ناقد فني
أصوات المطربين في أغاني الثمانينيات ليست الأجمل على مر التاريخ، لكنها طاغية في العاطفة والحماس والطاقة، دون أي مساعدة من الأوتوتيون. كانت الأستوديوهات تتحول لساحات حرب أثناء التسجيل وكذلك في الحفلات.
لم يقتصر ذلك على مطربي أغاني الثمانينيات الصاخبة ونوعيات الروك والميتال، بل ينطبق كذلك حتى على أصحاب الأغاني الهادئة والناعمة.
قبل سنوات الاحتراف والنجومية، عملت بوني تيلر طويلًا في الملاهي الليلية ببلدها ويلز. كانت تكسب قوت يومها بالغناء كل ليلة دون انقطاع، لدرجة أنها اضطرت فيما بعد لإجراء عملية جراحية في حنجرتها بسبب تراكم الإلتهابات.
تلك التجربة ميّزت صوتها بحشرجة جذابة. أظهرها هنا الملحن جيم ستيمان في أبهى حالة بأغنيتها الأشهر “الكسوف الكلي للقلب”، أغنية متطرفة في نقلاتها الموسيقية وفي صورتها التي تمزج الشاعرية بما يشبه عالم مصاصي الدماء.
في 6 أمثلة: لماذا تحمل أغاني أكتوبر ألمًا مكتومًا رغم الانتصار؟ | عمرو عبد الرزاق
في الستينيات والسبعينيات، سيطرت على الأغاني فلسفة التجريب وموسيقى الهلوسة أو السايكدليك، وكلها كانت تحاول التمرد على بنية الأغاني التقليدية تماشيًا مع موجة الثقافة المضادة. أما أغاني الثمانينيات فعادت لشكلها الكلاسيكي، لكنها صارت أكثر ملحمية وتطورًا، وكأنها تعلمت من دروس التجريبيين، فتحول الهدف من التجريب إلى هدف أبسط: صناعة “الهيت” وتصدر سباقات الأغاني بأي ثمن.
لم تلق أغنية العقارب نجاحًا كبيرًا في الولايات المتحدة في بدايات صدورها، لكنها أشعلت أوروبا، وخاصة فرنسا، التي وصلت فيها الأغنية لقمة سباقات الأغاني. وحين استضاف برنامج فرنسي فرقة سكوربيونز، عرض المُقدم إحصائية تفيد بارتفاع نسبة المواليد في فرنسا حينها، حيث أرجعه مازحًا للأثر العاطفي لتلك الأغنية. أعضاء الفرقة قرروا اعتبار تلك المزحة حقيقة.
معركة الشحاذ.. ماذا خسرنا بتنحية الفن انتصارًا لأبناء شكري مصطفى؟ | عمرو عبد الرازق
أغاني الثمانينيات أذابت الحدود بين الجونرات الموسيقية، فصار النقاد أكثر تسامحًا مع موسيقى البوب، وخفتت النبرة المنحازة للروك، فلم تعد موسيقى الروك تحتكر القيمة الأدبية الأعلى للجونرات كما الحال في الستينييات والسبعينيات. بل وتفككت الفروق الصارمة بينهم والجمود في الأساليب، فصرنا نسمع أصوات الجاز مثل آلات النفخ في أغاني البوب، ونسمع أصوات البوب مثل الكيبورد في أغاني الروك… وهكذا.
أغنية البوب التي تقدم أشهر صولو ساكسفون في تاريخ الآلة. يقول جورج مايكل أنه ألّف هذا الصولو بالصدفة أثناء ركوبه حافلة عامة قبل سنوات من شهرته. موضوع الأغنية نفسه مستلهم من قصص الحب التي عاشها في صباه. رغم ذلك خرج لنا بواحدة من أنضج وأعمق الأغاني عن الخيانة، وأفخمها من حيث الموسيقى.
مايكل أشرف على تسجيل صولو الساكسفون، ولم تكن النتائج ترضيه بسهولة، لذا استعان بأحد عشر عازفا مختلفا قبل أن يستقر على نسخته المفضلة.
