نزاعات الحدود البحرية في شرق المتوسط كانت شأنًا إقليميا. القوى العالمية الكبرى منصرفة إلى مصالح أهم.
لكن موارد الغاز الضخمة أثارت أطماع تركيا. صعد أردوغان الموقف ضد الجميع: الجيران في اليونان وقبرص، أعضاء الاتحاد الأوروبي – والناتو فيما يخص اليونان – ومصر من الضفة الأخرى،
انجر إلى التدخل العسكري في ليبيا، ليتحول شرق المتوسط إلى ساحة استراتيجية رئيسية تتلاقى من خلالها خطوط الصدع الجيوسياسية الأكبر التي تشمل الاتحاد الأوروبي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مدار السنوات الخمس الماضية.
س/ج في دقائق
كيف حولت الأطماع التركية أنظار العالم نحو شرق المتوسط ؟
بعد 2011، شهد الشرق الأوسط أحداثًا فريدة ومتسارعة أشرت لتغيرات جيوسياسية مهمة. تطورت الأحداث سريعًا إلى حرب أهلية في سوريا، وإزاحة الإخوان في مصر، وتدخل تركيا لدعم الإسلاميين في ليبيا، ثم الحرب في اليمن، ومقاطعة قطر، وتعقد الوضع السياسي والأمني في لبنان والعراق.
الاتحاد الأوروبي في السنوات اللاحقة كان مشغولًا باتفاق إيران النووي، ثم بالانسحاب الأمريكي من اتفاق إيران النووي، وتطورات الحروب الأهلية السورية خوفًا تدهور الأمن وقضايا اللاجئين.
والولايات المتحدة مشغولة بصراعها مع الصين، وفي الشرق الأوسط باحتواء إيران وملاحقة داعش والقاعدة.
في الخلفية، ظهرت اكتشافات بالجملة للغاز في شرق المتوسط. قدرتها هيئة المسح الجيولوجية الأمريكية بـ 3,455 مليار متر مكعب، تتراوح قيمتها ما بين 700 مليار و3 تريليونات دولار.
التغيير الحقيقي وفقًا لـ”فورين بوليسي” بدأ مع اكتشاف حقل ظهر في المياه الإقليمية المصرية في 2015، والذي كان مؤشرًا لكميات ضخمة في شرق المتوسط ككل، ثم بدأت الاكتشافات تتوالي، قبالة سواحل إسرائيل والأردن واليونان وقبرص.
اكتشافات شرق المتوسط عززت أطماع تركيا التي نشرت سفينة استكشاف قرب جزيرة كاستيلوريزو اليونانية في شرق المتوسط ترافقها بارجة بحرية، وهي منطقة تابعة لولاية اليونان.
المواجهة المفصلية كان في منتصف أغسطس 2020، عندما اشتبكت سفينة حربية تركية مع يونانية في شرق البحر المتوسط، ما زاد من التوترات في أكثر المواجهات البحرية القابلة للاشتعال منذ 20 عامًا في المنطقة، ليحول العالم أنظاره إلى المنطقة، وتبدأ استراتيجية جديدة.
تخطط أنقرة منذ فترة لأن تصبح مركزا إقليميًا يتحكم في مسارات الطاقة إلى أوروبا.
لكن الاتفاقات بين مصر واليونان قبرص وإسرائيل أحبطتها، وفي 2018، وجهت توتال الفرنسية ثالث أكبر شركة في الاتحاد الأوروبي من حيث الإيرادات ضربة أخرى لتركيا من خلال الشراكة مع إيني في عمليات تطوير الغاز للشركة الإيطالية في قبرص.
دورة التصعيد الأخيرة بين تركيا واليونان جعلت أوروبا تهتم أكثر؛ لأن اليونان تتمتع بدعم أوروبي كونها عضوا في الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى عضويتها في الناتو. عبرت الدول الأوروبية عن دعمها لمطالبها ضد تركيا.
تتخوف أوروبا أيضًا من سلوك تركيا ومحاولتها تحويل نفسها إلى شرطي المنطقة.
فرنسا أدركت الخطر مبكرًا، وتحركت لمجابهة الخطر التركي عبر دعمها لليونان وقبرص وتحركاتها في ليبيا ولبنان. على سبيل المثال زادت من دعمها للجيش الوطني الليبي في مواجهة حكومة الوفاق التي وقعت اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع تركيا، ولبنان زارها ماكرون بعد انفجار مرفأ بيروت، وهي زيارة تدخل في إطار الصراع على النفوذ بين تركيا وفرنسا في المنطقة.
