ناقد فني
وصول الممثل للعالمية لا يجب أن يكون غاية في ذاته. لكن العالمية في حالة فاتن حمامة لم تكن مجرد ترق أو رفاهية، بل كادت تكون طوق نجاة ورد اعتبار في السنوات التي كان يفترض أن تمثل ذروة مجد سيدة الشاشة، لكنها – على العكس – مثلت ذروة قهرها.
مأساة فاتن حمامة (1) | عمر الشريف الذي لم يحبها أبدًا.. وعبد الناصر الذي تمنت إسقاطه | أمجد جمال
عالمية فاتن حمامة كانت ستضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، خاصة والعروض لم تكن تتوقف.
كانت لتعمل كإنعاش لكبريائها المهزوم أمام عمر الشريف الذي تملص من علاقتهما تدريجيًا، كزوج وحبيب ورفيق، بعدما فاقها مهنيًا كممثل يعرفه كل سكان الأرض، بينما فاتن حمامة مجرد ممثلة محلية ضمن سينما متواضعة القيمة – بحسب رأي عمر – الذي سخر من السينما المصرية فقال: “سينما غريبة بعض الشيء وموجهة لشعب عاطفي جدًا يحب البكاء داخل السينما كثيرًا. وكلما بكى كلما كان الفيلم عظيمَا، وإن لم يبك فلا بد أن الفيلم سيء.”
مذكرات عمر الشريف كذلك لم تخل من انتقادات أخرى للسينما المصرية، يملك الحق في بعضها.
بالتالي، مهما كانت فاتن حمامة سيدة لهذه السينما، فهي سيدة في مضمار متواضع المستوى بحسب نظرته.
من ناحية أخرى، عمر الشريف رجل مرغوب فيه من جميلات العالم، بينما هي امرأة شرقية، مهما وصل حد جمالها وجاذبيتها، تظل مُكبلة بالعادات والتقاليد. عالمية فاتن حمامة كانت لتساوي الرؤوس وتعدل ميزان القوى بعض الشيء.
سياسيًا وماديًا، كانت العالمية ملاذ الهروب من ضغوطات مخابرات صلاح نصر ومراكز القوى في نظام جمال عبد الناصر.
فاتن حمامة هربت منهم بالفعل، لكنها لم تكن تمارس أي عمل. لم يكن لها مصدر دخل. كانت تعيش على تبديد أصول ثروتها، مع بعض مساعدات عمر الشريف الذي اشترى لها بيتًا في لندن، وتكفل بمصاريف دراسة ابنه.
تقرير سري| كيف اعترف جمال عبد الناصر بفشل الاشتراكية في خطاب التنحي!! | مينا منير
في تلك السنوات، كان منهج فاتن حمامة تجاه العالمية خطوة للأمام وخطوات للوراء؛ رحبّت بالمشاركة في الفيلم الأمريكي Cairo من بطولة النجم جورج ساندرس، وهو الفيلم الذي جرى تصويره في مصر بنهاية 1962، أي بعد أقل من سنة من سفر عمر الشريف للمشاركة في لورانس العرب.
ظهرت فاتن حمامة في هذا الفيلم كامرأة مصرية بدور هامشي وأداء باهت لا يتناسب مع قيمتها الفنية، وبررت بعدها تلك المشاركة بأنها ترى على الفنان المصري أن يستغل أي فرص ليضع أقدامه على أول طريق العالمية، وبدا من حماسها أنها متأثرة بتجربة عمر الشريف ومتلهفة على اللحاق به بأي وسيلة.
وفي 1963، سافرت فاتن حمامة لأوروبا، وقطعت تصوير فيلمها “الباب المفتوح”. ظن العاملون بالفيلم أنه سفر روتيني للقاء زوجها، ولن تطيل الوقت حتى تعود لاستكمال الفيلم. لكنها كانت في سرية تصور فيلمها الدولي الثاني بعنوان Shadow of Treason، وهو فيلم مغامرات بريطاني من فئة ب. واختلف دورها فيه عن فيلمها السابق، فظهرت بدور بطولة أمام الممثل الإنجليزي جون بينتلي، وجسدت دور امرأة أوروبية وليست شرقية.
الطريف أن فاتن حمامة احتفظت بنفس تصفيف الشعر الذي ظهرت به في الباب المفتوح؛ لأنه راكور سينمائي. والطريف أيضًا أن فاتن التي كانت صارمة في رفض مشاهد القُبلات في أفلامها المصرية (إلا من عمر الشريف) قدمت مشهد جريئًا مع جون بنتلي في هذا الفيلم، ويعتبر ساخنًا بالمعايير المصرية في ذلك الوقت. هكذا وصل حد تلهفها على العالمية.
الفيلم البريطاني لم ينجح وقت عرضه، وسقط بعدها في غياهب النسيان. فاتن حمامة لم تكن فخورة بالتجربة. أجرت حوارًا مع إذاعة BBC بعد أسابيع من تصوير الفيلم ولم تتحدث عنه بولع وهي تحكي قصته، شعرت أنها لا تنتمي لذلك العالم.
في الأيام الأولى من تصوير الفيلم كانت تختلي بنفسها وتبكي، وفكرت جديًا بقطع التصوير والعودة لمصر هربًا من استكمال هذا الفيلم، لكنها مع الوقت عقدت صداقات مع زملائها الإنجليز وبدأت تتأقلم على الوضع حتى انتهت من تصويره وعادت لمصر لتغلق الباب المفتوح.
في الفيلمين لم تبيّن فاتن حمامة طلاقة بالإنجليزية؛ لكنتها ثقيلة، وبدا أداؤها وكأنها تردد نصًا تحفظه. ويمكن ملاحظة أن هناك دوبلاجًا واضحًا بصوتها في معظم المشاهد.
هل كانت مصر فعلًا ثاني دول العالم معرفة بالسينما؟ | أمجد جمال
المعلومة التي يعرفها الجميع أن فاتن كانت تتحدث الفرنسية بطلاقة. لكن المسكوت عنه أن إنجليزيتها كانت ضعيفة إلى متوسطة.
عرفت تلك المعلومة من مذكرات عمر الشريف. فمن أجل أن توافق فاتن حمامة عليه كوجه جديد ليشاركها بطولة “صراع في الوادي” كانت قد دعته لمنزلها في حضور المخرج يوسف شاهين، وأجرت له تجربة أداء، خريج فيكتوريا كوليدج اختار أن يجسد أمامها مشهدًا من مسرحية “هاملت” بنص شكسبيري أصلي وإنجليزية صارمة، قال إنه اختار هذا المشهد تحديدًا لعلمه أن فاتن حمامة لن تفهم معظم ما يقول، وبالتالي ستوافق عليه من باب الحرج، وقد كان.
ليته كان المقلب الوحيد الذي ينتظرها من عمر.
الطلاقة في الإنجليزية لم تكن السبيل الوحيد للممثل من أجل العالمية؛ خاصة لو كانت الأدوار المطلوبة لأجانب يتحدثون الإنجليزية. لا يشترط أن يكونوا من أصول عربية، ربما روسية أو إيطالية، أو أسبانية، وبذلك يكون ثقل اللكنة مبررًا.
الفرصة إذن لا تزال متاحة. والعروض قائمة، وزادت بعد شهرة عمر الشريف عالميًا، ما كان يجعل فاتن حمامة تثير انتباه بعض صناع السينما العالميين بمجرد أن يعلموا أنها زوجة عمر، مثلما استفاد عمر منها محليًا حين كان وجهًا جديدًا، الموقف الآن انعكس.
أحمد زكي.. كيف استحق اعتذار روبرت دينيرو عن “زوجة رجل مهم”؟ | أمجد جمال
يحكي الصحفي عبد النور خليل في مذكراته عن فاتن حمامة أنه تصادف وجودها في حفل عشاء أقامه المنتج محمد فتحي إبراهيم رئيس شركة “كوبرو فيلم” التي أسسها القطاع العام كي تجتذب الأفلام العالمية لتصور مشاهدها في مصر.
على شرف الحفل حضر المخرج “تيرينس يانج” الذي اشتهر بإخراج أول أفلام سلسلة جيمس بوند Dr No (1962). وكان يحضر وقتها للفيلم الثاني من السلسلة From Russia with Love.
الحفل حضره لفيف من النجوم المصريين، لكن يانج أولى اهتمامًا خاصًا بفاتن عندما علم أنها زوجة عمر الشريف. وأبدى رغبته في إعطائها دورًا في فيلمه القادم مع النجم شون كونري، “لكن فاتن رفضت أن تكون واحدة من بنات جيمس بوند”.
خليل كان موسوعة تمشي على الأرض، لكن لا ينبغي أن يؤخذ كل كلامه كحقيقة مسلمة. لم يكن بحاجة للفبركة، لكنه بالقطع يحكي ما عرفه، دون تحقيق، ودون فصل بين المعلومة وتعليقه عليها.
