب

كل تفصيلة مدروسة

العلاقة العمودية بين (سي) و(مي) ليست عشوائية؛ فبينهما نغمتان أصليتان (دو) و(ري). وبالتالي يصنعون ما يُعرف بالكورد الرباعي (Tetrachord)، وهو أساس نظرية الموسيقى الحديثة، فالسلم يتكون من كوردين رباعيين، وأهم نغمتين في الكورد الرباعي هما الأولى والرابعة. (مثال سي و مي)

tetrachords .. أيام الأسبوع ولكل ساعة نغمة

Tetrachords .. أيام الأسبوع ولكل ساعة نغمة

كرر المقارنة بين الأحد والاثنين، ثم بين الاثنين والثلاثاء، إلخ، ستجد نفس علاقة الـ Tetrachords عموديًا، والسلم السباعي أفقيًا، ما يعني أن الموسيقى (بمفهومها الكامل) تسير في تناغم كوني وفق نظام الفلك المصري. هذا يعني أن المصريين عرفوا من قديم الأزل سلم الـ Diatonic (على الأقل)، وهو تبسيطًا يعني السبع مفاتيح البيضاء في أوكتاف البيانو، خمسة نغمات كاملة إضافة لنصفي نغمة، وبالتالي عرفت موسيقى مصر القديمة المقامات نصف النغمية.

أوكتاف البيانو بالإشارة لمكاني التصاق النغمات EF و BC

أوكتاف البيانو بالإشارة لمكاني التصاق النغمات EFو BC

ويمكن استنتاج مقاماتهم القديمة بدقة أكبر من خلال كتابات الإغريق وأوصافهم للموسيقى المصرية: فمثلًا هيرودوت يقول: “سمعتُ من الأغانى والألحان المصرية ما صار بعد ذلك فى اليونان ألحانـًا شعبية يُردّدونها فى كل مكان”.

لا نعرف تلك الألحان التي تحدث عنها هيرودوت. لكن يمكن أن نستشفها من دراسة المقامات التي شاعت في اليونان وقتها، فالمقام هو وعاء اللحن كما ذكرنا.
والستة مقامات الأكثر شعبية وقتها كانوا يمثلون بلدات وجماعات مختلفة من الجزر اليونانية:

١.Dorian Scale

٢.Phrygian Scale

٣.Aeolian Scale

٤.Lydian Scale

٥.Ionian Scale

٦.Mixolydian Scale

المعطيات ترجح أن مقامات موسيقى مصر القديمة كانت قريبة من الطبيعة الصوتية للمقامات اليونانية السابقة؛ نظرًا لتداخل الحضارتين موسيقيًا، وهو ما نلمسه بعدها في الألحان القبطية التي استعارت بعض من اللغة اليونانية ومقاماتها.

فوائد الموسيقى | متى بالضبط يمكن أن ترسلها لفتاة وضعتك في الفريندزون؟ | شادي عبد الحافظ

طقوس ليلة الخميس

دعني أخبرك بمعلومة طريفة عن المقام رقم (٢) فريجيان. هذا المقام الأصلي لفرع يسمى فريجيان المسيطر Dominant Phrygian، يماثله تمامًا باستثناء تغيير نغمته الثالثة من (صول) إلى (صول#) فيتحول لمقام الحجاز الشرقي! نعم، نفس المقام الذي استخدمه هشام نزيه في أنشودة “مهابة إيزيس”!

برغم قناعتي الشخصية أن موسيقى مصر القديمة عرفت المقامات الستة السابقة، يرجح جاد الله مقام (Dorian)، باعتباره الأكثر شعبية في موسيقى مصر القديمة. والترجيح لعدة أسباب: منها الطبيعة الديموغرافية والثقافية لجماعة الدوريون الهيلينية التي تبنت هذا المقام وعُرف فيها نفوذ وعادات الثقافة المصرية منذ القدم، فقال عنهم هيرودوت: “لو تتبعنا نسل هؤلاء الجماعة من جيل لجيل، سنجد مؤسسيها مصريي المولد”.