التطورات الأخيرة دفعت تركيا إلى اتباع ما يُسمى بـ”دبلوماسية الزوارق الحربية”. انخرطت في سلسلة من التدريبات للزوارق الحربية في المنطقة، وأرسلت سفن الاستكشاف والتنقيب في المياه القبرصية ترافقها قوات بحرية. يُشار إلى الخلاف بين قبرص واليونان على مسألة الحدود، فتركيا لا تريد الاعتراف بحدود قبرص البحرية وترى أن من حقها التنقيب فيها.
ومع كل إجراء تركي في شرق المتوسط، تكتسب “الجبهة المصرية – الإسرائيلية – القبرصية – اليونانية” دعمًا عسكريًا متزايدًا من فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، والتي تمتلك كلا منها استثمارات اقتصادية كبيرة في غاز شرق البحر المتوسط. بالنسبة لتركيا، وهو الدعم الذي تراه تركيا استبعادا لها.
روسيا وفقًا “للمعهد الأوروبي للدراسات الأمنية”، تطور ببطء ومنذ زمن سياسة اختراق استراتيجي واقتصادي “بطيء لكن ثابت” في شرق المتوسط. على سبيل المثال تعمل منذ سنوات على دعم مجموعات سياسية وحكومية في قبرص واليونان بهدف إضعاف علاقتهم بالغرب وتوسيع نفوذها في المنطقة.
الاستراتيجية الروسية جعلت المصالح الأوروبية والروسية في المنطقة في موقف خلاف، حيث يسعى الاتحاد الأوروبي للحد من اعتماده على الغاز الروسي، ويشعر الأوروبيون بالقلق إزاء المخاطر المتمثلة في استغلال بوتين الأمر لصالحه في أي نزاع سياسي؛ وللتغلب على ذلك يطور الاتحاد طرقا جديدة للحصول على الغاز.
من بين المشروعات المقترحة استيراد الغاز الإسرائيلي عبر اليونان وإيطاليا وقبرص، ما يسمح لإسرائيل وقبرص بتصدير احتياطاتهما إلى إيطاليا وصولا إلى بقية أوروبا، ولذلك حصلت أوروبا على مقعد في اجتماع القاهرة الذي عقد في مارس الماضي لتأسيس منتدى غاز شرق المتوسط كبديل لبحر الشمال (طريق الغاز الروسي).
وفي محاولة من تركيا للخروج من عزلتها الإقليمية، وقعت اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق في ليبيا في نوفمبر 2019. التحرك استهدف في النهاية التحالف بين قبرص ومصر واليونان وإسرائيل في محاولة لدفع أوروببا إلى التخلي عنه بوصفه ذا كلفة عالية.
كيف دخلت الولايات المتحدة على الخط؟
في ديسمبر 2019، قدم مشرعان أمريكيان مشروع قانون إلى الكونجرس، يقترح تقديم مساعدات عسكرية لليونان وقبرص في مجالات التدريب العسكري ومنع بيع ونقل تكنولوجيا طائرات F-35 إلى تركيا وإعلان دعم الولايات المتحدة لجهود منتدى غاز شرق المتوسط.
وافق الكونجرس على مشروع القانون، واتخذت الإدارة الأمريكية خطوات أكبر نحو الحضور في شرق المتوسط.
الولايات المتحدة تعطي أولوية فائقة حاليًا لعلاقاتها مع اليونان وقبرص وإسرائيل، وتدعم التعاون بين هذه الأطراف، خصوصًا في ظل حضور وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو لفعاليات الحوار الثلاثي بين الدول الثلاث في 20 مارس 2019، والذي أكدت فيه الأطراف رفضها لأي تصعيد في شرق المتوسط وبحر إيجة.
والآن برزت حرب جديدة في المنطقة بين أذربيجان التي تدعمها تركيا وأرمينيا، ما جعل سرعة التحول الاستراتيجي إليها ضرورة ملحة.
وفقا لـ”التايمز” تسعى أمريكا حاليًا إلى تقليل الاعتماد العسكري على تركيا، وسط تزايد حالة عدم اليقين بشأن مستقبل وجود القاعدة العسكرية الأمريكية “إنجرليك الجوية” في تركيا، خاصة بعدما أعلنت تركيا عن خططها بشأن شراء النظام الروسي المضاد للطائرات S-400 رغم الاعتراضات الشديدة من الولايات المتحدة والناتو.
تصريحات مايك بومبيو، تشير وفقا لخبراء إلى أن الولايات المتحدة تفكر في نقل القاعدة الجوية اليونان. خاصة وأن سفينتا يو إس إس هيرشيل “وودي” ويليامز تقفان حاليا في خليج سودا مكان القاعدة الأمريكية اليونانية المشتركة. دون تجاهل تهديد الرئيس التركي بطردالجيش الأمريكي من قاعد إنجرليك إذا فرض الكونجرس عقوبات على تركيا.