باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
“إن أكثر الشعوب تحريمًا لشيء هي أكثرها هوسًا به”.. هذه المقولة التي تنسب للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ترد إلى خاطري دائمًا حين أطالع روائع كتب الأدب العربي، مثل الأغاني للأصفهاني وغيرها، التي أبدعت في وصف وعشق النساء، ومجالس اللهو والغناء، والتغزل في الخمر بإسهاب في وصف تأثيرها وأصنافها،
بينما كتبها التشريعية تتشدد في حجب النساء، وتحظر الكثير من وسائل الترفيه من غناء وموسيقى، وتحرم الخمر قليله وكثيرة وكل ما يتعلق بها من معاملات،
حتى أصبح مجتمع المسلمين الأوائل بين صورتين متناقضتين، انعكستا كذلك في صورة خلفاء مثل هارون الرشيد، الذي نجده في كتب الأدب ماجنًا مشغولًا بالجواري وغارقًا في الشراب والغناء، بينما في كتب التاريخ حاكمًا صالحًا، يحج عامًا ويغزو عامًا.
الخمر تحديدًا كانت من أكثر المسائل التي حملت التناقضات، التي لا تقتصر الازدواجية فيها على كتب الأدب والتشريع فحسب، بل داخل كتب التشريع نفسها من تفسير وحديث وفقه.
في القرآن المكي عدة مواضع تحمل إما مدح الخمر أو ذكرها من غير ذم، منها وصفها كشراب أهل الجنة تجري بها أنهارًا، والإفاضة في ذكر أوصاف كؤوس الخمر وتأثيرها،
منها ما ورد في سورة النحل في سياق إنعام الله على الإنسان بأربعة مشروبات الماء واللبن والخمر والعسل بنفس ترتيب أنهار الجنة في سورة محمد،
فقال: “ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرًا ورزقا حسنًا” والتي ورد في تفسيرها أن “السكر” بفتح السين وإسكان الكاف هي الخمر الناتج من العنب والتمر.
لكن المفسرين اعتبروها منسوخة بآية التحريم في سورة المائدة.
كذلك بشارة النبي يوسف لصديقه في السجن، الذي رأى رؤيا أنه يعصر الخمر، بأن الملك سيرضى عنه ويتخذه نديمًا يسقيه الخمر، وهو منصب عظيم لدى الملوك، ثم طلب يوسف منه الوساطة له عند حدوث ذلك، فخرج يوسف من السجن بشفاعة ساقي خمر.
وفي نفس القصة، يبشر يوسف الملك بانتهاء سنين الجفاف بقدوم الغيث في آية “ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون” أي يصنعون الخمر من عصر العنب.
أما في القرآن المدني، فقد وردت مرة بمنع صلاة السكران، ومرة باعتبار الخمر فيها فساد ومنافع، لكن فسادها أكثر.
أما الآية الأساسية والعمدة في تحريم الخمر فهي مدنية: “إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه” والتي اعتبرت تحريمًا نهائيًا، وناسخة لكل ما ورد قبلها في شأن الخمر من آيات وأحاديث.
المذهب الحنفي وأهل العراق عمومًا يفرقون بين الخمر والمسكر، حيث يعتبرون الخمر من العنب والتمر فقط، وما عدا ذلك ليس بخمر، فيحل بالقدر الذي لا يسكر، استنادًا لروايات عن النبي والصحابة في شرب أنواع معينة من النبيذ وتوضئه به في ليلة الجن.
في المقابل، يحرم أهل الحجاز وأصحاب الحديث الخمر بإطلاق قليلها وكثيرها، حتى صارت مثلًا: “قال في الشئ ما لم يقله مالك في الخمر”. ومالك هو إمام أهل الحجاز أصحاب الحديث.
وردًا على أبي حنيفة، يروي أصحاب الحديث أحاديث مباشرة أشبه بنصوص قانونية صريحة لا تقبل تأويلًا، تنسف كل قول للمذهب الحنفي
منها حديث “كل مسكر خمر” ردًا على تفريق الأحناف بين الخمر والمسكر، وحديث “ما أسكر قليله فكثيره حرام” ردًا على إباحة الأحناف للقليل غير المسكر،
ويؤولون المرويات التي يستند إليها المذهب الحنفي تارة بالنسخ، وتارة بأنه النبيذ الوارد في الروايات منقوعًا وليس خمرًا.
فالجمهور يراها نجسة نجاسة عينية، تفسيرًا لكلمة “رجس” بأنها النجس، وبعضهم يراها طاهرة، وأن النجاسة هنا معنوية.
ما بين التعزيز، أو الحد بأربعين جلدة، أو ثمانين جلدة. وبعضهم قال بقتل مدمن الخمر في حال تكرار الحد أربع مرات.
ألغاز تراثية (8) | محنة الإمام مالك.. لماذا يخالف فقه الطلاق نص القرآن؟ | هاني عمارة
النص الأساسي في تحريم الخمر ورد في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)}.
تشتمل الآية على أربعة محرمات، وهي الخمر – والميسر وهو القمار – والأنصاب وهي الأوثان – والأزلام وهي سهام يضربها الكهان لمن يتردد فعله.
ووردت عدة مرويات في أسباب نزولها، منها أن نفرًا من المهاجرين والأنصار شربوا خمرًا، فسكروا، وتفاخروا على بعضهم البعض، فوقعت بينه مقتلة.
وقيل نزلت في حمزة، قدم عليه النبي وجماعة، وقد شرب خمرًا، فكالهم السباب، فنزلت الآية.
وقيل نزلت في عمر بن الخطاب أنه لما نزلت آية (يسألونك عن الخمر والميسر) قال اللهم أرنا في الخمر بيانًا شافيًا.