لذا تجد في الجملة الأخيرة من حديثه ثغرة واضحة: كيف ترفض فاتن حمامة أن تكون من “بنات بوند” في جلسة عقدت 1963، أي حين لم يكن صدر من سلسلة بوند سوى فيلم واحد فقط، وبالتالي لم يكن مفهوم “بنات جيمس بوند” قد عُرف من الأساس، فهو نمط يكشف عن نفسه من خلال التكرار في عدة أفلام، مثله مثل بقية تقاليد أفلام جيمس بوند كالمطاردة التي تسبق تتر الافتتاح، وأغنية بوند.
المذكرات نشرها عبد النور في 2005. والتفسير الوحيد أنه استخدم مصطلح “بنات جيمس بوند” بلسانه لا لسان فاتن حمامة. والمذكرات لم تكن شديدة الدقة في المعلومات التي تتعلق بالجانب العالمي للفنانين.
أسباب أخرى تجعلني أصدق رواية خليل؛ أن تيرينس يانج كان معجبًا فعلًا بعمر الشريف لدرجة أن أخرج له أربعة أفلام عالمية.
أيضًا، الدور الذي يقال إنه عرضه على فاتن حمامة كان لامرأة روسية تتحدث الإنجليزية بلكنة. ومن أجل تسكينه، أجرى يانج بتجارب أداء عديدة لممثلات من دول لا تتحدث الإنجليزية، واستقر في النهاية على الإيطالية دانييلا بيانكي.
المفارقة أنه في مراحل توليف الفيلم حذف صوت دانييلا، واستعان بدوبلاج لممثلة أخرى؛ لأن لكنة دانييلا كانت أكثر غلاظة مما أراد. وكلها أمور توحي بأن ذلك الدور كان ملائمًا لفاتن في تلك المرحلة بالفعل.
أكثر المقولات إلهامًا حول صناعة الأفلام | أمجد جمال
حماس فاتن حمامة للعالمية تلاشى بالتدريج، وصرحت مرارًا في سنوات ما بعد 1970 أنها لا تصلح للعالمية.
تقول في التسعينيات: “السينما في الخارج لها مواصفات خاصة، منها الإثارة. والأفلام كلها وقتئذ كانت تعتمد على المشاهد الساخنة، والممثلة يجب أن تقبل بأي شيء يطلب منها: في الملابس والمشاهد، وهذا بعيد عن عالمي. ثم أنني أسعد بتقديم دور فاطمة أو عائشة لأنها شخصيات أفهمها وأعرف كيف تتصرف وكيف تلبس، لكن لا أعرف أن أكون جانيت الأوروبية”.
لست هنا في محل إلقاء اللوم على فاتن بسبب تحفظاتها التي أراها غير مهنية، لأنني لم أضع نفسي مكانها.
ما يثير التأملات أن فاتن حمامة كانت ضحية ثلاث مرات، مرة لزوج نذل، ومرة لنظام سياسي مستبد، ومرة لمنظومة اجتماعية ذكورية تتعامل بازدواجية فيما يخص العادات والتقاليد.
من دفاتر صلاح أبو سيف.. الواقعية والرقابة والجنس والنقاد | أمجد جمال
لم أذكر مغامرات عمر الشريف الجنسية في الحلقة الأولى بدافع المحاكمة الأخلاقية، لكنها كانت تمهيدًا طبيعيًا لفرضية انقلاب آية الامتيازات بين الجنسين. ماذا لو كانت ممثلة مصرية هي التي تقوم بتلك المغامرات خلف الكواليس إذا لم يكن مسموحًا لها بأن تمارس حريتها على الشاشات نفسها!
فاتن حمامة كانت على وعي بالخسائر التي وقعت عليها من المنظومة الذكورية في سنوات الستينيات.
ومع وفاة جمال عبد الناصر وعودتها إلى مصر، بدا واضحًا تغير طبيعة أدوارها وأفلامها. تمردت على شخصيتها السينمائية الضعيفة المغلوبة على أمرها التي تلف في مدار الرجال، وتعطي صورة محسنة عن المرأة الأليفة التي ينشدها المجتمع.
فاتن حمامة بعد العودة إلى مصر قدمت “الخيط الرفيع” و”إمبراطورية ميم” و”لا عزاء للسيدات” و”أريد حلًا”. أفلام كلها تشاكس كبرياء الرجال، وكأنها تنتقم لما عانته في سنوات الخطر من حياتها.
رواية “ليلة القبض على فاطمة” لم تكن ناقدة لثورة يوليو، لكنها أصبحت كذلك على يد فاتن حمامة حين أشرفت على تحويلها لمسلسل إذاعي ثم لفيلم.
فاتن حمامة صاحبة أشهر قبلة في تاريخ السينما المصرية، وكذلك أشهر سبة (يا ابن الكلب)، لم تكن تلك السبة موجهة لبطل الخيط الرفيع وحده.