أيهما الضلع الثالث؟ مثلث خيانة وقصة حقيقية من تايلور سويفت في “فلكور” | الحكاية في دقائق
تزامنت تلك الفترة مع إصلاحات ورخاء اقتصادي في دول الغرب، فهي فترة رونالد ريجان وسياساته التحريرية التي قللت الضرائب وشجعت المستثمرين وفرملت معدلات التضخم، ما تسبب في انتعاشة اقتصادية بمنتصف العقد وحتى نهايته انعكست على السوق الموسيقي مع استقرار وتنامي القوة الشرائية للجمهور.
بين حكايات الأخوين كيبلر وروايات سلافوي جيجك.. من صنع بؤس العالم؟ | مينا منير
ساعد في وجود الزخم الموسيقي ظهور محطات التلفزيون الغنائية وأبرزها MTV، وهي التي غيّرت معادلة النجاح والتسويق، وأصبح الجميع يسعى وراء تطعيم أغانيهم بأنسب وأجدد صيحات الفيديو كليب التي تضمن لأعمالهم البقاء لأكبر مدة على الشاشة، وهنا تدخل عنصر الشكل والإخراج والاستعراض التي تميزت به حقبة الثمانينيات.
تتصدر أرقام المشاهدات بين كل أغاني الثمانينيات. في سنة صدورها، فازت بست جوائز MTV من أصل ثمانية ترشيحات. تصوير الأغنية قدم فكرة جديدة في ذلك الوقت: قصة حب بين فتاة وشخصية في مجلة الكوميك التي تقرأها، بحيث تهرب الفتاة من عالمها الواقعي الممل وتخترق عالم الرسومات الأكثر رومانسية، فيحدث مزج تقني رائع بين الصورة الحية والكارتون.
استغرق الرسامون في تنفيذه 16 أسبوعًا. الجانب الموسيقي لم يقل في شيء خاصة في الافتتاحية المعزوفة بالكيبورد، وهي وحدها تكفي لنجاح أي أغنية.
سالمونيلا.. هل أصبحت الأغاني أذكى من الجمهور؟ | أمجد جمال
السبب 6: رغم أن هذه الأغاني لم تهتم بالرسائل السياسية كثيرا، إلا أنها كانت تسبب صداعا لزعماء ومسؤولي دول المعسكر الشرقي التي فرضت سياسات الرقابة والمنع على عدد من المطربين والفرق بحجج مثل ترويج الإباحية أو العنف أو مناهضة الشيوعية. لم تكن الأغاني تروّج لشيء سوى الرخاء وأسلوب الحياة المنفتح الذي تعيشه شعوب الغرب، وكان ازدياد تعلق الشباب الشرقي بها يسقط كل جهود البروباجاندا الشيوعية لشيطنة كل ما هو غربي أو متحدث بالإنجليزية.
قبل ساعات من سقوط “سور برلين” 1990، بثت الإذاعة الوطنية في برلين الشرقية الأغنية، وفي مطلعها علّقت المذيعة الداخلية “هذا صوت إذاعة برلين من الجمهورية الألمانية الديموقراطية.. والتي تختفي الآن”، وهنا تآلفت كلمات الأغنية مع المصير السياسي لتلك الدولة، فكان “العدّ التنازلي النهائي” ليس للسفر عبر الفضاء مثلما قصد أعضاء فرقة “يوروب” ولكن انقلب لعدّ تنازلي آخر لإسقاط النظام الشيوعي في غرب أوروبا. جوي تيمبيست مطرب الفرقة الرئيسي وملحن الأغنية يقول أنه في تلك الفترة وصلته عشرات الخطابات من سكان ألمانيا الشرقية يخبروه بأن أغنيته كانت نشيدهم الثوري أثناء تلك الفترة.
البوسانوفا .. ثورة البرازيل المغمورة التي شارك فيها فرانك سيناترا فكاد يهزم البيتلز | مينا منير
في الستينيات والسبعينيات كانت الكلمة العليا للفرق الغنائية، أما في أغاني الثمانينيات فعادت الغلبة لمطربي الصولو. انفصل مايكل جاكسون عن إخوته، وانفصل فريدي ميركوري عن كوين، وظهرت مادونا وبرينس وويتني هيوستن وسيدني لوبر وبريان أدامز، كما لمع بروس سبرينجستين. صحيح صعدت فرق جديدة، ولمعت بأغاني أخرى مثل Guns n Roses وBon Jovi وACDC. لكن ظل صعود النجوم المنفردين مؤشرا على شدة اشتعال المنافسة؛ وقد بات كل مطرب يتحمل وحده مسؤولية نجاح أو فشل مشروعه الغنائي، وهذا أتى بأثر إيجابي.
فكرة الأغنية جاءت لستيفي ووندر في منتصف السبعينيات، لكنها لم تكتمل إلا بعد أن طُلب منه صناعة بعض الأغاني الخاصة بفيلم The Woman in Red. واستطاع بتلك الأغنية أن يحصد عددًا من الجوائز المهمة، على رأسها أوسكار أفضل أغنية أصلية.
أثناء استلامه للجائزة قال أنه يهديها للناشط نيلسون مانديلا في سجنه، وكان ذلك سببًا لمنع الأغنية في جنوب أفريقيا لبضع سنوات وارتباطها بالمقاومة ضد العنصرية لاحقا، رغم أنها مجرد أغنية حب.
Leaving Neverland.. قضية مايكل جاكسون: السينما قاضٍ والجمهور هيئة محلفين | أمجد جمال
أغاني الثمانينيات تستطيع تمييزها بسهولة لو سمعتها دون علم مسبق باسم الأغنية أو مؤديها. سمات مثل الاستخدام الملحوظ لأصوات الكيبورد والآلات المُخلقة (Synthesizer) أيًا كانت الجونرا التي تنتمي لها الأغنية، وهناك الحدة الملحوظة في أصوات الإيقاعات. كذلك من السمات الصوتية الشائعة مؤثر الصدى (Reverb) المستخدم بكثرة في الأغاني، ليشعرك أنك تسمع الأغاني في ساحة مفتوحة.
ترددت فرقة برلين قبل أداء تلك الأغنية لأنها من كلمات ولحن مؤلفين من خارج الفرقة، خاصة حين علموا أن الأغنية ستكون التيمة الرئيسية لفيلم Top Gun، أي مرشحة لتكون أشهر عمل في تاريخ الفرقة، التردد سببه عدم رغبتهم في تسريب انطباع عنهم بعدم الأصالة والذاتية.
في النهاية قبلوا بأداء الأغنية ووضعوا فيها بصمتهم الخاصة، وأعجب بها صناع الفيلم لدرجة أنهم أعادوا كتابة الفيلم لإضافة مشهد فراش حميمي بين توم كروز وكيلي مجيلز، ليكلل المشاعر القوية الموجودة بالأغنية.
هل خلود الفن معيار لجودته؟ خمس ثغرات لهذه النظرية | أمجد جمال | دقائق.نت
كلمات أغاني الثمانينيات كانت مُحرضة على المشاعر وعادة ما تتخذ شكل القصائد، حتى أغاني البوب الجماهيرية بالتركيز في كلماتها تجد طبقات أعمق للمعاني. لكن العمق تركز في الأحاسيس لا الأفكار، بصفة عامة لم تكن الأغني مهتمة بالأيديولوجيات والقضايا الكبرى أكثر من اهتمامها بالتجارب الشخصية والتوزيعات والألحان. وذلك يرجع لأن فترة الثمانينيات لم يصاحبها زخم فكري وثقافي كالستينيات والسبعينيات مثلًا، فكانت معظم الصراعات السياسية في الغرب قد هدأت، حتى الحرب الباردة أخذت تزداد برودًا حتى نهاية العقد.
رغم أنها الآن بين أكثر أغنيات الثمانينيات شهرة وشعبية، لم تكن كذلك وقت صدورها وجمعت جمهورها على نار هادئة.
موضوع الأغنية التقدم في العمر، ومؤديها يصيح بثقة أنه يرد أن يظل شابًا يافعًا إلى الأبد، تبدو محرضة على التفاؤل لكن عمقها في غاية الحزن لأن الأمنية الجميلة تذكرنا بالحقيقة المرة، فالتقدم في العمر حقيقة لا يمكن مقاومتها بالغناء. أصبحت الأغنية فقرة أساسية في حفلات التخرج المدرسية والجامعية (Prom)، وحتى الآن لم تنتبه الأجيال المتعاقبة إلى أن الأغنية أكثر حزنًا مما يظنون.
فوائد الموسيقى | متى بالضبط يمكن أن ترسلها لفتاة وضعتك في الفريندزون؟ | شادي عبد الحافظ