جدل النقاب | 4 مغالطات تاريخية.. كيف “حشره” الفرس في فقه الجزيرة العربية؟ | هاني عمارة

جدل النقاب | 4 مغالطات تاريخية.. كيف “حشره” الفرس في فقه الجزيرة العربية؟ | هاني عمارة

8 Sep 2021
هاني عمارة دقائق.نت

هاني عمارة

باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

في مرجعيتها القرآنية، تستند قضية فرضية الحجاب بالأساس على آية سورة النور: “ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن”.

جمهور المفسرين قالوا إن “الخمر” هي غطاء الرأس، وأن ضربها على الجيب هو تغطية الصدر حيث موضوع الجيب بين الثديين. أما استثناء “إلا ما ظهر منها” فيقصد به الوجه والكفين، أو موطن الزينة منهما الكحل في الوجه والخاتم في اليد،  كما ورد عن ابن عباس في تفسير الآية.

وكانت النساء قبل الإسلام تسدلن خمرهن خلف ظهورهن، مبينات جذور الثديين. فنزلت الاية على هذا النحو بأن تأخذن بطرف خمرهن لتغطين به صدورهن.

وعلى هذا كان أوائل الفقهاء والمحدثين. داعمين أراءهم بالحديث الشهير عن النبي أنه قال لأسماء بنت أبي بكر: “إن المرأةَ إذا بلغتِ المحيضَ لم يصلُحْ أن يُرَى منها إلا هذا وهذا ، وأشار إلى وجهِه وكفَّيه”.

غير أن رأيًا آخر مال للتشديد على المرأة بإلزامها بتغطية وجهها، استنادًا لتفسير ورد عن الصحابي عبد الله بن مسعود لآية الزينة، فسر فيه “ما ظهر منها” بـ “ظاهر الثياب”. وعليه كان القول باعتبار وجه المرأة عورة، وبالتالي فرض النقاب.

المقدمة كانت ضرورية لفهم جذور الجدل حول النقاب. لكننا سننتقل هنا إلى أربع مغالطات تاريخية في فهم طبيعة خلافات النقاب.

المغالطة الأولى: النقاب عادة صحراوية بدوية مصدرها الجزيرة العربية

عكس المتوقع، كان الخلاف بين ابن عباس في الحجاز وابن مسعود في الكوفة على ما يبدو خلافًا بين ثقافتي الغرب العربي والشرق الفارسي.

حضور المرأة عند أهل الحجاز كان أكثر من أهل العراق؛ حيث اشتهر الحجازيون بحب الغناء والموسيقى، وانتشرت بينهم القيان “الجواري المغنيات” حيث نقرأ في كتب الأدب عن عزة الميلاء أشهر مغنية في المدينة في زمن التابعين، وعن “حبى المدينية” خبيرة العلاقات الجنسية، وعن التغزل في قوام وجمال عائشة بنت طلحة، زوجة مصعب بن الزبير.

انعكس هذا الانفتاح في مذهب مالك، حيث يقسم عورة المرأة إلى مغلظة ومخففة.

هذا الحضور النسوي انتقل مع المالكية في العصر الأموي إلى المغرب والأندلس، حيث حضور المرأة الأندلسية في الثقافة والسياسة، وحيث الوزير العاشق لولادة بنت المستكفي، وابن حزم وطوق الحمامة ومعركته في الغناء.

في المقابل، نجد ثقافة التشديد على المرأة من الشرق الفارسي؛ حيث المزيج من عادات حجب النساء في حضارات فارس والهند القديمة، والتي امتدت لليهودية التلمودية زمن السبي البابلي.

المغالطة الثانية: النقاب فقه أهل الحديث المتشدد مقابل أصحاب الرأي المنفتح

انعكس ما سبق على تصور الفقهاء لمدرسة النقاب. وبالتحديد مدرسة الرأي في العراق، ومدرسة الحديث في الحجاز.

وبعكس ما قد يتصور البعض، فإن أصحاب الرأي كانوا الأكثر تشددًا مع المرأة في فرض النقاب من أصحاب الحديث.

خير من عبر عن هذاكان إمام الحرمين الجويني، رجل الدين الأول في زمن دولة السلاجقة، وشيخ المدرسة النظامية، وصديق وزيرها، نظام المالك.
يقول الجويني في كتابه نهاية المطلب:

والنظر إلى الوجه والكفين يحرم عند خوف الفتنة إجماعًا. فإن لم يظهر خوف الفتنة، فالجمهور يردعون التحريم، لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}. قال أكثر المفسرين: الوجه والكفان؛ لأن المعتبر الإفضاء في الصلاة، ولا يلزمهن ستره، فيلحق بما يظهر من الرجا.

أما العراقيون وغيرهم، فذهبوا إلى تحريمه من غير حاجة. قال: وهو قوي عندي، مع اتفاق المسلمين على منع النساء من التبرج والسفور وترك التنقب، ولأنهنّ حبائل الشيطان، واللائق بمحاسن الشريعة حسم الباب.

وقول الجويني يؤكد أن مسألة إيجاب النقاب نابعة من الرأي وليست من النص. حيث احتكم للعرف في عبارة “اتفاق المسلمين” وهو يقصد عادة الفرس. واحتكم كذلك لسد الذرائع، والاستحسان لقطع حبائل الشيطان.

سيمتد الأمر بشكل مثير للسخرية لدى تلميذه أبي حامد الغزالي في إحياء علوم الدين. حيث يقول في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إذا زنى الرجل بامرأة وهي مكرهة مستورة الوجه فكشفت وجهها باختيارها، فأخذ الرجل يحتسب في أثناء الزنا، ويقول أنت مكرهة في الزنا ومختارة في كشف الوجه لغير محرم، وها أنا غير محرم لك فاسترى وجهك.

تقرير الجويني ومن بعده الغزالي للمسألة خلافًا لمدرسة الحديث الشافعية كالبغوي وابن خزيمة السابقة، سيصبح هو المعتمد بين المتأخرين، حيث سيكثر الاستشهاد بعبارته: “اتفاق المسلمين على منع خروج النساء سافرات” وهو ما سينعكس لاحقًا بين متأخري الحنفي والشافعي. وهو ما نلمسه في فقه الأزهريين الشافعية قبل الحملة الفرنسية، وفقه أهل الهند الحنفي الديوبندي الممتد لعصرنا.

ألغاز تراثية (5) – الحجاب.. قراءة مختلفة في آيتي الإدناء والقرار | هاني عمارة

المغالطة الثالثة: النقاب ثقافة الريف والبدو مقابل أهل المدن المنفتحين

تعود معركة النقاب من جديد زمن قاسم أمين ومحمد عبده.

في كتابه تحرير المرأة، يهاجم فكرة النقاب وما يتبعه من منع خروج المرأة وتعليمها، فيواجه بهجوم من شيوخ الأزهر وبعض النخب الثقافية التي تنحاز للنقاب، كالأديب مصطفى لطفي المنفلوطي والسياسي طلعت حرب.

هذه المعركة انتقلت إلى مجلة المنار الإسلامية الأشهر والأكثر رواجًا، حيث مال محمد رشيد رضا، تلميذ محمد عبده، إلى عدم التشدد في النقاب والاكتفاء بتغطية الشعر.

ومما يلفت النظر في هذه المعركة أنها قررت – وعلى خلاف الشائع – أن النقاب عادة أهل المدينة، حيث لا تعمل المرأة، عكس نساء الفلاحين والإعراب اللائي يكشفن وجوههن لطبيعة أعمالهن في مساعدة أزواجهن.

يقول محمد رشيد رضا في المنار:

فمن المشاهد أن نحو تسعين في المائة من المُسلِمات يكالمن الرجال جهرًا، ويشاركنهم في أعمالهم، وهن نساء ‌الفلاحين ‌والأعراب، وصنوف الفقراء الذين يشتغلون بالكسب، ويقيمون في المساكن التي لا يتيسر معها الحجاب، فهؤلاء قد حكمت عليهن بيئتهن (أي الوسط الذي يعشن فيه) بذلك، وكلهن أو جلهن لا يسترن الوجوه أيضًا. وأما نساء المدن المحتجبات وقدَّرناهن بالعُشر فمنهن تسع وتسعون في المائة (تقريبًا) يجُلن في الأسواق.

ليقرر بعدها أن النقاب عادة لا أصل لها في الشرع، فيقول:

أما الرأس فإنه عندهن فمغطى بالخمار لعدم جواز كشف الشعر. وهذه الملابس المذكورة في القرآن هي أشبه شيء بملابس نساء ‌الفلاحين في مصر الآن، ويمكن عملها بطرق أخرى كثيرة (مودات) بحيث لا يظهر من المرأة إلا ما أباح الدين ظهوره وهو الوجه والكفان، فهذه هي آداب الطرقات.

ومما تقدم تعلم أن البرقع أو النقاب ليس له في الإسلام أثر ولا عين، ولاندري من أين أتوْا به في الدين؛ إن هو إلا عادة ورثوها عن الأمم الأخرى.

المغالطة الرابعة: النقاب يتشدد له السلفيون الوهابيون فقط

تعود المسالة مجددًا للجدل مع الصحوات الاسلامية وبروز تيار الاسلام السياسي. لنجد أن اغلب رموزه على اختلاف مشاربهم يتشددون في مسألة النقاب بنفس الآليات الأصولية التي قررها إمام الحرمين الجويني سابقًا، مع إضافة استدلالات حديثية.
تشددت السلفية الوهابية في مسألة النقاب بحكم العرف والبيئة التي استقرت. لكن الأمر يمتد لشخصيات ليست محسوبة على السلفية الوهابية. فنجد من السوريين محمد سعيد رمضان البوطي ومحمد علي الصابوني، وهما معاديان للوهابية، وكذلك التركي محمد زاهد الكوثري (ألد أعداء الوهابية) ومن باكستان أبو الأعلى المودودي، مؤسس الجماعة الإسلامية فرع الإخوان في باكستان،

بالإضافة لمدرسة ديوبند في الهند، والتي تنتسب لها حركة طالبان التي تتشدد للبرقع الأفغاني.

الألباني وأصحاب الحديث.. عود على بدء

هذا التشدد في المسالة لدى السلفية بخلاف أصحاب الحديث المتقدمين يستفز أحد شيوخ السلفية المعاصرين، محمد ناصر الألباني، المعروف بتشدده للنصوص وحدها، فيعيد الأمر لنصابه ويكتب رسالته “جلباب المرأة المسلمة”.

لكن هذا الأمر لا يرضي التيار السلفي المصري، حيث كان النقاب أحد أهم أسلحتهم ومن أصول مذهبهم. فيكتب الشيخ السلفي المصري محمد إسماعيل المقدم كتابه الأيقوني “عودة الحجاب” في ثلاثة مجلدات يؤرخ فيه لمسألة النقاب ويجعلها محور صراع بين الإسلام والعالمانية. ويخصص الجزء الاخير فيه للرد على كتاب الألباني.

وهو ما يستفز الألباني مجددًا لبرد عليه وباقي السلفية بكتابه: “الرد المفحم، على من خالف العلماء وتشدد وتعصب، وألزم المرأة بستر وجهها وكفيها وأوجب، ولم يقتنع بقولهم: إنه سنة ومستحب”.

كتاب الرد المفحم على من خالف العلماء وتشدد وتعصب وألزم المرأة أن تستر وجهها وكفيها وأوجب ولم يقنع بقولهم: إنه سنة ومستحب - المؤلف محمد ناصر الدين الألباني - رقم الطبعة 1 -

أفخاخ الإسلاميين: 10- فخ فريضة الحجاب | هاني عمارة


 

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك