شخصيات غريبة. حوارات ومبارزات كلامية لا تُنسى. توظيف أغانٍ أو موسيقى قديمة في أغلب المشاهد بدلًا من الموسيقى التصويرية. أجواء فوضوية. إحالات لأفلام أيقونية أو لأفلام أكشن من الدرجة الثانية. ترتيب أحداث غير خطي. حمامات دم. يمكن للمرء أن يسرد عشرات العناصر التي ميزت أفلام المؤلف والمخرج كوينتن تارنتينو منذ بدايته، وجعلت منه علامة وسط أبناء جيله.
في فيلمه الجديد حدث ذات مرة في هوليوود Once Upon a Time in Hollywood يعاود تارنتينو استخدام أغلب ما سبق، وينتقل بنا إلى لوس أنجلوس عام 1969. عمر تارنتينو وقتها كان 6 سنوات فقط، لكن طبقًا لما يذكره في أغلب لقاءاته، فقد حفرت الحياة في لوس أنجلوس خلال هذه الفترة في ذاكرته الكثير.
قبل ظهور أي لقطة من الفيلم، يؤكد تارنتينو على أهمية زمن الأحداث باستخدام لوجو شركة “كولومبيا” الستينياتي القديم، بدلًا من اللوجو الحديث الذي يحمل اسمها الحالي (سوني)، في لمسة دقة زمنية لن يتركها الفيلم في باقي تفاصيله مثل الديكورات والماكياج والملابس وخلافه.
أحداثنا تبدأ عند ريك دالتون (ليوناردو دي كابريو). الممثل التليفزيوني الذي حقق نجاحات ضخمة بفضل مسلسل ويسترن خلال فترة الخمسينيات، ثم انطفأت نجوميته ليصبح ممثل صف ثانٍ يعاني للحصول على فرص عمل. دالتون رغم صلابته على الشاشة وشهرته بأدوار الرجل القوي العنيف، إلا أنه هش جدًا في الواقع.
مساعده المتخصص في أداء المشاهد الخطرة كليف بوث (براد بيت) هو النقيض التام والرجل الصلب الحقيقي. بوث رغم حياته المتواضعة يبدو أكثر سعادة وثقة في نفسه. وخلف وجهه الوسيم والبشوش، وجه آخر عنيف وحاسم وذكوري جدًا، وأقرب للشخصيات السينمائية التي يؤديها دالتون.
كلينت إيستوود يحارب الزمن فيThe Mule | حاتم منصور
يستفيد الفيلم من نجميه، ليس فقط لأن مشاهد دي كابريو وبراد بيت سويًا تعكس كيمياء لطيفة افتقدناها منذ عصور ثنائيات النجوم من أمثال (روبرت ريدفورد – بول نيومان)، لكن لأن لكل منهما قدراته الخاصة وبصمته وتاريخه السينمائي، التي استطاع تارنتينو توظيفها بشكل ساحر وساخر.
في العديد من مشاهد دي كابريو، نرى ممثلًا – دالتون – يعمل أمام الكاميرات. والتناقض التام بين كل ما نعرفه عن دي كابريو (أنجح نجوم جيله وأكثرهم تدقيقًا في اختياراته)، وبين ما نراه من دالتون المهزوز، عنصر كفيل بإثارة كوميديا لا تنتهي. اللعبة تتضمن مشهد يوبخ فيه دالتون نفسه، ويثبت فيه تارنتينو أن دي كابريو قد يكون منجم كوميديا، رغم شهرته بالأساس كممثل درامي.
براد بيت يستعيد رونقه كالنجم الـCool في كل لقطة، ويمنحه السيناريو – رغم كونه الدور الثاني هنا – مساحة أكبر من دي كابريو من حيث كونه الطرف الأكثر فاعلية في الأحداث.
هذا الثنائي (دالتون- بوث) يعاني من عجلة تغييرات ضخمة في هوليوود وقتها، تجعل كليهما على مقربة من نهاية مشواره المهني. لكنهما بالنسبة لتارنتينو كارت يلعب به لتقديم مشاهد مسلية عديدة، يمكن اعتبارها رسالة حب إلى هوليوود عامة ولكل صناعها، سواء نجومها ومخرجيها الكبار، أو صغار التقنيين والفنيين والعاملين.
العظماء السبعة: نجوم لا يجوز استبدالهم في هوليوود
في هذه الجزئية تكمن قوة الفيلم ونقطة ضعفه أيضًا. بالنسبة للمشاهد الأمريكي، والمشاهد المتيم بالسينما الأمريكية من أمثال كاتب هذه السطور، فهذا الكم من التفاصيل عن صناعة السينما، والإحالات لأفلام كلاسيكية مثل الهروب الكبير The Great Escape أو لأفلام الوسترن الإيطالية (الاسباجيتي)، يعتبر مصدر متعة لا تنتهي. لكنها بالنسبة للمشاهد العادي لن تملك نفس التأثير الساحر.