الأولى: القول بإنها كانت في السنة الثانية للهجرة، ربما لورود اسم حمزة في القصة، والذي قتل في غزوة أحد، في حين أن سورة المائدة من أواخر ما نزل من القرآن في حجة الوداع.
والثانية: أنها نزلت بالمدينة، وما ترتب عليها من إغراقها بالخمر في الشوارع بعد التحريم. في حين السياق يأتي في نهاية التشريع في حجة الوداع، ويرتبط بالكثير من أحكام الحج والحرم.
ألغاز تراثية (7)- زواج المتعة بين السنة والشيعة.. خلاف سببه الدوافع السياسية | هاني عمارة
ترتبط روايات وتحريم الخمر بذكر الخليفة عمر بن الخطاب كثيرًا، فورد أنها نزلت بعد أن دعا الله أن ينزل فيها تحريمًا. ويروى عنه أنه هو الذي وضع عقوبتها بالجلد ثمانين جلدة.
قصة عمر مع أبي محجن الثقفي قد تكون كاشفة عن دوافع تشدده في الخمر.. أبو محجن الفارس السكير الذي جلده عمر بسبب شربه للخمر، فتاب وخرج للجهاد، وقتل في معركة القادسية.
ويفهم منها أن انتشار الخمر وإدمانها بين شباب العرب كعلامة على الرفاهية واللهو كان عائقًا أمام مشروع عمر بن الخطاب العسكري التوسعي، ولهذا بالغ في منعها ومنع أي سبيل لها، ووضع لها عقوبة حددها بنفسه.
وفي هذا السياق، يفهم لماذا عادت الخمر لعصرها الذهبي في العصر العباسي، زمن الازدهار والرخاء، وتوقف الفتوحات الإسلامية، وهو ما انعكس على تساهل أهل العراق، مقر الخلافة، فيها، وترخيص المذهب الحنفي، المذهب الرسمي للعباسيين، في بعضها.
ألغاز تراثية (2): أثر الصراع العباسي العلوي في صياغة فقه المواريث
كما أسلفنا، فآية التحريم لا تتسق مع آيات أسباب النزول زمانيًا ومكانيًا؛ حيث أنها جاءت ضمن آيات سورة المائدة في حجة الوداع.
والملاحظ في آيات سورة المائدة أنها تتكلم عن الكثير من الأحكام التي تتعلق بالأطعمة وطقوس الحج في الصيد والهدي، وهو ما نلحظه في الآية التالية لتحريم الخمر.. والتي تتحدث عن تحريم الصيد في الإحرام، وما يترتب عليه من إرسال الهدي للكعبة.
وهو ما يطرح سؤالًا ما علاقة الخمر بالحج؟
قد يكون حل الاشكال في الأمور المقترنة بالخمر في الآية: الميسر والأنصاب والأزلام
فالأنصاب وهي الأصنام كان توضع في الكعبة ويذبح لها. وقد ورد تحريم ما يذبح عندها.
والأزلام هي سهام يضربها الكهان لمن يأتيه مستخيرا في فعل شيء.
أما الميسر، فأغلب المفسرين على أنها القمار. لكن الطريقة المروية شبيهة بشكل كبير بطريقة الذبح على النصب. حيث ورد في عدد من كتب التاريخ أن المياسرة هي أن يأتي مجموعة من الأثرياء بذبيحة يشتركون في ثمنها، تذبح وتوزع بالقرعة، ويأخذ منها الكاهن نصيبًا، وهي ضرب من القمار لأنها توزيع مال بالقرعة.
ألغاز تراثية (5) – الحجاب.. قراءة مختلفة في آيتي الإدناء والقرار | هاني عمارة
والذي أراه يحل الإشكال أن الخمر المقصود بالآية والمقترنة بالميسر والأنصاب والأزلام هي جزء من طقوس دينية كانت تقام عند الكعبة تشبه نبيذ الفصح عند اليهود أو التناول (الأفخارستيا) عن المسيحيين ويدعم هذا التصور أمران:
الأول: أن في سورة المائدة جدلا دينيا مباشرا مع اليهود والمسيحيين.
والثاني: أن الشيطان الذي ورد في آية الخمر والميسر (رجس من عمل الشيطان) قد يكون معناها “الكاهن” الذي يشرف على هذه الطقوس من قبول القرابين وذبحها وتوزيع اللحم والخمر على الحضور.
وقد وردت تفسيرات كثيرة في لفظة شيطان في بعض المواضع بأنهم رؤساء أهل الكتاب منها آية “وإذا خلوا إلى شياطينهم” وآية “وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم)”.
ويدعم هذا الكثير من الروايات التي وردت عن حضور يهودي ومسيحي في الكعبة قبل الإسلام، حتى قيل إنه كانت توجد صور أيقونات للسيدة مريم والمسيح في الكعبة.
فالأمر على هذه الزاوية يكون من باب إبطال الطقوس الدينية للأديان المخالفة، ومنها طقس يتعلق بالخمر في الأماكن المقدسة.
وقد يكون لجوء الكهنة إلى الخمر من باب التأثير على الاتباع، وتهيئتهم لتلقي الأوامر والخيالات،
بصورة تذكرنا بما كان يروى عن طائفة الحشاشين الإسماعيلية من استخدامهم لمخدر الحشيش في جلساتهم الدينية من قبل شيخ الطائفة، في التأثير على الأتباع، وتصوير الجنة لهم على النحو الذي ذكره الرحالة ماركو بولو في رحلته لقلعة ألموت، معقل الحشاشين،
وما عرف كذلك عن بعض الصوفية أن الكثير من مشاهداتهم الماورائية وكرامات شيوخهم تكون تحت تأثير الحشيش الذي يتساهلون فيه في مجالسهم.