ولأسباب موسيقية متعلقة بإيقاع حياة المصريين، فالمقام يبدأ بنغمة (ري D). يرجح جاد الله أن المزاج الموسيقي للمصريين منذ القدم وحتى اليوم يميل لمقامات أصولها من سلم (ري). وذلك يفسر شعبية مقام البياتي في الأغاني الفولكلورية المصرية وهو مقام أصله من سلم (الري).

إضافة لأن ذلك التكوين النغمي للدوريان يتماهى مع أسلوب الحياة في مصر القديمة، ويقارن نهاية السلم بنهاية الأسبوع المصري، عند الخميس والجمعة؛ حيث تكثر الأنشطة وتقام حفلات الزفاف، ويخرج الشعب للتنزه، ويضاجع الأزواج زوجاتهم، هذه عادات معاصرة مرتبطة بليلة الخميس، لكنها ممتدة في مصر منذ القدم وتدل على ارتفاع طاقة هذه الأيام. وبالتالي تتكون نقطة تماس نصف نغمية بين (سي) و(دو)، لكنها نقطة تماس عالية الطاقة تحتاجها النغمة كي تتجاوز الأوكتاف الأصلي إلى الأوكتاف الأعلى من (سي صفر) إلى (دو ١)، مثلما يحتاجها الرجل ليضاجع زوجته في نفس الليلة.

أنشطة المصريين أسبوعيا وعلاقتها بالنغمات

أنشطة المصريين أسبوعيًا وعلاقتها بالنغمات

لكن الملاحظة الأهم في المقام الدورياني أنه مقام سيميتري في أبعاده، أي يمكنك وضع مرآه عند نغمة معينة وستجد النصف الأول من المقام هو النصف الثاني في الأبعاد النغمية، كالتالي:
١ – نصف – ١ – ١ – ١ – نصف – ١

المُنظر الموسيقي جيف بوزر أضاف نقطة مثيرة لنظرية جاد الله، وهي تفضيل موسيقى مصر القديمة للمقامات السيميترية عمومًا، حتى لو لم تكن دياتونية أو مشتقة من سلالم الإغريق التي أسست لاختراع آلة البيانو. المصريون لم يعرفوا البيانو كي يبنوا على أساسه مقاماتهم السيمترية، وبالتالي قد تكون مقامات سيميترية أخرى عرفها المصريون بجانب الدوريان، ويقدم جيف أمثلة لعشرة مقامات على السلم الثماني hexatonic مع حذف نغمة منه لاعتقاده بهوس المصريين برقم سبعة لأبعاده الفلكية.

أدعوك لزيارة مدونته والاستماع لعشر مقاطع صوتية يعرضها أسفل الصفحة كأمثلة لنظريته عن مقامات المصريين القدماء. واصغ بتركيز عند ثاني مثال يطرحه، مقام Gypsy Scale أو الغجر، له عشرات المسميات، منها المقام المجري، والمسمى الأكاديمي له هو Minor Harmonic Scale، ويسمى أحيانWا مقام فريجيان المسيطر، هل تذكرته؟ نعم مقام الحجاز الذي قام عليه لحن “مهابة إيزيس”.

قبل مهابة إيزيس .. ٧ قطع موسيقية مبهرة بتوقيع هشام نزيه


مصادر

١- An analysis of ancient Egyptian chordophones and their use By Toon Sykora
٢- INTERVALS IN EGYPTIAN MUSIC BY O. R. SELLERS . Chicago University
٣- The Enduring Ancient Egyptian Musical System: Theory and Practice By Moustafa Gadalla
هوامش:
– Music-Historical Egyptomania, 1650–1950 By Alexander Rehding, Harvard University
– مناظر الحفلات الموسيقية في مقابر طيبة الغربية – د. خالد شوقي علي البسيوني
– Egyptian Scales vs.Symmetrical Heptatonic Scales – Jeff Buser
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك