ناقد فني
أيام قليلة تفصلنا عن عرض واحد من أهم أفلام 2020 – إن لم يكن أهمها – Mank الذي أنتجته وتوزعه منصة نتفليكس ستبدأ عروضه في السينمات العالمية بشكل محدود يوم 13 نوفمبر، على أن تستقبله نتفليكس مطلع ديسمبر ليكون حفظ فرصته بالانتشار الجماهيري، وحجز مقعده للمنافسة على أكبر كمّ من جوائز الأوسكار في أبريل 2021.
عدة عناصر تجعل Mank الفيلم الأكثر انتظارًا في موسمي الخريف والشتاء؛ فهو من صناعة المخرج اللامع ديفد فينشر الذي يقدم مشروع أحلامه بعدما بقي في الأدراج لمدة تجاوزت العقدين.
مشروع Mank بدأ في 1993، عندما انتهى والده جاك فينشر من المسودة الأولى لنص سيرة ذاتية عن حياة الكاتب المثير للجدل هيرمان مانكويتس والمرتبط اسمه بتأليف ملحمة السينما الكلاسيكية المواطن كاين (1941) بمشاركة مخرج الفيلم وبطله “ورسون ويلز.
السيناريو الذي كتبه جاك يركز على الصراع بين مانكويتس وويلز على أحقية الأول بكامل الحق الأدبي في تأليف المواطن كاين دون مناصفة مع ويلز، حيث كانت الجائزة الوحيدة التي اقتنصها المواطن كاين من الأوسكار عن فئة الكتابة.
أجرى الكاتب “فيليب روث” بعض التعديلات على مسودة جاك فينشر لتكون جاهزة لينفذها ديفد فينشر بحلول 1997، واختار فينشر الممثل كيفن سبيسي ليجسد دور هيرمان مانكويتس، لكن المشروع توقف بسبب رفض الجهات الإنتاجية لرؤية فينشر بصناعة الفيلم بتقنية الصورة الأبيض والأسود تناسقًا مع صورة “المواطن كاين”، حيث اعتبروها مجازفة بالنسبة لفيلم ضخم التكلفة. وعاد السيناريو للأدراج وانشغل فينشر بمشاريع أخرى.
شغف فينشر بتنفيذ Mank عاد عندما شاهد Roma لألفونسو كوارون، والذي أنتجته نتفليكس بنفس المواصفات التي كان يطمح بها فينشر. أدرك الأخير أن هناك فرصه لتحقيق حلمه القديم، الذي أصبج مزودجًا بوفاة والده 2003؛ مرة كتحدٍ فني، خاصة وفينشر يحاكي السمات البصرية والصوتية للمواطن كاين، ومرة كتحية لروح والده الذي لم ينل تقديرًا وشهرة كافيين. ويمكننا إضافة ثالثة كتحية من فينشر لفيلمه المفضل “المواطن كاين” وهو فيلم يملك هالة أسطورية بتصنيفاته المتعددة كأفضل فيلم في تاريخ السينما بحسب معظم النقاد والمُنظرين وبتصدره قوائم الأفضل لمعهد الفيلم الأمريكي والبريطاني.
فيلم كليوباترا | كيف لخص اختيار جال جادوت أزمات الشرق والغرب المعاصرة؟! | حاتم منصور
ما سبق لم يكن كافيًا لو لم يتمتع Mank بقصة إنسانية مثيرة حول كواليس “المواطن كاين” التي لم تقل إثارة عن الفيلم الأصلي. مكمن الإثارة يكمن في وجود روايتين متناقضتين تاريخيًا حول ما حدث بين عامي 1940-1941 في كواليس الصناعة. كل رواية منهم لديها معسكر من المعتنقين. وانحياز ديفد فينشر لأي رواية منهم قد يوقعه تحت طائلة هجوم المعسكر الآخر.
النسخة الأولى من رواية كواليس المواطن كاين وهي الأكثر شيوعًا، وعلى الأرجح هي الرواية التي يتبناها ديفد وجاك فينشر، وتضعنا أمام Mank الكاتب الموهوب الذي ظلمته هوليوود مرة، وظلم نفسه مرة أخرى بسلوكياته غير المسؤولة؛ حيث اشتهر بإدمان الكحوليات والقمار لدرجة نالت من موهبته وسمعته.
