آلاف وآلاف اللاعبين أمتعونا عبر تاريخ الساحرة المستديرة. لكن أقلية منهم تأهلت للتصنيف كأسماء جديرة بلقب أسطورة.. وأقلية أصغر وأصغر يستحيل نفي هذا اللقب عنها، ومنهم بالتأكيد الراحل مارادونا.
كيف أصبح مارادونا أسطورة من حيث الجماهيرية عالميًا؟ ولماذا يعتبره ملايين أفضل وأهم لاعب في تاريخ اللعبة؟
هذا سؤال يستحق الإجابة في مجلدات.
لكن هنا نبذة سريعة من 7 أسباب للإجابة:
قصير. مكتنز. لا يملك عضلات مفتولة. هذه التركيبة لا توحي بالكثير في مجال مثل كرة القدم، لكن عندما تدخلت يد الله واختارت تركيبة جينات وجسم مارادونا كانت هذه النتيجة أسطورة.
قرأنا الكثير من خبراء اللعبة عن فوائد الجسم القصير في المراوغة والثبات أثناء الالتحامات، لكن هذا التكوين الجسماني منح مارادونا ما هو أعظم وأهم، جعل منه رمزًا للحلم لدى الملايين.
عندما تنظر كطفل أو مراهق بقوام صغير أو متوسط، إلى قوام لاعب عملاق مثل كريستيانو رونالدو، من السهل أن تقول لنفسك (لن أصبح أبدًا مثله). حقيقة ساهم في تشكيلها أيضًا أن رونالدو وآخرين من جيله، اكتسبوا يومًا بعد يوم تكوينا عضليا بارزا.
جسم مارادونا بالمقابل منح للجميع تذكرة الحلم.. وهذا جزء من جماهيريته وبصمته. ولهذا لم يكن غريبًا أبدًا أن يتنافس رسامو الكاريكاتير في جعله أكثر بدانة وسمنة في رسوماتهم، لا من باب الاستهزاء بل من باب الاعتراف أن مارادونا هو المعجزة التي تثبت للجميع أن الكرة لا تعرف المستحيل، وأن الموهبة لا تعوقها حواجز.
كرة القدم لعبة جماعية. لكننا سنظل دومًا ننبهر بالمهارات الفردية. مارادونا بالتأكيد كان كتلة من المهارات. مراوغة.. تصويب.. تمريرات ماكرة.. لم يترك شيئًا تقريبًا في مهارات كرة القدم دون أن ينتزع لنفسه حصة منها.
مونديال 1986 هو ذروة أسطورة مارادونا عندما قاد منتخب بلاده (الأرجنتين) للفوز باللقب، وقدم خلال البطولة ما جعل ملايين ينسبون إليه الفضل الأول والأخير في هذا الفوز.
هذا إنجاز عملاق في اللعبة لكنه غير استثنائي. يمكننا بالتأكيد أن نقول أن فرنسا ربحت اللقب في مونديال 1998 بفضل زين الدين زيدان بالأساس، وأن البرازيل ربحت اللقب في مونديال 2002 بفضل رونالدو.
لكن دراما لحظات المجد لمارادونا في مونديال 1986 هي ما جعلت اسطورته خالدة واستثنائية وأكبر وأعظم وأهم من كل هؤلاء. أو لنقل بلغة كاتب هذه السطور: سينمائية!
إينيو موريكوني.. بتهوفن السينما أم موسيقار الفرص الضائعة؟ | حاتم منصور
في الظروف العادية، ستصبح مباراة الأرجنتين ضد إنجلترا مجرد مباراة أخرى بين منتخبين، لكن عندما حدثت هذه الموقعة عام 1986 كانت ذكريات وجروح حرب جزر فوكلاند بين البلدين عام 1982 لا تزال طازجة، وكبرياء الأرجنتين مجروح بسبب هزيمتها عسكريًا في هذه الحرب.
ولا لم تكن الدراما فقط في فوز مارادونا والأرجنتين يومها بالمباراة، بل بالطريقة التي فاز بها!
سجل مارادونا الهدف الأول بيده، واحتفل بالهدف في مشهد سنعتبره اليوم عارًا على غيره، لكن عندما حدث هذا كان الأمر أشبه بانتقام. سنسرق الفوز اليوم منكم أيها الأوغاد الإنجليز، تمامًا كما سرقتم واستعمرتم غيركم لعقود!
وصف مارادونا الأمر لاحقًا بأنها كانت (يد الله)، وأصبح هذا التعبير شائعًا أكثر لوصف أي فعل غير شرعي، لكنه لا يخلو من عدالة شاعرية بخصوص رد الدين والثأر!
التاريخ الاستعماري الطويل لبريطانيا جعل هذه اللحظة الكروية الخالدة لا تخص الأرجنتين فقط، بل تخص ملايين آخرين في العالم. ها هو البطل الشعبي مارادونا وهو يثأر ويسخر من جبابرة الاحتلال البريطاني بهدف وقح غير شرعي يحمل كل صفات الافتراء والجبروت!
وعندما اشتكى الإنجليز من الظلم واللا عدالة بخصوص الهدف، اعتبر الباقون عبر العالم الهدف أجمل وأجمل. سارت الأمور بطريقة: يسرنا جدًا أنكم تذوقتم طعم الظلم والغدر ولو قليلًا يا أوغاد، ونشكر مارادونا العظيم ويده المباركة على ذلك!
لكن الدراما لم تتوقف يومها عند هذا الحد، لأن هذا الفيلم يجب أن يكون أجمل وأروع. والانتصار لا يمكن أن يظل محور للتشكيك. لابد أن يحمل شرعية موازية أيضًا بقواعد ولغة وقوانين كرة القدم، وأن يكون صفعة لا تنسى. وهو ما حدث.
بعد الهدف الأول بدقائق معدودة، شق مارادونا طريقه وسط 7 من لاعبين انجلترا بمراوغات ماكرة، قبل أن يسجل الهدف الثاني لفريقه!
من هدف أسطوري أول يحمل كل صفات الغدر والنذالة والخسة، إلى هدف أسطوري آخر يحمل كل صفات الشرعية والإتقان والإبداع والإعجاز الكروي! هذا التناقض جعل هذه المباراة ومارادونا حتى اليوم أسطورة خالدة من حيث الدراما، وفيلما لا يمل ملايين من استعادة ذكرياته.
في عالم مواز، كان من الممكن أن تخسر الأرجنتين في باقي المباريات وتفشل في تحقيق اللقب، وأن تتوارى ذكريات مباراة الأرجنتين وإنجلترا في صفحات التاريخ، لكن يد الله وقدم مارادونا قررا توثيق الهدفين والمباراة للأبد، لتصبح حتى اليوم كارت التعريف لأسطورة مارادونا جماهيريا.
الفوز ببطولات هو ما يصنع الذكريات أكثر من غيره، والفوز بكأس العالم بالأخص هو قمة المجد التي يمكن أن يحققها أى لاعب، وشهادة دخوله التاريخ ليس فقط وسط أبناء شعبه، بل أيضًا في ذاكرة ملايين يتابعون كل 4 سنوات هذه المباراة التاريخية.
بعض اللاعبين الأفذاذ حققوا هذا المجد وقطعوا هذه التذكرة سواء قبل مارادونا أو بعده، ومنهم مثلًا بيليه البرازيلي – كلينسمان الألماني – زين الدين زيدان الفرنسي – رونالدو البرازيلي – بوفون الايطالي. هذه حقيقة حتى وإن اختلف تقييمنا لهذه الأسماء، ومساحة مساهمتها في كل فوز.
