تنبّهت إسرائيل مبكرًا لاحتمالات تعرضها لقصف من أيٍّ من الجبهات العربية الأربعة التي تحيط بها يعوَض غياب الحروب النظامية الكلاسيكية بهجمات صاروخية بعيدة المدى، وبدأت في تدشين سلسلة من المخابئ الآمنة منذ لحظات قيام الدولة في 1948. إلا أن الهوس الإسرائيلي بالملاجئء بلغ أوجه في أعقاب حرب الخليج 1991، بما شملته من قصف عراقي بـ 39 صاروخ سكود قتلت 74 إسرائيليًا.
يعتبر الصحفي الإسرائيلي من أصل مغاربي دانيال بن سيمون، أن إسرائيل بلد يعيش "على فوهة بركان"، لذا يحتم العيش فيها اللجوء المستمر إلى الملاجئ الأمنة حتى باتت عنصرًا أساسيًا وعاديًا في الحياة اليومية في إسرائيل.
وفقًا لسيمون، قالعديد من الأطفال اليهود باتوا يعتبرون المكوث في الملاجئ أشبه بالمخيمات الصيفية التي يعيشون فيها من وقتٍ لآخر بعيدًا عن المنزل.
وفقًا لكتاب "الهندسة المعمارية للتهديد الوجودي"، للصحفي والمصور آدم رينولدز، فإن إسرائيل أقرّت في 1992، قانونًا يُلزم الحكومة بتدشين ملاجئ في جميع المناطق العامة يحقٌّ لأي مواطن، بلا استثناء، اللجوء إليها حال وقوع أي خطر، وأن تتضمن جميع المباني المشيدة حديثًا مأوى لا يقل سُمك جدرانه الخراسانية عن 30 سم.
من وقتها، لم تتوقف أبدًا حمى التوسع في بناء المخابئ، وبمرور الوقت سعت كافة الحكومات المتعاقبة إلى تحسين هذه الخدمات الوقائية عبر زيادة الأعداد وتكثيف التحصينات ضد أنواع الأسلحة الكيماوية الجديدة التي تمتلكها عدوة إسرائيل الجديدة إيران.
في 2003، بدأت المخاوف حول برنامج طهران النووي، فأعلنت تل أبيب أنها بصدد إنشاء مخبأ عالي التحصين خارج القدس بتكلفة 112 مليون دولار، سيلجأ له قادتها حال وقوع هجوم "غير تقليدي" على إسرائيل، وهو الهاجس الذي ظلَّ يؤرق الإسرائيليين لفتراتٍ طويلة، فبعد مرور 11 عامًا كاملة، استخدمت النوايا الإيرانية الشريرة، مرة أخرى، للإعلان في 2012، عن افتتاح ملجأ عملاق من 4 طوابق في تل أبيب، يسع لـ1,600 فردٍ يُمكن استغلاله بشكل مؤقت كجراج للسيارات على أن يُحوّل سريعًا إلى ملجأ طوارئ حال وقوع أي حادث، وسط تصاعد حمى التهديدات بين إسرائيل وإيران على خلفية تمسك الأخيرة ببرنامجها النووي.
الملاجئ مختلفة عن الصورة التي نراها عادة في الأفلام، ليست مجرد أماكن قاتمة كئيبة للمرتعدين من الموت. في السنوات الأخيرة، جرت محاولات عديدة لإضفاء المتعة داخلها، فشملت خدمات ترفيهية عدة مثل قاعات الرقص وحانات الخمور وصالات رياضية وأماكن عبادة، وجرى تأثيثها بشكلٍ فاخر يُضاهي المعيشة في البيوت فوق الأرض، وهو ما اعتبره صحفي الجارديان "محاولة هشة" للعيش بشكلٍ طبيعي في مكان يحتّم العيش فيه المرور بظروفٍ غير طبيعية.
وهو ما ينسجم مع الجهود المعلنة من عددٍ من منظمات المجتمع المدني الإسرائيلية، مثل صندوق كيرين كايميث الاستثماري، الذي أعلن أكثر من مرة عن قيامه بجهود عِدة لتحسين الحياة داخل مخابئ القنابل، وجعلها أكثر رفاهية وسعادة طوال ساعات الاختباء تحت الأرض.
لا يعني هذا أن العيش في تلك الملاجئ جنة لا تشوبها منغصات، فلا ننسى أنها جزء من المجتمع الإسرائيلي تتضح فيها نواقصه وعيوبه، حتى لو كانت تحت الأرض، فيظهر فيها أشكال العوار التي تعاني منها إسرائيل، كالتمييز مثلاً، والتي جسّدها قرار أحد المسؤولين عن مخبأ تابع لهيئة دينية بتعليق لافتة تفصل الرجال عن النساء، وتمنعهم من الجلوس معًا حتى لو كانوا من عائلة واحدة.
