ناقد فني
ليس هناك أسهل من رفض تجربة المخرج الأردني رامي ياسين في فيلم خط دم بحجة تقديم “خط الدم” لفكرة “الفامبيرز” الخارجة على ثقافتنا الشرقية.
لكن الصعب الإجابة على هذه الأسئلة: ما ذنب المبدع الذي وُلد في بلادنا وتشكلّت أفكاره وتفضيلاته من خلال ثقافة أخرى؟ ألم تتقلص المسافات الثقافية بعد ونحن في 2020؟ وهل كُتب على المبدع الشرقي البقاء في سجن التراث المحلي حتى وهو يتغذى منذ طفولته على تراث الآخرين بغزارة تفوق الأفكار المحلية؟
الافتتان بتراث الآخرين أحد تعريفات الثقافة، وهي فكرة فنية في ذاتها؛ لأنها خطوة أبعد نحو الخيال. هي ما جعلت الغرب يسبقنا بتقديم علاء الدين وعلي بابا وألف ليلة وليلة، بينما المبدع الشرقي يفكر ألف مرة قبل أن يقترب من تقديم فيلم “ويسترن” أو “نوار” أو “مصاصي دماء” أو “مستذئبين”.
بالمناسبة، قدمت السينما العربية معظم تلك النوعيات في السابق، بما فيها نوعية مصاصي الدماء التي قدمها المخرج محمد شبل في فيلمه أنياب (1981).
وشبل صاحبة تجرب سينمائية مميزة في سينما الرعب المصرية منها “التعويذة” و”كابوس” وهي تجارب لم تسلم من هجوم مماثل وقتها.
ما يتناساه المنتقدون لـ “خط الدم” أن فكرة “مصاصي الدماء” هي بالأساس أسطورة؛ أي أنها في كل الأحوال غير حقيقية بالنسبة للشرق أو الغرب الذي اخترعها.
لذا، فحين يقدمها مبدع غربي يكون ابتعد عن الواقع بخطوة، وحين يقدمها مبدع شرقي يكون ابتعد عن الواقع بخطوتين. في النهاية جميعهم خارج نطاق الواقع بدرجات متفاوتة، لكن المبدأ واحد.
أحمد زكي.. كيف استحق اعتذار روبرت دينيرو عن “زوجة رجل مهم”؟ | أمجد جمال
العبرة إذن بالنتيجة! بكفاءة التنفيذ، وإقناع التمصير أو التعريب. والحقيقة أن تمصير فيلم خط دم لم يكن مقنعًا لعدة أسباب،
أبرزها أن مخرجه لم يكن مهتمًا بالتمصير من الأساس، بل سلك مسلك تحييد هوية الفيلم، بسرد حكاية لأسرة أرستقراطية يمكنها أن تتواجد بنفس نمط الحياة في مصر أو هولندا أو سان فرانسيسكو أو هونج كونج، بينما التصوير الفعلي للفيلم تم في رومانيا. رغم ذلك هناك إشارات أن الأحداث تدور في مصر، تقتصر على شكل لوحات السيارة التي يستقلها البطل في بداية الفيلم، وتتعمد الكاميرا التركيز على تفاصيلها لتقول إننا في مصر.
يمكن التغاضي عن تفصيلة كتلك؛ باعتبار أن مصر التي يقدمها الفيلم هي ذات الطابع الكوزموبوليتاني، شكل المعمار ليس شائعًا في مصر، لكن ربما تجد قليلًا منه في أحياء جاردن سيتي أو مصر الجديدة. نوعيات السيارات داخل الفيلم لا تسير في الشارع المصري، لكننا لم نر الكثير منها على أي حال، ويمكن افتراض أنها نسخ جمركية خاصة ببعض العائلات.
ملامح الأبطال وأزياؤهم، وديكور المنزل، ولغة الحديث، وشكل الانفعالات لا يمت للمحلية المصرية بالكثير، فضلًا عن أن التقنيات السينمائية للطاقم الأجنبي الذي عمل على الفيلم جاءت أفضل كثيرًا مما يقدمه المصريون. لذا، فنحن لسنا أمام محاولة جادة للتمصير، بل لتحييد أو “علمنة” الهوية، والمخرج لا يُلام في ذلك، بل أرى أنه نجح في هذا التحييد.
سمير سيف.. 7 دروس في تصميم المشهد السينمائي | أمجد جمال
فيلم خط دم يقدم قصة طفل يصاب في حادث سيارة ويصبح بين الحياة والموت، ما يجعل والديه نيللي كريم وظافر عابدين يلجآن لقوى خارقة تنقذ حياته، لكنها تترك لديه عرضًا جانبيًا خطيرًا بأن تحوله من بشري لمصاص دماء. فيعود الطفل بعد غيبوبة استمرت عامًا ونصف للحياة، ليجد شقيقه التوأم تجاوزه في سنوات الدراسة، والأهم، سبقه في النضج، وتتأزم الأمور أكثر حين يدرك الطفل “الفامبير” أنه كُتب عليه الحياة إلى الأبد في ذلك الجسد الصغير.
قصة “خط الدم” تملك بداخلها خيوط إنسانية عذبة وعميقة، وتطرح أسئلة جادة عن الخلود والأبوة والأمومة والإيثار والتعايش، لكن المخرج رامي ياسين لم يركز كثيرًا في استثمارها بقدر ما انجذب لتطبيق أدوات الرعب بطريقة مراهقة في الثلث الأول من الفيلم، باعتبار أن أي فيلم عن مصاصي الدماء هو بالضرورة فيلم رعب، وذلك ليس حقيقيًا بالمناسبة، وهي مشكلة الفيلم الأبرز.