س/ج في دقائق: أفضل لاعب في العالم.. ما الفارق بين Ballon d’Or وThe BEST؟
الكثير من اللاعبين الأفذاذ بالمقابل لم يحققوا هذا المجد. لا يمكن نهائيًا مثلًا التشكيك في قدرات لاعب مثل ميسي كأسطورة أخرى أرجنتينية في تاريخ كرة القدم، لكن يد الله لم تكن كريمة معه عامة مع منتخب بلاده، حتى عندما وصل لنهائي مونديال 2014.
ويمكننا من الآن أن نتساءل: هل يمكن أن يحتفظ بعد 30 عامًا بمكانة مماثلة لمارادونا اليوم في ذكريات عشاق اللعبة؟
رغم كل ما يقال عن أخلاقيات كرة القدم والروح الرياضية وخلافه، فهناك حقيقة واحدة ثابتة يعرفها عشاقها الحقيقيون، وهي أن جزءًا كبيرًا من سحر هذه اللعبة متعلق بالوقاحة وإهانة الخصم وخلافه!
في الحقيقة تمنحنا كرة القدم تذكرة للعودة لعصر القبائل والتعصب لها، وأحقية في ممارسة الإهانات والبذاءات التي حرمتنا منها أخلاقيات الحضارة الحديثة!
لماذا ترفع جماهير برشلونة المناديل البيضاء دائمًا؟ مقاومة أم استسلام؟ | فيديو في دقائق
انظر إلى كرة القدم في أي مكان في العالم، وستجد دومًا نموذج اللاعب الوقح الذي يعشقه جمهوره.
مارادونا كان واحدًا من هؤلاء، ولعل سنوات لعبه طويلًا في إيطاليا وتحديدا في فريق نابولي ووسط جمهوره المشهور بالشغب، ساهمت في تشكيل هذه الجزئية أكثر وأكثر. ليس فقط في طريقة تعامله مع الخصوم والتحكيم، بل أيضًا في طريقة تعامله مع الإعلام والسلطة.
أصوله اللاتينية ساهمت في فرض هذه الجزيئة أكثر وأكثر. ها هو البطل الشعبي القادم من العالم الثالث، ليلقن الأوروبيين المتكبرين دروسًا مستمرة، ليس فقط داخل الملعب في فنون كرة القدم، بل في كل لحظة تسجلها المكروفونات والكاميرات له!
الأهم أن هذه الجزئية امتدت لسلوكياته خارج الملاعب أيضًا. مخدرات.. منشطات.. علاقات برجال العصابات.. تهرب من الضرائب.. فضائح جنسية.. لم يترك مارادونا أي ملعب من ملاعب الانحطاط السلوكي تقريبًا دون أن يسجل اسمه، واحتفظ حتى وفاته بصورة ذهنية وسط جماهير الكرة مضمونها أنه (الوغد الوقح القذر الموهوب الذي نحبه)!
فقرة الوغد الوقح القذر الموهوب، تحتاج دومًا لخفة ظل وكاريزما لكي تنجح. وتمامًا مثلما منحت (يد الله) الكثير والكثير من الموهبة الكروية لمارادونا، فقد منحته أيضا قدرًا من خفة الظل والحضور والمصداقية أمام الكاميرات.
يمكنك اليوم أن تشاهد الكثير من الزيف وسط نجوم الكرة عالميًا أو محليًا، عندما يمثل أحدهم مثلا دور (الوغد الوقح) في البرامج أو السوشال ميديا، بينما هو (غلبان) فعليًا كما نقول بالمصري! أو أن يمثل آخر دور المتحضر المثقف الأخلاقي المفكر بينما هو صفر فكريًا!
جهاد الاستهبال | استثمار قطر في محمد أبو تريكة وإخوانه | عمرو عبد الرزاق
مارادونا في المقابل وعلى كل عيوبه لم يكن مزيفًا، وهذا جزء من أسطورته.