أو اضطرار المتواجدين في المخبأ لساعات طويلة إلى استغلال ساعات الاحتجاز الطويلة في خوض نقاشات حامية حول الحرب وضروريتها وجدواها، هذه المناقشات سرعان ما تتحول إلى عراكٍ متبادل.
"ثقافة المخابئ" تلك، لا تقتصر فقط على تقديم الحكومة لها كخدمة عامة، وإنما تتوفّر في بعض الأحيان أيضًا داخل المنازل، في غرفٍ تُعرف بالعبرية المحلية بِاسم "Mamads".
فوفقًا للقانون الإسرائيلي، يجب أن تُوفر العمارات حديثة البناء "غرفة حصينة" في كل وحدة سكنة
في مقالةٍ لها، وصفت مهندسة الاتصالات الأمريكية شارون وايس، والمهاجرة إلى إسرائيل، شكل المخبأ الآمن الكائن داخل منزلها، وهو عبارة عن غرفة محصنة جيدًا، جدرانها سميكة وأبوابها فولاذية، زودتها بكافة وسائل الراحة بما فيها اشتراك شبكة "نتفليكس".
حكت شارون، أنها تُبقي هذه الغرفة مغلقة معظم أيام السنة، ولم تستعملها إلا مرتين؛ الأولى في نوفمبر 2019م والثانية في الاشتباكات الأخيرة.
كما روت عائلة أمريكية تعيش في إسرائيل منذ 16 عامًا لـ"فوكس نيوز" قصة لجوئها إلى الملجأ الآمن، خلال اندلاع الاشتباكات الأخيرة، بعدما سمعت صافرات الإنذار وأصوات الانفجارات تدوي بالقرب منها.
حكت الأم إستر شليزنجر، أنها دخلت الملجأ بصحبة زوجها أفيشاي وابنهما الذي يبلغ من العُمر عامًا واحدًا. أكدت أنها اعتقدت أن مثل هذه الأشياء لا تحدث في وسط إسرائيل، وإنما تقتصر فقط على مُدن الجنوب المتاخمة لقطاع غزة، ولكن فاجأتها حماس بمدى صواريخ قادرة على الوصول إليها وأجبرتها على دخول المخبأ الآمن.
نعرف من رواية إستر الطويلة، أن المخبأ كان مجهزًا بضروريات الحياة؛ مراتب، أطعم معلبة، مصابيح كهربية، حفاضات أطفال، وأجهزة شحن كهربية.
لكن هذه الكماليات لا تضمن حماية الأطفال من الأضرار النفسية الناتجة عن هذه الإجراءات العنيفة، مثل الأب الإسرائيلي تومر، الذي كشف، أن ابنته لم تعد قادرة على عيش حياتها بشكلٍ طبيعي في هذه الأجواء، لدرجة فضلت معها عيش حياتها بالكامل داخل الملجأ، وهي تصرفات استلزمت خضوعها لجلسات علاج نفسي مكثفة لتجاوزها.
كل هذا الحرص على جلب الأمان إلى داخل المنزل بعيدًا عن اللجوء إلى الملاجئ العامة، صنَعَ في إسرائيل قطاعًا اقتصاديًا فريدًا، وهو "استثمارات الملاجئ المنزلية"، وهي عبارة عن شركات أنشأها ضباط جيش متقاعدون تُدشِّن غرفًا آمنة داخل البيوت توفّر أمانًا وقائيًا للعائلة حال إصابة المنزل في أعمال القصف.
في 2012م أنفقت عائلة إسرائيلية 17 ألف دولار لبناء غرفة محصنة داخل منزلها، وحينها كشف صاحب شركة "G.G defense system"، المتخصصة في إنشاء هذه الغرف، أن حالة التوتر الدائمة التي تعيشها إسرائيل بسبب تهديدات جيرانها المستمر لها بالإبادة تضمن له زبائن دائمين حتى في المدن التي لم تتعرض لأي هجمات صاروخية، بعدما أثبتت الأحداث أن قدرات الفلسطينيين الصاروخية تتصاعد بشكل لا يجعل أي إسرائيلي آمنًا، حتى لو كان يعيش في أقصى الشمال.
لم يتوقف الهوس الإسرائيلي بالملاجئ الآمنة على هذا النوع وحسب، وإنما اخترعت إسرائيل، ما يُمكننا تمسيتها "Mini shelter- مخبأ ضئيل"، وهي عبارة عن كبائن صغيرة الحجم تصلح لاستضافة عددٍ ضئيلٍ من الأفراد لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة، نشرتها في عددٍ من المدن الجنوبية التي لم تُقم فيها مخابئ جماعية تكفي لاستيعاب كافة السكان حال وقوع أي طارئ.
في أوقات الهدوء، تُفكك إسرائيل بعض النماذج القديمة من هذه الملاجئ الصغيرة، وتعرضها في شوارع الولايات المتحدة، ضمن جهود الدعاية، كدولة يعيش شعبها تحت رعب الصواريخ المنهمرة من جيرانها الذين يرفضون وجودها، في مساعي لاقتناص المزيد من التعاطف والمساعدات الدولارية.