أتذكر هنا رائعة المخرج جيم جارموش Only Lovers Left Alive (2013) الذي استند على قصة لمصاصي دماء، لكنها كانت قصة رومانسية ولم تنزلق لرعب بلا داعٍ، مسلسل Supernatural يقدم أيضا أبطالًا من مصاصي الدماء، لكنه يهتم بحيواتهم العاطفية أكثر من التفاصيل المرعبة. وهناك أفلام مصاصي دماء كوميدية كذلك.
إذًا، مصاصو الدماء هي مجرد تيمة قصصية وليست جونرا (رعب، رومانسية، كوميديا)، لكن يبدو في فيلم خط دم أن صانعه خلط بين الأمرين، لذلك ظهرت العيوب.
10 اختيارات تمثيلية رفضها الجمهور ثم أثبتت صحتها | حاتم منصور
كيف كان الرعب دخيلًا على هذه القصة؟ الإجابة أن أحاسيس الرعب والفزع دائمًا مرتبطة بالخطر أو التهديد، لكن ما يقدمه المخرج رامي ياسين في الثلث الأول من الفيلم هو رعب بلا خطر أو مصدر مفهوم للتهديد، نشاهد أسرة متحابة، أفرادها مخلصون لبعضهم لدرجة المخاطرة بالحياة. لا دخلاء يهددونهم، بل العكس، أبطالنا هم من يهددون الآخرين الذين لا نأبه بهم كمشاهدين لأنهم ثانويون، بقدر ما نتعاطف مع الأسرة وأزمتها.
رغم ذلك، يبالغ مخرج “خط الدم” في استخدام أدوات الرعب. الموسيقى التي تعلو وتتصاعد بلا داعٍ. الخيالات المرعبة التي يخوضها الأبطال، رغم أن القصة ليست نفسية أو عقلية، ولا تستند على وجود أرواح شريرة مثلًا مسؤولة عن هذه الخيالات، لكنه أي “تمحك” في الرعب والسلام! الإنذارات الكاذبة والخضّات الرخيصة بأن يلمح أحدهم الآخر يسير في طرقة المنزل في الظلام. لماذا علينا أن نفزع بواسطة لقطات كتلك؟ لم يكن هناك قاتل مسلسل يطارد العائلة، فمم يريدنا المخرج أن نخاف بالضبط؟
لا أفرض على صانع “خط الدم” أن يقدمه بصورة معينة، وأعي جيدًا أن القصة بها عناصر كثير موترة للأعصاب، منها ممارسات افتراس الحيوانات الحية، وشرب الدماء، وغيرها. تسبب إحساسًا بعدم الراحة، لكنها مختلفة عن مفهوم الفزع الذي يتطلب خطرًا واضحًا.
أنجح 10 أفلام رعب في التاريخ |حاتم منصور
لم يظهر الخطر الحقيقي إلا في الثلث الثاني من فيلم خط دم. عندما يدرك مالك أو الطفل “الفامبير” بأنه سُجن في جسده، وكُتب عليه أن يرى أحباءه وهم يتقدمون في العُمر ويذبلون ويموتون بينما هو خالد في سجن الوحدة وسلسلة من الفقد. ونعلم قبلها أن الأب نفسه تحوّل لفامبير، ولم يعد قادرًا على ممارسة الحب مع الأم؛ لأنه بذلك يهددها بالتحول لفامبير مثله. هنا أصبح هناك خطر على بقية أفراد العائلة من داخل العائلة نفسها.
هنا فقط تظهر مشكلة درامية أخرى، وهي أن الخطر الجديد يمكن رؤيته كمنقذ في نفس الوقت، والفيلم يخيّرنا بإما أن تتعايش الأسرة رغم الاختلافات، أو يتحولوا جميعهم لمصاصي دماء ويعيشوا معًا إلى الأبد في تبات ونبات، وهو ليس خيار سيء لو فكرت في الأمر، على الأقل سيضمن لهم الخلود والتكاتف! ذلك يؤكد من جديد أن جونرا الرعب لم تكن المناسبة لعرض قصة كتلك.
الجحيم هو “نحن” في Us | حاتم منصور
رغم العيوب، أرى فيلم خط دم تجربة مهمة لا تستحق معظم الهجوم والاستخفاف الذي تلاقيه على السوشال ميديا. هناك عناصر بعينها تستحق الإشادة، أولهم الممثلة نيللي كريم التي لم تقدم أداءً قويًا فحسب، بل أداءً يثبت أنها الوحيدة التي تفهم المغزى الحقيقي من الفيلم، وما كان يجب أن يكون عليه.
عناصر الصورة في “خط الدم” تميزت بكل تفاصيلها، وبدا تأثرها بالفن التشكيلي الغربي وعوالم الـ gothic الأسطورية، إضافة لبعض التأثر الشكلاني بفيلم Cries And Whispers للسويدي إنجمار بيرجمان. وإن كنت أعيب على العناصر الصوتية وتحديدًا هندسة الصوت، التي جعلت كثير من الجُمل التي يهمس بها الممثل ظافر عابدين غير مسموعة أو مفهومة، ربما لأن الطاقم الصوتي لا يتحدث العربية. بينما جاء أداء الطفلين بيتر وجون رامي مقبولًا، وإن افتقد للتمايز بأية تفاصيل تجعلنا نفرّق بينهم.
يحسب لمخرج “خط الدم” رامي ياسين أنه يقدم نفسه للجمهور المصري للمرة الأولى بخطوة مغامرة وبفكرة خارج الصندوق، ويحسب له تمكنه من تقديم قصة تدور معظم أحداثها داخل مكان واحد دون أن ينال ذلك من فضول المتفرج لاكتشاف المزيد عن هذا العالم الصغير حتى لو لم تقنعه تفاصيل القصة وتطورها.