باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
“الفن هو ابن الدين بارًا كان أم عاقًا”.. لم اجد أوجز من تلك العبارة في دقة وصف العلاقة الملتبسة بين الدين والفن، وخصوصًا في أحكام تحريم الموسيقى أو حلها.
الفن عمومًا، من رسم ونحت وموسيقى وغناء وطقوس رقص، نشأ بالأساس في كنف الدين ودليلًا عليه. ولولاه ما قام الدين بدوره المطلوب في التأثير والانتشار والاستمرار.
نلحظ هذا في الدور الكبير للفن في الديانات المصرية القديمة خصوصًا، والأديان القديمة عمومًا. والسبب أن الفن هو تجسيد لما يريد الدين أن يقوله من أمور ميتافيزيقية ووجدانية، تخاطب الخيال والعاطفة والحدس، بشكل لا تدركه حواسه المباشرة.
عندما تتصارع الأديان. ويكون الفن أحد الأسلحة البارزة في يد دين دون آخر، أو يتعارض مع مشروع هذا الدين في مرحلة ما، حينها يتحول الفن إلى ابن عاق يطرد من رعاية الأب، لصالح ابن آخر أكثر ولاء وطاعة.
هذا تحديدًا يفسر الموقف الجدلي للفقه الإسلامي الرسمي، المتأرجح بين التشدد والتساهل في قضايا الفنون، وتحديدًا الرسم والنحت والموسيقى؛ إذ نشأ الإسلام على أكتاف حضارات كانت الفنون مقومًا أساسيًا من مقوماتها، من صور وايقونات وترانيم إنشادية ذات تأثير نفسي وعاطفي عميق من جهة، وما يترتب عليها من ترفيه ولهو قد يعرقل الحشد للمشروع الجهادي التوسعي من جهة أخرى.
ألغاز تراثية (8) | محنة الإمام مالك.. لماذا يخالف فقه الطلاق نص القرآن؟ | هاني عمارة
في الموسيقى والغناء تحديدًا، كان الجدل على أشده قد بدأ مبكرًا، في ما عرف من حب أهل المدينة للغناء، في مقابل أهل مكة، وهو ما دلت عليه كثير من قصص السيرة، مثل تمسكهم بالغناء في الأعراس والأعياد، وفي استقبال النبي محمد بعد هجرته، والذي دل عليه مقولة النبي: “إن الأنصار يعجبهم اللهو”.
وعند توسع الدولة الإسلامية في زمن الخلفاء الراشدين والأمويين، استمرت شهرة الحجاز باللهو والغناء؛ حيث ازدهرت صناعة الغناء وتجارة الجواري المغنيات “القيان” زمن عبد الله بن الزبير. وكان أشهر من يتاجر فيهن هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
وكانت أشهر مغنية في ذلك الزمان هي “عزة الميلاء” وأشهر مطرب هو “طويس”. وقد ذكر أبو الفرج الأصفهاني الكثير من أخبارهما في كتاب الأغاني.
في تلك المرحلة، ستنقسم الأرض التي يسيطر عليها المسلمون إلى ثلاثة معسكرات: المعسكر الشيعي في العراق، والأموي في الشام، والزبيري في الحجاز. وسينعكس هذا التباين في المعايرات المنفصلة؛ حيث اشتهر أهل العراق بالنبيذ، وأهل الحجاز بالسماع “الغناء”، وأهل الشام بالجبر.
يقول الأوزاعي، فقيه الشام الأول زمن الأمويين، فيما نقله تاريخ ابن عساكر: “نتجنب من قول أهل العراق شرب المسكر، ومن قول أهل الحجاز استماع الملاهي”.
ويقول الزهري محدث الشام الأول زمن الأمويين: “ينبغي للناس أن يدعوا من حديث أهل المدينة حديثين، ومن حديث أهل العراق حديثين. فأما حديثا أهل المدينة فالسماع والقيان، وأما حديثا أهل العراق: فالنبيذ والسحور”.
ألغاز تراثية (7)- زواج المتعة بين السنة والشيعة.. خلاف سببه الدوافع السياسية | هاني عمارة
أباح العراقي النبيذ وشربه .. وقال حرامان المدامة والسكر
وقال الحجازي الشرابان واحد .. فحل لنا من بين قوليهما الخمر
الخمر في الإسلام.. هل هي حرام فعلًا؟! إشكالات قديمة وقراءة مغايرة | هاني عمارة
وفي هذا السياق، قد يفهم الحديث الشهير الذي يستدل به السلفيون المعاصرون في التشدد في تحريم الموسيقى وهو الوارد في البخاري بلفظ: “ليكونن من أمتي أقوام، يستحلون الخز والحرير، والخمر والمعازف”.
