يروي هيكل في كتاب "محمد حسنين هيكل يتذكر .. عبد الناصر والمثقفون والثقافة"، أن جمال عبدالناصر عندما وصل إلى حُكم مصر، كان معظم المثقفين قد أخرجوا كل ما في جعبتهم وقالوا "كل ما يُريدون قوله".
لهذا كانت هناك حاجة لإحداث موجة ثقافية جديدة.
وفقًا لهيكل، شهدت مصر 3 موجات ثقافية سبقت ثورة يوليو، الأولى دشنها رفاعة الطهطاوي، وأثبتت للمصريين حجم الهوة الثقافية التي باتت تفصلهم عن الغرب، والثانية ترأسها أحمد لطفي السيد والشيخ محمد عبده ومصطفى كامل، وبلغت ذروتها خلال ثورة 1919، وانتهت بإصدار تصريح الحماية على مصر 1936.
وأخيرًا الموجة الثالثة، التي تزعّمها طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم، واستمرت حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
حتى جاءت ثورة يوليو، وتبنّت أجندة حافلة بالتغيرات السياسية والاجتماعية، حتّمت إطلاق موجة ثقافية رابعة.
يحكي هيكل: في هذا الوقت كان تياران أساسيًا يتنازعان الحق في احتكار الثقافة المصرية: التيار الديني والتيار الماركسي، معتبرًا أن التيار الليبرالي بلغ حالة من الإفلاس السياسي والفكري التام خلال الحرب العالمية الثانية.
هذا الصراع حسمته الثورة وإقرارها لمبادئ تختلف عن المعسكرين، وتبنّت تصورات اجتماعية ومناحي سياسية بعيدة عن الماركسية والتيارات الدينية.
بلغت ذروة رغبة الثورة في تدشين هذا التيار بعرض منصب رئاسة الجمهورية على المفكر الكبير أحمد لطفي السيد، وهو العرض الذي رُفض بطبيعة الحال.
اعتبر الباحث الفرنسي ريشاد جاكمون، أن النظام الناصري مارَس عمليات واسعة من استقطاب المثقفين، وضمّهم إلى ماكينته الدعائية وإلى ما أسماه جاكمون "جيش آداب" تابع للدولة ويروّج لسياساتها.
البداية، كانت مع قرار إنشاء وزارة للثقافة، لأول مرة في تاريخ مصر، وحملت، وقتها، اسم "الإرشاد القومي"، وتولى مسوؤلياتها فتحي رضوان.
ومن خلال هذا الكيان الكبير ظهرت العديد من الكيانات الصغيرة التي عملت على إعادة صياغة الثقافة المصرية، مثل البرنامج الثاني في الإذاعة وهيئة الكتاب، وأكاديمية الفنون. وتحديدًا، التيار العربي الذي تبنّته الدولة بأشدِّ درجات الوضوح 1956،
فبعدما ظلّت فكرة القومية العربية مجرد "دعوة نظرية" نفخت فيها ثورة يوليو النار وحوّلتها إلى تيار شعبي.
وفقًا لكتاب "المسرح في الوطن العربي"، فإنه عند اندلاع ثورة يوليو كانت الساحة المسرحية فارغة في مصر، لم يعد هناك فرق رمسيس، وفاطمة رشدي، وفرصة أنصار التمثيل. ولم يتبقَ على الساحة إلا فرقتا نجيب الريحاني وعلي الكسار.
يقول أستاذ الأدب علي الراعي في كتابه "هموم المسرح وهمومي"، إنه كان يدرس الدراما في بريطانيا وقت اندلاع الثورة، ولما عاد إلى مصر 1955، "فتحت ثورة يوليو أمام مبدعيها أوسع الأبواب"، وتولّى هو رئاسة مؤسسة المسرح خلال الفترة ما بين 1959 و1967.
أعادت مؤسسة المسرح الاهتمام بالأعمال الفنية التي تُعلي قيم العهد الجديد، كتسليط الضوء على معاناة الفقراء، واعتبار أن الاشتراكية هي الحل الأوحد لهذه المعاناة، من هذه الأعمال "المغماطيس"، و"الأرض الثائرة"، و"الناس اللي تحت" (1956)، و"الناس اللي فوق" (1957). كانت تٌقدم بالمجان في الأوبرا.
كما أُفسح المجال لكتابات بعض المبدعين الذين أبدوا حماسًا كبيرًا للعهد الجديد، ورغبة في نصرة أفكاره بأقلامهم، مثل يوسف إدريس الذي عرض له المسرح القومي عمليْ "جمهورية فرحات" و"ملك القطن"، وفتحي رضوان (وزير الثقافة) بمسرحية "دموع إبليس"، و"شقة للإيجار" التي بشرت بقيم الثورة الشاملة، وتوفيق الحكيم بعمله الشهير "الأيدي الناعمة" (1954)، وهي المسرحية التي تحوّلت إلى فيلمٍ شهير لاحقًا، صار من رموز ثورة يوليو.
كما اعتبرت الدولة، أن الترويج لمفهوم "الفرق الجماعية" يُساهم في غرس قيم الاشتراكية والتعاون في الشعب المصري، فتبنّت مشاريع فرقة رضا للرقص الشعبي والفرقة القومية للفنون الشعبية.
بعد 40 يومًا من قيام الثورة، أصدر قائد "الحركة المباركة" بيانًا عنوانه "الفن الذي نريده"، طالب فيه بالابتعاد عن فن "العهود البائدة"، وتقديم أعمال تليق بـ"مصر الثورة".
دشّن قادة يوليو علاقات وثيقة بالسينمائيين، وتشكلت لجنة برئاسة وجيه أباظة لترتيب لقاءات جمعت بين القادة الجُدد والسينمائيين.
في أحد الاجتماعات، طلب أباظة من المخرجين إنتاج 50 فيلمًا عن الثورة، وهو ما اعترض عليه المخرج محمد كريم بدعوى أن كثرة الأفلام الثورية ستبعث الملل في نفوس المشاهدين، وأنه يجب مراعاة أن السينما "فن تسلية" في المقام الأول.
بعض الأفلام، غيّر أصحابها أحداثها خلال تصويرها، لتتواءم مع الثورة، مثل فيلم "عفريت عم عبده" لحسين فوزي، الذي غيّر نهايته لتُظهر الدبابات وهي تحاصر قصر عابدين نتيجة لـ"الحركة المباركة".
تقول درية شرف الدين في كتابها "السياسة والسينما في مصر": بدءًا من موسم 1954م، بدأت الأفلام تُظهر الضباط كشخصية محورية تتزوج من بنات الطبقة الأرستقراطية في إشارة لانتصار الثورة على العهد البائد.
ظهرت أيضا سلسلة أفلام إسماعيل ياسين الكوميدية عن الجيش (إسماعيل ياسين في الأسطول والطيران وغيرها)، والتي أخرجها فطين عبدالوهاب الضابط المستقيل من الجيش، والتي حظيت بدعمٍ مباشر من قادة الجيش، حتى أن بعض أعضاء قيادة الثورة كانوا يحضرون العروض الافتتاحية لأفلامه.
أُفسح المجال لأفلامٍ تنتقد العهد الملكي "البائد" مثل "بداية ونهاية" و"في بيتنا رجل" و"القاهرة 30"، بجانب أفلام أخرى تُبشّر بالمرحلة الجديدة مثل "رد قلبي" و"الأرض الطيبة" و"ضحايا الإقطاع" التي تبنّت فلسفة الإصلاح الزراعي.
كما ظهرت العديد من الاعمال التي تروّج لمفاهيم البطولة مثل "أرض الأبطال" و"أدهم الشرقاوي" و"الناصر صلاح الدين" و"جميلة بوحريد"، التي لعبت على وتر تلميع البطل الأوحد، في إشارة غير مباشرة للرئيس عبدالناصر، بطل تلك الفترة.