نفس الشيء يمكن قوله عن الشخصية الثالثة المهمة في الأحداث، والوحيدة الحقيقية. أعني هنا الممثلة شارون تيت (مارجو روبي)، التي نراها في مشهد مفعم بالحياة، يلخص متعة الذهاب للسينما، وسعادة أن تكون جزءًا من شريط سينمائي. يبني تارنتينو الحبكة هنا على أساس معرفة المتفرج بمأساة تيت، وسقوطها مذبوحة في صيف 1969 على يد جماعة مجنونة اقتحمت منزلها.
هذه معلومة وتفاصيل يعرفها كل أمريكي تقريبًا بسبب شهرة هذه الجريمة، لكنها ليست كذلك بالنسبة للمتفرج العالمي. وعدم معرفة أي متفرج بها عنصر كفيل بهدم الكثير من متعة الفيلم.
لنقتل إذًا من علمونا القتل في الأفلام.
العبارة السابقة ترددها إحدى الشخصيات الإجرامية في الفيلم، لكنها مع ما يحدث بعدها، بالنسبة لتارنتينو مفتاحًا للدفاع عن العنف في السينما، وعن مشواره الشخصي باعتباره محور اتهام دائم بالترويج للعنف.
PARASITE.. كلنا “طفيليون” بدرجة ما | حاتم منصور
عنف هوليوود لا يحتاج إلى تبرير من وجهة نظر تارنتينو؛ لأنه عنف مسلٍ وممتع، وجزء من عناصر الحواديت الجيدة. أما عنف الواقع والقصص الحقيقية فهو أكثر فوضوية من كل أفلامه وأفلام السينما عامة، وأقل عدالة ومتعة. أو بصياغة أخرى قد تكون رسالة تارنتينو هنا:
توقفوا عن ترويج هستيريا وهلاوس بخصوص تأثير عنف السينما وحواديتها؛ لأن منبع الجرائم الحقيقي شيء آخر في النفس البشرية.
بفضل هذه الجزئية وحدها، يكتسب حدث ذات مرة في هوليوود وزنه في مسيرة مخرجه، وفي المسار الحالي للسينما عامة.
في عصر أصبحت فيه السينما وحواديتها موضع حصار أخلاقي من تيارات الصوابية السياسية وموجات النسوية، يأتي تارنتينو ويطلق العنان للحدوتة السينمائية بكل مفرداتها الكلاسيكية، التي تكرهها هذه التيارات، مثل الطابع الذكوري للشخصيات، والعنف الدموي الفوضوي، والحس الأخلاقي الغائب. ويصنع فيلمًا لا يدين العنف على الشاشات، بقدر ما يدافع عنه، وعن حواديت هوليوود الحالية والماضية.
كيف أصبحت الأجندة النسوية المعاصرة في هوليوود منفرة؟ | حاتم منصور
نحتاج غالبًا لألف تارنتينو آخر! لكن حتى ذلك الحين، لا يسعنا إلا أن ننتظر فيلمه القادم بحماس، وأن نذكر أيضًا مبدعين آخرين ساهموا في حدوتة حدث ذات مرة في هوليوود، مثل مدير التصوير روبرت ريتشاردسون، ومصممتا الإنتاج باربرا لينج ونانسي هج.
كلها أسماء سنسمع اسمها غالبًا بجوار اسم تارنتينو في ترشيحات الأوسكار القادمة، وببعض الحظ قد ينضم إليهم براد بيت أيضًا كأفضل ممثل مساعد.
من المخرج الأكثر عشقًا للسينما بعنفوانها وجنونها وشطحاتها السردية، يأتينا فيلم يحمل كل بصماته السينمائية، ومدجج بنجوم ثقيلة الوزن، وأقرب لرسالة حب إلى هوليوود، أو لمرافعة للدفاع عنها وعن العنف السينمائي. إذا كنت من عشاق تارنتينو فلن يحبطك الفيلم غالبًا، أما إذا كنت من كارهيه فلن تجد هنا ما يغير رأيك.
مرشح لـ 10 جوائز أوسكار 2020 (فيلم – اخراج – سيناريو – ممثل/ليوناردو دي كابريو – ممثل مساعد/براد بيت – ملابس – مونتاج صوتي – مزج صوتي – تصوير – تصميم انتاج).
لماذا أصبح 1917 التجربة السينمائية الأهم في موسم أوسكار 2020؟ | ريفيو | حاتم منصور
Marriage Story.. لماذا نحتاج قصص حب عن الطلاق؟! | ريفيو | حاتم منصور
The Irishman.. كيف صنع سكورسيزي حفل تأبين “الرفاق الطيبون”؟ | ريفيو | حاتم منصور
Ford v Ferrari.. كريستان بيل ومات ديمون يتسابقان إلى الأوسكار | ريفيو | حاتم منصور