وهو حديث من طرق الرواة من أهل الشام، وفيه عطية بن قيس الكلابي، خطيب الجيش الأموي زمن عبد الملك بن مروان.
فيكون المقصود باستحلال الخمر أهل العراق، وباستحلال الحرير أهل فارس، وهما معقل الشيعة بقيادة جيش المختار، وأما المقصود باستحلال المعازف فهم أهل الحجاز بقيادة عبد الله بن الزبير.
وصيغ الحديث كنبوءة في آخر الزمان؛ كدلالة على انتصار الأمويين، في وقت كانت تروج تلك الحروب على أنها حروب آخر الزمان.
على عكس الخلافة العباسية بالشرق، اشتهرت الأندلس بازدهار الفنون. وحينما وفد فقهاء ومذاهب الشرق إليها، تعارضوا مع المزاج العام لأهل الأندلس، لينهض الفقيه الظاهري ابن حزم، ربيب القصور الأموية ومجالس ولادة بنت المستكفي، ليدافع عن إباحة الغناء والموسيقى، في رسالته الشهيرة “السماع”، والتي تعد أقوى ما كتب في هذا الموضوع.
تتجدد معركة تحريم الغناء مجددًا مع نشأة تيار التصوف الذي تميز بالحس الوجداني والخيال الواسع والخوارق والكرامات، وهو ما يجعله ذا مزاج رائق وذائقة فنية للموسيقى، ترجمت في مجالس الذكر والإنشاد الصوفي بالموسيقى والألحان، والتي عرفت تاريخيًا بمجالس السماع.
وستنعكس المعركة في كتابات الأئمة المشهورين بالتصوف، مثل أبو طالب المكي، وأبو حامد الغزالي، الذي أفرد للسماع بابًا مستقلًا في كتابه “الإحياء” في مقابل أقوال الفقهاء، خصوصًا المذهبين الحنفي والحنبلي في تحريم الموسيقى.
وتتجدد المعركة مرة أخرى في صراع الحنابلة والصوفية زمن المماليك، وتحديدًا في عصر ابن تيمية، الذي يفرد كتابًا في تحريم السماع. ومن يطالعه يجد أنه يقصد تحديدًا الغناء الصوفي، الذي اعتبره ابتداعًا في الدين. وعلى نهجه سار تلميذه ابن القيم.
في المقابل، سيؤلف فقيه أصولي صوفي مصري، هو كمال الدين الإدفوي،، كتابًا فريدًا في المسألة، استقصى فيه كل ما ورد في كتب السابقين من إباحة الموسيقى، وهي الرسالة التي يلخصها الشوكاني لاحقًا في رسالته “إبطال دعوى الإجماع على تحريم مطلق السماع” للدلالة على أن الأمر خلافي وليس فيه إجماع، كما يزعم المحرمون.
ألغاز تراثية (2): أثر الصراع العباسي العلوي في صياغة فقه المواريث
حينما قامت الدولة المدنية الحديثة، كانت الفنون من أهم أعمدتها، خصوصًا الغناء والموسيقى.
وهذا قد يفسر لماذا استدعت الصحوة الإسلامية، التي كانت تطرح مشروعًا مناقضًا للدولة المدنية في بدايتها، الآراء الأكثر تشددًا في تحريم الموسيقى دون استثناء.
ولأن الفن ابن الدين، وأحد أهم وسائل تأثيره كما ذكرنا في البداية، لن تدوم المعركة طويلًا، حيث سينقسم المعسكر الأصولي إلى سلفيين ووسطين،
فيحاول الوسطيون الاستفادة من الغناء والموسيقى، وأسلمتهما، وطرح فكرة الفن الإسلامي؛ لمنحه شرعية دينية، في اتجاه قاده رائدا تيار الوسطية محمد الغزالي ويوسف القرضاوي، الذي سيخرج رسالته “الإسلام والفن” كتدشين لموجة الفن الإسلامي الملتزم، كبديل للفن اللا أخلاقي من وجهة نظر الأصوليين.