ونحن نعيش اليوم موسماً للانتخابات في العالم العربي، نتذكر أن انتخابات كثيرة جرت في بلادنا منذ انتفاضات وفورات “الربيع”. بعض هذه الانتخابات كان مصيرياً مثل تلك التي جرت على موقع الرئاسة في مصر في يونيو 2012. بعضها جاء مفاجئاً ومُدهشاً، سواء في نتائجه أو في ظروف انعقاده.
ربما كانت الانتخابات البرلمانية الليبية التي جرت في يوليو 2012 هي الأعجب على الإطلاق. تخطت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات حاجز الـ 60% ، وهو سقفٌ قلما تصل إليه دولة عربية. الأكثر عجباً أن الانتخابات مرت بسلامٍ برغم وجود الميلشيات، اللهم إلا من حوادث بسيطة لم تؤثر في سيرها. وفضلاً عن ذلك كله، فإن الأحزاب الدينية (العدالة والبناء في الأساس، وهو ما يُعبر عن الإخوان المسلمين في ليبيا) لم تنجح سوى في الحصول على 17 مقعداً. بل إن الحزب الأكثر تطرفاً الذي تزعمه “عبد الحكيم بلحاج” (رجل الجماعة السلفية المقاتلة) لم ينجح في الحصول على أي مقعد، برغم تمتعه بدعم قطري قوي.
منبع العجب في التجربة الليبية هو أن نجاحها في إجراء انتخابات ديمقراطية كان بعيد الاحتمال. كانت تلك هي أول انتخابات تجرى بعد 40 سنة من حكم القذافي الذي أنسى البلد السياسة وذكرها وممارستها، وزاد على ذلك أن دمرّ أي وجود للمؤسسات فيها. كان لافتاً -بعد كل هذا التجريف- أن يحرص 60% من المواطنين على المشاركة في انتخابات المؤتمر الوطني العام (البرلمان). بل وأن يصوتوا بصورة أقرب ما تكون للعقلانية والنضج السياسي.
على أن المُحصلة النهائية لم تكن بمثل هذا البريق. بعد عامين بالضبط، وفي يوليو 2014، اضطر الليبيون أن يذهبوا إلى انتخابات جديدة تحت ضغط القوى الإسلامية التي خسرت للمرة الثانية في ظل نسب مشاركة أقل بما لا يُقارن مع جولة 2012. ومنذ هذه الانتخابات الأخيرة تعيش البلد حالة انقسام بين حكومتين أو ثلاث، من دون مؤسسات جامعة أو جيش موحد أو بنك مركزي. الإرهاب استشرى ونجح في احتلال مدن بأكملها، حتى صار تواجد داعش على الأراضي الليبية هو الأكبر بعد تواجدها في المشرق العربي، وأصبح تهديداً داهماً لا للمجتمع الليبي فحسب، وإنما للجيران أيضاً وفي مقدمتهم مصر.
الانتخابات الليبية نموذج لظاهرة تستحق التوقف عندها. في اللحظات التالية لسقوط الأنظمة، تُبادر الشعوب العربية إلى الخروج بحماس للمشاركة في عمليات الاقتراع. شيء مشابه جرى في الانتخابات العراقية في 2005 التي شهدت مشاركة ما يقترب من 12 مليوناً، أي بما يُعادل 76% من الناخبين. كانت مشاركة شعبية مشهودة، خاصة في ظل وضعٍ أمني كان أبعد ما يكون عن الاستقرار.
في الحالتين لم تُفضِ الانتخابات إلى أوضاع مستقرة. ظل العراق ينزلق من وهدة إلى أخرى منذ هذا التاريخ، إلى أن انتهى به الحال إلى خسارة نحو ثُلث إقليمه لصالح جماعات من العصابات من شُذّاذ الآفاق 2014.
يبدو أن الانتخابات لا تُقدم إجابات حاسمة على المُعضلات التي تواجهها المُجتمعات العربية. الحماس الأوليّ للمُشاركة في العمليات الانتخابية، غالباً ما يتبخر بعد أول تجربة مع الممارسة. الانتخابات البلدية التي أُجريت في تونس مؤخرا شهدت مشاركة لم تتجاوز 33%، بما يُكافئ تقريباً نصف المُعدلات التي سادت في انتخابات ما بعد “الربيع” في هذا البلد. الانتخابات النيابية اللبنانية الأخيرة شهدت عزوفاً شعبياً مماثلاً سماه الكاتب الكبير سمير عطا الله “الاقتراع بالامتناع”!
ليس العيب في الممارسة الديمقراطية بالتأكيد، بدليل أنها أفلحت عند غيرنا منذ زمنٍ طويل. ربما تكمن المشكلة في أن الديمقراطية – خاصة بشقها الانتخابي- ليست وصفةً طبية لمداواة جراح المجتمعات الغائرة والغابرة!. ليست حلاً سحرياً سريع المفعول للمِّ شمل الأوطان المُفككة أو إعادة النسيج الجامع للبلدان المُنقسمة. الديمقراطية الانتخابية ليست وسيلة لبناء كيانات وهياكل سياسية. هي تفترض وجود السياسة في الأساس. تفترض توفر الحد الأدنى من المؤسسية ابتداء. في غياب هذه الشروط، فإن الممارسة الانتخابية – على ما تمنحه من أمل جميل للشعوب في أول الأمر- تفشل في أن تكون باب الخروج من دوامة الفشل السياسي.
ما العمل إذا؟ الله أعلم!