شارك مانك في كتابة أكثر من 60 فيلمًا هوليووديًا دون نيل حقه الأدبي بوضع اسمه على التترات. كان ملقبًا بالرجل الأخف ظلًا في هوليوود. رغم ذلك لم تتعامل معه الستوديوهات بمنطق الكاتب أكثر مما عاملته بمنطق “طبيب السيناريوهات”، هذا ما نص عليه تعاقده مع أورسون ويلز في “المواطن كاين”، لكنه قرر التمرد على التعاقد حين أدرك أن ذلك الفيلم تحديدًا يختلف عن أي عمل آخر، وطالب بحقه الأدبي.
عندما رفض ويلز إضافة اسم Mank على تترات الفيلم تمسكًا بشروط التعاقد، هدده مانك باللجوء لنقابة الكُتاب، والتصعيد في الصحف حتى لو اضطر لشراء مساحات إعلانية يعرض فيها مظلوميته، كما هدده باستغلال علاقاته بكبار الكتاب والصحفيين مثل “بين هيكت” في الإشارة لحقه الأدبي بالعواميد والمقالات. تلك التهديدات اضطرت شركة RKO المنتجة لإضافة اسم مانك ثانيًا بعد ويلز في فئة الكتابة. لكن يقال أن ويلز هو من عدل الترتيب ليتصدر اسم Mank فئة الكتابة.
لكن الرواية الأولى لا تنتهي هنا. بعد سنوات من صدور المواطن كاين والمجد الكبير الذي حققه الفيلم، زاد شعور مانك بالظلم، وأرسل رسالة لوالده يقول فيها إنه كاتب كل سطر في النص السينمائي، وأنه قبل بمشاركة اسم ويلز عن الكتابة كنوع من الشفقة؛ لأن الشركة المنتجة اشترطت على ويلز أن يكتب ويخرج وينتج الفيلم باسمه ليتقاضى المبلغ المتفق عليه.
رحل مانك في عام 1953، لكن مظلوميته المزعومة لم ترحل معه.
تجدد النزاع في مقال طويل نُشرته نيويوكر 1971 بعنوان Raising Kane للناقدة الأمريكية الأكثر تأثيرًا بولين كايل. حاولت فيه تجريد أورسون ويلز من الحق الأدبي، والإشارة للمجد الذي كان يستحقه عبقري آخر هو مانك.
تم تضمين المقال كافتتاحية لكتاب السيناريو الخاص بفيلم المواطن كاين (المسودة النهائية). استعانت كايل بشهادة جون هاوسمان، مساعد أورسون ويلز الذي عُيّن كمشرف على الكتابة في “المواطن كاين” وكان ملازمًا لمانك في معظم مراحل الكتابة، وأقر لاحقًا بأن “ويلز لم يكتب كلمة في ذلك النص.” نفس الشهادة أكدتها ريتا ألكسندر، سكرتيرة مانك، التي كان يُمليها السطور لتدونها على الآلة الكاتبة.
أشارت كايل إلى أن شخصية المواطن كاين استندت بالأساس على شخصية ويليام رندولف هيرست، إمبراطور الصحافة المليونير، والذي ربطته بمانك علاقة مجتمعية، وكان مانك دائم التردد على الحفلات المخملية الخاصة التي يقيمها، وهو صاحب الفكرة الأساسية بأن تستلهم قصة الفيلم من أحداث في حياة هيرست.
والدليل أن هيرست نفسه لم يكن لديه شكوك في أن مانك هو المؤلف الفعلي للفيلم، ولذلك استهدفه في حملة قضائية وإعلامية كبرى بعد صدور الفيلم؛ لأنه عرّض أسرار حياته للعامة بصورة سلبية، صورة لم يكن ويلز يعلمها بالأساس.
مقالة بولين كايل أحدثت ضجة كبرى في الأوساط السينمائية ونالت بقوة من سُمعة ويلز، وقد استهدفت منظومة الستوديو العتيقة بشكل عام، والطريقة الظالمة التي تعاملت بها لسنوات تجاه “الكُتاب”، وكانت المقالة دعم لنظريات كايل المضادة لنظرية سينما المؤلف (Auteur Theory)، التي كانت تعتبر معركتها الثقافية الأبرز ضد زميلها الناقد أندرو ساريس صاحب النظرية، وطالما تراشق الإثنان بالمقالات حول الأمر، حتى جاءت كايل بصفعة Raising Kane لتؤكد على فكرتها بأن السينما وسيط تعاوني وليست وسيط المخرج.
سينما المؤلف والمخرج.. الفن يتسع للجميع
عدد من النقاد حاولوا التصدي لمقالة كايل، أبرزهم “بيتر بوجدانوفيتش” بمقالة Kane Mutiny 1972. بيتر جمعته صداقة قوية بويلز، شكك في عملية البحث التي أجرتها كايل، وقال إنها انتقائية؛ إذ استعانت بشهادة سكرتيرة مانك دون محاورة ويلز نفسه أو سكرتيرته كاترين تروسبر، التي رفضت ادعاء مانك لأنها كانت تدوّن ما يمليها إياه ويلز عبر الآلة الكاتبة في المسودة الخاصة به.
