في 12 أغسطس 2020، وقع حدث فريد من نوعه في شرق المتوسط ربما لم تسمع به من قبل. مناورة محدودة في شرق المتوسط نجحت خلالها فرقاطة ليمنوس اليونانية العجوز في إلحاق أضرار بالغة بفخر البحرية التركية: الفرقاطة كمال ريس، المسماة على اسم أميرال عثماني من القرن الخامس عشر، واحدة من خمس فرقاطات أرسلتها تركيا لحماية سفينة التنقيب أورتش ريس في المنطقة الاقتصادية الخالصة اليونانية.

رغم أن البلدين حاولا إبقاء الحادث طي الكتمان، لكن مسؤولي البحرية اليونانية سربوا التفاصيل والصور لمواقع إخبارية محلية، وتفاخروا بأن سفينة قديمة ألحقت الضرر بالفرقاطة التركية.

وهنا، بدأ تدخل فرنسا التي رسمت ما وصفه إيمانويل ماكرون بـ “الخطوط الحمر” في شرق المتوسط.

الحادثة المحدودة تعيد رسم قصة الصراع في شرق المتوسط.

س/ج في دقائق

كيف بدأت أزمة شرق المتوسط بين اليونان وتركيا؟

أزمة اليونان وتركيا في شرق المتوسط تاريخية ومعقدة. هنا نركز على أحدث أوجهها المتعلق بتقاسم مياه شرق المتوسط. الخلاف ممتد حول قبرص، وعلى الجزر اليونانية الملاصقة لحدود تركيا. لكن البلدين وصلا إلى شفا الحرب في 1996 بشأن جزر بحر إيجة المتنازع عليه.

وفي 2017، اشتكت اليونان من 3,000 اختراق لمجالها الجوي بطائرات حربية تركية.

الكنيسة والبحر والضباط الثمانية.. ٣ ملفات عالقة بين اليونان وتركيا | س/ج في دقائق

مع ذلك، قالنزاع الحالي جزء من نسيج أكبر للتوترات المتزايدة في شرق المتوسط ​​حول الطاقة والأمن والأيديولوجيا.

بداية المناوشات الأخيرة كانت قبل عشر سنوات، عندما أعلنت إسرائيل اكتشاف موارد هيدروكربونية ضخم، تحت سطح البحر، منها 450 مليار متر مكعب من احتياطيات الغاز القابلة للاستخراج في حقل ليفياثان.

بعدها، اكتشفت شركة إيني الإيطالية في 2015 حقل ظهر الضخم قبالة ساحل مصر. بالتزامن، ظهرت حقول الغاز الضخمة مثل أفروديت وكاليبسو قرب قبرص.

هنا بدأت الصورة تتضح. لم تعد اكتشافات فردية. شرق المتوسط يحوي ثروات طبيعية ضخمة. شركة الأبحاث النرويجية Rystad Energy تقدر ثروات مصر وإسرائيل وقبرص مجتمعين بنحو 2.3 تريليون متر مكعب من الغاز شرق المتوسط.

تركيا لا تتمتع بأي نصيب بسبب قانون البحار الذي يقصر حدودها البحرية على منطقة صغيرة جدًا بسبب اقتراب الجزر اليونانية الصغيرة من سواحلها.

هنا، راهنت تركيا على ورقة الثلث الانفصالي شمال قبرص والذي لا تعترف به إلا أنقرة. فأصرت على أن أي استغلال لموارد الطاقة في المنطقة يجب أن يأخذ شمال قبرص في الاعتبار.

لدعم هذه المطالب، أرسلت سفن استكشاف تؤمنها فرقاطات إلى مياه قبرص واليونان.

منتجو الغاز في شرق المتوسط ​​تجاهلوا ادعاءات تركيا. وقعت اليونان وقبرص وإسرائيل صفقة لبناء خط أنابيب تحت البحر بطول 1,900 كيلومتر لنقل 10 مليارات متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويًا إلى أوروبا، متجاوزًا تركيا.

لعبة غاز شرق المتوسط.. هل أزاحت إسرائيل مصر لصالح اليونان؟| محمد زكي الشيمي

وأطلقت دول شرق المتوسط منتدى غاز شرق المتوسط، بعضوية مصر وقبرص واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن وفلسطين. تقدمت فرنسا بطلب العضوية، وأمريكا للحصول على صفة مراقب.

منتدى غاز شرق المتوسط.. خبر صغير في الجرائد وتطور كبير في السياسة | س/ج في دقائق

كما وقعت مصر واليونان اتفاقية لتقسيم الحدود البحرية مبنية على قانون البحار. لتغلق الباب أمام مزاعم تركيا في فرض سيادتها على المناطق التي تنقب فيها.

ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان.. هل تنازلت القاهرة عن حقوقها كيدًا في تركيا؟ |س/ج في دقائق

لماذا الإصرار التركي على وضع قدم في تقاسم غاز شرق المتوسط ؟ وكيف تورطت مع فرنسا؟

تطمح تركيا لأن تصبح مركزًا للطاقة عبر خط الأنابيب العابر للأناضول (tanap)، والتي يمكنها توصيل ما يصل إلى 16 مليار متر مكعب من أذربيجان إلى تركيا وأوروبا سنويًا.

وتخطط لزيادة قدرة خط الأنابيب إلى 61 مليار متر مكعب.

المشكلة أن أذربيجان ليس لديها ما يكفي لسد الفجوة، بحسب مايكل تانتشوم من المعهد النمساوي للسياسة الأوروبية والأمنية.

حدود أرمينيا وأذربيجان.. بؤرة جديدة للفوضى التركية بمرتزقة سوريين؟ | محمد شهاب الإدريسي

تركمانستان بين أكبر مالكي كميات الغاز في العالم. فكرت تركيا في استغلالها. لكن روسيا وإيران تواصلان منع خطوط الأنابيب هناك. هنا لم يعد أمام تركيا بدائل للغاز لا تتدخل فيها تركيا إلا 3 مناطق: كردستان العراق – إسرائيل – شرق المتوسط.

لعبة القيصر والسلطان.. نزاع “النسر والهلال” الممتد بين روسيا وتركيا | الحكاية في دقائق

وباعتبار أن تركيا لم تكتشف أي غاز في المنطقة المحدودة التي تسيطر عليها في شرق المتوسط كان الحل هو البحث عن موطئ قدم تفرض من خلاله معادلة جديدة تتقاسم من خلالها الثروة بحكم الأمر الواقع.

لم تجد تركيا أي طريق لفرض وجودها في شرق المتوسط إلا عن طريق ليبيا، التي مزقتها الحرب الأهلية لسنوات.

مذكرة تفاهم السراج – إردوغان: هل هي ضربة سياسية لمصر؟ | س/ج في دقائق

تدخل أردوغان أوضح كيف أن الطاقة والأمن في المنطقة متشابكان. كان ثمن إيقاف الجيش الليبي موافقة الحكومة الليبية على صفقة بحرية تعزز مزاعم تركيا.

إردوغان والسراج.. قشة اليائس | خالد البري

في يناير 2020، أوقفت تركيا هجوم الجيش الوطني الليبي على طرابلس بإرسال أسلحة وقوات وآلاف من المرتزقة السوريين لتعزيز حكومة السراج. وأدى ذلك إلى أزمة في يونيو، عندما تعرضت فرقاطة فرنسية، تعمل كجزء من مهمة الناتو، للتهديد من ثلاث سفن تابعة للبحرية التركية أثناء تفتيشها لسفينة يشتبه في انتهاكها لحظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا.

لتتدخل فرنسا في اللعبة بتعزيز انتشارها العسكري في شرق المتوسط، ورسم “خطوط حمراء” ألزمت تركيا ألا تتخطاها.

