من المتداول أن الدول الشيوعية كانت ضد الدين، لأن الشيوعيين يكرهون الدين، وملحدون، بينما الدول الرأسمالية كانت مع الدين، وبالتالي فإن الرأسمالية والدين متوافقان سياسيا.
هذا التفسير غير دقيق.
عداء الشيوعيين للدين، والدين للشيوعيين، آت من تنافسهما على القيم.
لقد اختص الدين طوال قرون بشعارات ”المستضعفين“، و“الرأفة“ والرحمة والتعاطف والتكافل الاجتماعي. واختص أحيانا بشعارات “الثورة” في نسخته المناوئة للسلطة .
ونصب رجال الدين أنفسهم قيمين على تلك القيم راعين لها. وسيطا بين السلطة والشعب إن كانوا قريبين من الأولى. وفي طليعة صفوف الناقمين من بين أبناء الشعب إن لم يكونوا. في هذه الحالة الثانية، قادوا الشعب لكي يحوزوا السلطة أو ينصبوا سلطة جديدة يكونون قريبين منها.
تنافسُ الشيوعية والدين على القيم المعلنة يعني تنافسهما على ملكية شعاراتها. وبالتالي تنافسهما على التحدث باسم جمهور هذه الشعارات، الفقراء والمستضعفين، وهلم جرا.
إن استمر احتكار الدين لتلك الشعارات، فماذا تفعل الشيوعية!
وإن استمر رجال الشيوعية في تقديم أنفسهم كرعاة الفقراء بقيم التراحم والتعاطف والتكافل، فماذا يفعل رجال اللجنة المركزية للدين.
إن الأقطاب المتشابهة تتنافر. هكذا يقول القانون الطبيعي. قانون الفيزياء.
والشيوعية لم تكن أكثر من ”المسيحية العلمية“. إن شئنا الدقة، ”البيزنطية العلمية“، أو المسيحية الشرقية العلمية.
حين اكتشف العالم المسيحي أن رجال الدين كانوا يروجون لمعارف أمية على أنها معارف مقدسة وإلهية، لم تكن تلك مجرد ثورة علمية على الدين. بل صار لها بعد اجتماعي. جعل الدين مقترنا بوضاعة المعرفة، بالطبقات الدنيا، بالتخلف عن الزمن. شيء مخجل للطامحين من أبناء الفقراء.
الحل الذي قدمته الشيوعية دون وعي هو الاحتفاظ بالقيم الاجتماعية للمسيحية، مع إزالة اسم المسيحية من عليها، وإلباسها قناعا من التقدمية ببعض إجراءات خاصة بالسلوك الجنسي ومشاركة المرأة. شيء يشبه ما يشاع عن حياة المترفين. لا أكثر ولا أقل. كأنهم يقولون للفقراء (هندلعكم ونعيشكم عيشة المترفين).
اقرأ أيضا: متى ننصت لصوت العقل؟
شيء شبيه بذلك حدث في بلاد الشرق الأوسط.
لقد صرنا نقول إن اليسار هو الإسلام السياسي ولكن بلا عبادات. هذا تقريبا ما حدث بين المسيحية والشيوعية.
الرأسمالية نبتت من زاوية مختلفة. ولذلك لم يكن غريبا أنها نبتت أولا في مجتمعات مسيحية خلعت عباءة النسخة القديمة من المسيحية وخلقت نسختها الجديدة المبنية على الفرد. ليس هذا اكتشافا مني. ماكس فيبر أعاد الرأسمالية إلى قيم البروتستانتية. قيم الدين الفردي. تحت عنوانين أساسيين. دينك حريتك كفرد، وأفعالك أنت المسؤول والمحاسب عليها كفرد.
ثم تمتد الفكرة الفردية إلى باقي جوانب الحياة. ليصير الفرد نواة المجتمع. والتنافس الفردي في المهارات والحظوظ هو مُشكِّل المجتمع. تماما كما يحدث في المسابقات الرياضية، وفي الفصل الدراسي، وفي الحِرَف. وبالتالي كانت الرأسمالية هي ”الطبيعانية“. أي محاكاة التاريخ الطبيعي. منتقدوها يسمون ذلك ”داروينية“، ويقصدون معنى سلبيا.
الدين والشيوعية كلاهما لا يحبان فكرة الانتخاب الطبيعي، ”البقاء للأنسب“، التي جاء بها دارون. بل يفضلان عالما وضعه مهندس. وأعطانا كاتالوجا يصلح في أي زمان ومكان. الدين يقول إن المهندس هو أبونا الذي في السماء، والشيوعية تقول إنه “الأخ الأكبر” الذي أزاح هذا الإله.
شاهد أيضا: قتل الملايين ورشح لنوبل للسلام! ستالين في أرقام
الإجابة في ثلاث نقاط:
١- العالم الذي يضعه مهندس لا مجال فيه للمفاجآت. ولا لتحدي سلطة الهيكل. لا مكان في المجتمع الشيوعي للدين. ولا في الدولة الدينية للمادية العلمية.
الدولة الشيوعية شعبها شيوعي بالضرورة. والدولة الدينية ناسها مؤمنون بالضرورة. أي تلاعب في هذا يقضي على أساس الدولة، ولحمة المجتمع، وقبول أفراده لقوالبهم المحددة.
٢- المجتمع الرأسمالي لا يحتفي بالفقراء. بل يحتفي بالمنجزين. في مجتمع كهذا من يقدم الدعم المعنوي لفقرائه، ومن يرقق قلوب أغنيائه؟ حتى الآن الإجابة الدين، ثم الدراما التليفزيونية والسينما. لذا كان وجود الدين ضروريا لاستقرار المجتمع، والحكم.
٣- المجتمع الرأسمالي المتمايز، المختلف الحظوظ، قائم على مبرر أخلاقي لهذا التمايز، وهو التنافس. منع الدين من التنافس يقضي على هذا الأساس الأخلاقي. ويقدم مبررا لرفض التنافسية كمنطق حياة. بتعبير آخر، يعطي مبررا للمتبرمين لكي يرفضوا الشروط ويخرجوا عليها.
لهذا كله، وجود الدين في المجتمعات الرأسمالية الحرة أمر طبيعي. مكون ضمن المكونات.