لكن الضربة الكبرى في مقالة بيتر كانت رد تهمة السطو الأدبي على كايل نفسها، حيث ادعى بالدليل أنها استعانت بمجهود بحثي أجراه أحد زملائها الأساتذة في قسم الدراسات السينمائية بجامعة كاليفورنيا “هوارد سوبر”، دون أن تذكر اسمه في مقالتها.
ويلز نفسه صرح أن كتابة الفيلم تمت بطريقة منفصلة؛ لأن الجلسات الأولى التي جمعته مع مانك لم تكن مثمرة، لذا فضل ويلز أن يكتب مانك مسودة، بينما يكتب ويلز مسودة منفصلة، وأضاف: “في النهاية أنا من صنعت الفيلم، أخذت ما يعجبني من مسودة مانك، وأبقيت ما أردته من مسودتي.”
الكاتب روبرت كالينجر حسم ذلك الجدل بمقالته The Scripts of Citizen Kane الذي نُشر عام 1978 وتحول لكتاب بعنوان The Making of Citizen Kane عام 1985، فند كالينجر ادعاءات كايل جملة بجملة، واستند في بحثه على 7 مسودات أصلية حصل عليها من شركة RKO المنتجة، ولاحظ في السبع مسودات كافة التعديلات التي أضيفت للمسودة الأولى بواسطة مانك، وكيف تحولت القصة من مجرد كاريكاتير ساخر عن ويليام هيرست، إلى قصة ذات أبعاد وتفاصيل أكثر من ذلك بفضل ويلز، وقال أن كايل في مقالتها لم تستدل سوى بالمسودة الأولى وتجاهلت بقية المسودات.
حكايات هوليوود المنسية (1): تمرد بيتي دافيز – أوليفيا دي هافيلاند الذي غير مسار هوليوود | أمجد جمال
في الأوساط الأكاديمية، تم دحض مقال بولين كايل، ومن ثم القصة التي ورائه، لكن يبدو أن جاك فينشر بنى عليه سيناريو فيلم Mank سواء كان مصدره كايل أو كتاب صدر عام 1978 بعنوان Mank: The World and Life of Herman Mankiewicz للكاتب ريتشارد ميريمان ويكرر نفس الرواية.
ديفد فينشر صرح مؤخرًا أنه يصور المسودة التاسعة المنبثقة من المسودة الأولى لوالده، ولا أحد يعلم على وجه التأكيد هل يتبنى وجهة النظر المضادة أم المبرئة لأورسون ويلز، أم يقع فيلمه في نقطة محايدة. لكن أحد المواقع سرب المسودة التي كتبها جاك فينشر في التسعينيات، ولوحظ أنها تتبنى وجهة النظر المتعاطفة مع مانك والمضادة لويلز لدرجة تظهره مثل أشرار أفلام الكارتون، كما أن ويلز لا يظهر طوال الفيلم بحسب تلك المسودة سوى من خلال صوته بمكالمات هاتفية يجريها مع مانك، قبل أن يظهر في الصفحات الأخيرة بصورة الشخص الانتهازي، وهو أمر يؤكده بوستر فيلم Mank الذي أصدرته نتفليكس منذ أيام وقد خلا من وجه الممثل الذي يجسد شخصية ويلز، مثلما لم يظهر أثره في التريلر.
في أحدث حوار لفينشر صرح أنه لم يُعجب برؤية والده المضادة لويلز في المسودة الأولى، وأن عمله في كافة مجالات الترفيه المرئية خلف لديه رؤية مختلفة حول شكل العلاقة بين الكاتب والمخرج. وفي نفس الحوار انتقد فينشر مقالة بولين كايل ورؤيتها “المخلة” لمطبخ صناعة الأفلام وعامل الصدف والعشوائية التي يتجاهله المنظرون.
فينشر الابن يبدو منحازًا لمهنته كمخرج، وفينشر الأب يبدو منحازًا للكاتب. لمن تكون الكلمة النهائية في Mank؟ أسابيع تفصلنا عن الإجابة، لكن لا شك أن رسالة الفيلم ستحقق على كافة المستويات في حال نجح فينشر بمد الجدل من النسب الأدبي لكتابة “المواطن كاين” لجدل آخر عن النسب الأدبي لكتابة “مانك”!