فرنسا تلاحق تركيا في شرق المتوسط.. لماذا الآن؟ وكيف تتأثر مصر – لبنان – ليبيا؟ | س/ج في دقائق

ما موقف الولايات المتحدة وأوروبا من أزمة شرق المتوسط؟

في ديسمبر 2019، رفعت أمريكا حظر توريد الأسلحة إلى قبرص كجزء من مجموعة من الإجراءات قالت إنها ستعزز أمن الطاقة في قبرص وأوروبا.

وفي يوليو ٢٠٢٠، أعلنت تمويل التدريب العسكري للجزيرة لأول مرة، وأرسلت حاملة طائرات للتدريبات مع اليونان قبالة جزيرة كريت، مما أجبر السفن التركية على الانسحاب.

ثم في أغسطس ٢٠٢٠، رست حاملة طائرات هليكوبتر أمريكية جديدة تمامًا في خليج سودا، وهي قاعدة يونانية في جزيرة كريت.

مع ذلك، فالسياسة الأمريكية غير منتظمة مع اقتراب انتخابات نوفمبر، والتي لا يرجح معها أن يولي دونالد ترامب اهتمامًا كبيرًا بتعقدات شرق المتوسط.

هذا يجعل الاتحاد الأوروبي، الذي انضمت إليه قبرص في 2004، لاعبًا حيويًا. وقد فرض بالفعل عقوبات على تركيا بسبب أنشطة الحفر غير المصرح بها. لكن ماكرون حريص على الذهاب أبعد من ذلك.

دخول أمريكا على خط غاز المتوسط: هل ينهي مشروع إردوغان وعناصره المحلية؟ | محمد زكي الشيمي

المشكلة الرئيسية أن الاتحاد الأوروبي الذي يتخذ قرارات السياسة الخارجية بالإجماع، منقسم. تريد إيطاليا وإسبانيا تسوية الأمور مع تركيا. ألمانيا منزعجة من قرار اليونان إذلال تركيا بتوقيع اتفاقية ترسيم الحدود مع مصر قبل يوم واحد من محادثات بينهما بوساطة ألمانيا.

ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل .. هل فتح انفجار بيروت باب السلام ؟ | س/ج في دقائق

في التاسع عشر من أغسطس، أعرب القادة الأوروبيون عن “تضامنهم الكامل” مع اليونان وقبرص واتفقوا على مناقشة القضية بشكل أكبر في سبتمبر، ووعدوا بأن “جميع الخيارات ستكون على الطاولة”. لكن الخبراء يرون أن الأوروبيين في نهاية المطاف لن يتخذوا أي خطوة مهمة.

ليبيا وأخواتها.. هل أظهرت عجز الاتحاد الأوروبي أم قوته؟ وهل يمكن التعويل عليه؟ | س/ج في دقائق

هل تستطيع اليونان وتركيا تحمل ديمومة الصراع؟

لا تستطيع اليونان ولا تركيا تحمل استمرار تصاعد التوتر في شرق المتوسط. كلاهما يعتمد على السواحل لجني مليارات الدولارات من السياحة. لكن مع ذلك، لا يمكن لأي بلد أن يتراجع بسهولة.

رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس (يمين الوسط) محتجز كرهينة من قبل فصيل قومي في حزبه الديمقراطي الجديد مع عدد كافٍ من النواب للإطاحة بحكومته.

بينما سياسة أردوغان تمنحه دعم القوميين والأصوليين.

هنا، تواصل تركيا إرسال سفن البحر إلى مياه تركيا واليونان. اللقطة الحاسمة ستكون دخول السفن التركية مياه جزيرة كريت التي يحتمل أن تكون غنية بالنفط، والمخصصة لليبيا بموجب الاتفاق مع تركيا، حينها تنتهي كل الرهانات، وتصبح المواجهة مسألة وقت.

السفير التركي السابق لدى الاتحاد الأوروبي سليم كونيرالب، يقول: “في الماضي كان الجيش بمثابة الفرامل. الآن، لا يمكن التنبؤ بأردوغان على الإطلاق.”