رغم نُدرة الإعلان عن تفاصيلها الإنشائية الدقيقة إلا أن أعمال التوسع في بناء الملاجئ الآمنة لم تتوقف في إسرائيل أبدًا. وفي 2017، قدّرت الجارديان أن إسرائيل تمتلك قرابة مليون مخبأ منتشرة في أنحاء البلاد.
بحسب مسؤول محلي إسرائيلي، يمكن لشبكة الملاجئ في إسرائيل احتواء 250 ألف فرد، لكن رقم الجارديان يُمكن الاطمئنان لمدى صحته أكثر باللجوء إلى إحصائية رسمية أخرى صدرت في 2020، كشفت أن قرابة 2.6 مليون إسرائيلي (ثُلث عدد السكان تقريبًا) لا تتوافر لهم أماكن آمنة، وهو ما يعني في المقابل أن إسرائيل نجحت في توفير ملاجئ حصينة لما يقرب من 6.4 ملايين فردٍ طوال الأعوام الفائتة (إجمالي عدد السكان 9 ملايين فرد، وفقًا لإحصائية البنك الدولي).
بالمقابل، لا يجد المدنيون الفلسطينيون في غزة مخبأ آمنًا يحميهم حين تتساقط القذائف الإسلرائيلية في أوقات التصعيد.
حماس، التي تسيطر على القطاع منذ 2006، أقامت شبكة واسعة من آلاف المخابئ لعناصرها، منذ 2009، بعد صراعها الأول مع إسرائيل، ولديها مئات من أنفاق التهريب، لكنها لم تُبذل أي جهود على ما يبدو لحماية المدنيين من الغارات الجوية الإسرائيلية.
الأسباب المعروضة تتراوح بين نقص مواد البناء إلى ثقافة الاستشهاد التي ترحب بالموت. لكن الحقيقة في مكان ما في الوسط.
صحيح من أن بعض المسلمين المتدينين يرحبون بالموت في الصراع مع إسرائيل، وكثيرون يؤمنون أنه لا مهرب من القدر ولو في ملجأ تحت الأرض، لكن الغالبية العظمى من الفلسطينيين في غزة لا يسعون للموت. إذا كان لديهم ملاجئ، فسيستخدمونها بلا شك.
مع ذلك، فإن بناء ملاجئ لأكثر من 1.7 مليون شخص من الصفر سيكون تحديًا لوجستيًا هائلًا، خصوصًا في منطقة مهددة بشكل مزمن ولا تتحكم سلطاتها في حدودها.
التجربة الإسرائيلية نفسها عائق أمام تكرار تجربة الملاجئ في غزة: مليارات الشواقل من الاستثمارات الحكومية كانت كافية بالكاد لحماية ثلثي الإسرائيليين. وحتى لو تمكنت غزة من تكرار مثل هذه البنية التحتية المدنية، فلن تستطيع حماية الملاجئ نفسها في مواجهة قذائف إسرائيل، التي يقدر الرئيس السابق لفرع التحصينات في الجيش الإسرائيلي آفي بيتسور، أنها قادرة على اختراق الملاجئ إن استهدفتها بشكل مباشر.
سيتطلب الأمر أيضًا قدرًا كبيرًا من الأسمنت الذي فرضت إسرائيل قيودًا على استيراده لسنوات بحجة أنه يمكن استخدامه لتعزيز أنفاق حماس.
يبقى الملجأ الآمن الوحيد للمدنيين في غزة هو مدارس الأونروا في القطاع والتي يصل عددها إلى 24 ملجأ، تمتلك إسرائيل إحداثياتها لتجنب ضربها ، لكن ذلك لم يمنع إصابة منشأة تابعة للأمم المتحدة بالفوسفور الأبيض في حرب 2009.
الشيخ جراح | نزاع عقاري في القدس؟ أم نزاع دولي يصل إلى البيت الأبيض؟ | س/ج في دقائق
القبة الحديدية | أمريكا تؤمن الخليج بدفاعات إسرائيلية .. هل مقلاع داوود في الطريق؟ | س/ج في دقائق
إخوان إسرائيل يتحالفون مع نتنياهو! لماذا وكيف غير منصور عباس الخريطة السياسية؟ | س/ج في دقائق
من إسرائيل.. دروس في الدفاع المدني (واشنطن بوست)
عائلة أمريكية إسرائيلية تتحدث من ملجأ ضد القنابل بينما تشن حماس هجومًا عليهم (فوكس نيوز)
قضيت الليلة في ملجأ ضد القنابل مع أطفالي (Jewish Telegraph)
الحياة داخل الملاجئ حيث يأخذ الإسرائيليون المأوى عندما تدوي صفارات الإنذار (بيزنس إنسايدر)
أوكار يوم القيامة: داخل الملاجئ الإسرائيلية – بالصور (الجارديان)
لماذا لا تملك غزة ملاجئ؟ (كريستيان ساينس مونيتور)