الصعلوك القادم من قاع المجتمع، الذي يتعامل معه الكبار باستهتار واستهزاء كما لو كان نكرة، لكنه يتعلم منهم أسرار اللعبة، ويفاجئهم ويهزمهم فيها بمنتهى القسوة. أو الـ underdog بالمصطلح الغربي لوصف هذه الشخصية، نسبة الى الكلاب المُهمشة.
هذه حدوتة روائية وسينمائية محبوبة عالميًا، وبنى كثيرون مشوارهم كله تقريبا بفضلها، ومنهم مثلًا عادل امام.
متحرش السينما..أسطورة عادل إمام الذي خرب المجتمع | حاتم منصور
نظريًا، تبدو كرة القدم عامة كساحة حصرية للأندردوجز والصعاليك؛ لأن النجاح فيها والوصول للأمجاد يستلزم عادة فشلًا أو تسربًا دراسيًا في سن مبكر، وشغفًا كاملًا باللعبة.
ولهذا ستجد أغلب نجوم كرة القدم محليًا أو عالميًا، قادمين من أسر ذات مستوى تعليمي واجتماعي واقتصادي منخفض.
في العصر الحديث، سيحدثنا كريستيانو رونالدو وميسي ومحمد صلاح وغيرهم من النجوم دومًا عن أصولهم المتواضعة، وعن فخرهم بذلك، لكن في المقابل، فرضت شروط وعقود الدعاية والتسويق على هؤلاء وغيرهم، التحول إلى شكل أقرب لنجوم السينما.
شكل أنيق.. ملابس فاخرة.. أماكن فخمة.. صور احترافية.. هذه هي التركيبة التي نشاهدها اليوم عادة لكبار اللاعبين. باختصار أصبحت القواعد تفرض الخروج من مرحلة الـ “أندردوج”.
أخلاقيًا أيضًا، وظفت الميديا هؤلاء النجوم للدعاية الأخلاقية بمعطياتها الحضارية الحالية، التي تشمل مثلًا إعلانات ضد المخدرات، وفقرات لتأييد الأجندة النسوية المعاصرة، وتشجيع على القراءة.. وخلافه.
الحكاية في دقائق: محمد صلاح وجدال الزجاجة.. كيف رصدته الصحف الإنجليزية؟
مارادونا بالمقابل لم يخرج أبدًا من دائرة الـ “أندردوج”. ربما لأن تركيبته النفسية ظلت أغلب الوقت على وفاق مع الحياة كما عرفها قبل الشهرة والملايين. وربما لأن الشخصية التي أراد أن يرسمها كنجم شعبي عالمي، لم تعتبر القيام بإعلانات لأغلى شركات الأزياء، جزءًا مقبولًا من مكونات هذه الهوية كنجم.
صور مارادونا دومًا هى صور “أندردوج” سواء وهو لاعب في ذروة أمجاده، أو في سنوات الختام والضياع الكروي، أو بعد اعتزاله!
هيئة غير أنيقة.. ملابس غير مهندمة.. لا مبالاة تامة بخصوص زيادة الوزن بعد الاعتزال. عاش مارادونا حياته ومات كأندردوج حقيقي، وهذا أيضًا جزء من أسطورة الأرجنتيني.
ورغم كل ما قيل أو سيقال عن أخلاقه وسلوكياته، ستظل أسطورة مارادونا خالدة، لأن مهاراته داخل الملاعب التي ستشاهدها الأجيال التالية في اليوتيوب، وصوره الغريبة الأخرى على الإنترنت، ستظل شاهدًا أبديًا على حدوتة سينمائية وكروية رائعة.
حدوتة عن صعلوك وقح وغد همجي أندردوج قادم من العالم الثالث، اختارته كرة القدم دون غيره لتضخ في جسده القصير الممتلىء وجمجمته الحمقاء، تعاويذ سحرية عن أسرار اللعبة، فاستحق عن جدارة هتافات ملايين وهو يصول ويجول داخل الملاعب، ودموعهم أيضا لحظة وفاته.