باحث بجامعة لوزان - سويسرا
كانت ليلة عيد ميلادي، حين انتظرت والدي بشوق كبير لنبدأ الاحتفال. عاد منهكًا من العمل وقد نسي هديتي. سألني إن كنت ما زلت أريد شراء فيلم علاء الدين من متجر الفيديو القريب. ذهبنا معًا واقتنيت تلك النسخة الرائعة التي حفظتها من كثرة مشاهدتها.
فيلم علاء الدين الذي أُنتج سنة 1992 ظل محفورًا في ذاكرتي إلى اليوم بكل تفاصيله وسيناريوهاته. تدور الأيام لأشاهد مع أطفالي فيلم علاء الدين الجديد، بعد نحو 27 سنة.
كان طبيعًا أن نرى شخصيةً واحدةً (علاء الدين) شاهدةً على زمنين يفصلهما ربع قرن. كانت فرصة كي نرى كيف أن الجمهور وصناعة السينما الأمريكية قد تغيرا في تناول نفس الرواية، تبعًا للتغيرات الاجتماعية والسياسية.
النسخة الأقدم من علاء الدين عُرضت فيما يُسمى عصر الإيجابية التي تشمل حقبة التسعينيات. حينها، انتهى تهديد الحرب الباردة بسقوط جدار برلين، وكانت الذاكرة الجمعية للأمريكيين تعقل بقدر كبير مخاطر الاشتراكية في ضوء تلك الحرب، كانت حالة الاقتصاد تنعكس على دخول أفضل للفرد.
جاء فيلم علاء الدين ليعيد اكتشاف سحر الشرق لدى الأمريكيين الذين بدأوا في التعرف عليه من خلال حرب الخليج ومشاهد عاصفة الصحراء. في الواقع، كانت الرواية الأصلية للفيلم في بغداد لهذا السبب، ولكن الحساسية المرتبطة بحرب الخليج وسوق الشرق الأوسط جعل المؤلف يستبدل بها مدينة “عقربة” الخيالية.
الفيلم رسم صورة خيالية في إبداعها وروعة تصاميمها. فأبعاد بهو وأعمدة القصر السلطاني الشاسعة، والتي تظهر فيها الشخصيات بحجم ضئيل، تنقل تصور المشاهد بشكل مقصود لعالم ساحر غير طبيعي وغير منطقي، وهو جوهر أساطير الشرق الأدنى التي خرج من رحمها علاء الدين. هذا النوع من الفن في التلاعب بالنسب يشتهر به الرسم البيزنطي.
في وسط هذا السحر كان من المقصود أيضًا رسم الشخصيات بدقة متناهية. فقوة شخصية الوزير الشرير جعفر لا تكمن في ملامح مخيفة أو قدرات عجائبية كما هي الأساطير والروايات التي تبنتها ديزني سابقًا، بل على العكس: في ثباته الإنفعالي الشديد ولكنته البريطانية الـ Posh، حتى أن مقولته الشهيرة لببغائه “عجوة”: Calm yourself Iago واحدة من أشهر التعبيرات التي انطبعت في ذاكرة الناس إلى اليوم حيث صارت ميمًا (Meme) شائعًا.
أما عجوة نفسه فكانت سخريته اللاذعة إحدى ركائز الفيلم، ولعل مشهده الشهير مع جعفر وهما يضحكان بات أيضًا أيقونيًا بعد ذلك.
بالرغم من الحرفية العالية في الموسيقى والشخصيات، والتي حصدت عشرات الجوائز العالمية، لم نرَ محاولةً لدس أيديولوجيا سياسية، دينية أو اجتماعية في عقول المشاهدين. فياسمين، كانت تلك الأميرة الجميلة ذات الشخصية القوية التي ستلعب دورًا مفصليًا في الانتصار على الشر، دون إقحام قضايا نسوية أو التلاعب ببراءة الأطفال الذين يتابعون الفيلم.
أما الصورة التي رسمت قسوة الحياة في عقربة، فكانت جزءًا أصيلًا من تلك الحالة التي رسمتها رواية علاء الدين نفسها: حياة بطل الرواية بين حواري تلك المدينة الصحراوية الضارية كـ “حرامي غسيل” وحياته كأمير بفضل مصباحه.
بالرغم من جمال صورة وسحر الشرق التي رآها وأحبها الغربيون عبر أعين علاء الدين وياسمين، هبت الجماعات العربية لمهاجمة الفيلم.
الأكاديمي اللبناني الأمريكي جاك شاهين سخر قلمه على مدار السنين لمهاجمة هذا الفيلم تحديدًا، باعتباره نموذج رديء لتصوير العرب بشكل نمطي وسيئ .
المنظمات الإسلامية مثل CAIR بدورها هاجمت الفيلم، وتحديدًا شخصية جعفر، وكأنه ليس بين العرب أشرار!
كل هذا النقد لم يؤثر في حقيقة شكل وانطباع الفيلم عند المشاهدين، وسحره الذي استمر لعقود، فالمجتمع كان قادرًا على التعامل بنضج مع الإبداع الفني.
نحن الآن في العقد الثاني من القرن الـ21، حيث ينبري اليساريون والنسويات لمهاجمة كلاسيكيات التسعينات مثل مسلسل Friends لأنها تفتقد لوجود مثليين وتعددية عرقية وامرأة تصرخ في وجه الجميع لتؤكد على مساواتها للرجل.
هذه أيضًا الحقبة التي قرر فيها أحدهم إعادة كتابة علاء الدين ليمحو عنه ذنوب ما قبل حقبة الصوابية السياسية. بوفاة جاك شاهين، التقطت بي بي سي الخيط في تحقيق لها منذ عامين لكشف “أزمة علاء الدين”، فكان العمل الجديد يحاك لاستبدال بديل “شرعي” بالفيلم الكارتوني.
يبدأ الفيلم بتغيير لكلمات أغنية Arabian Nights، بحذف كلمة it’s barbaric واستبدالها بـ it’s chaotic. ثم تتوالى التغييرات.
أما المشهد الفج في إقحامه غير المبرر فكان اللقاء الأول الذي يجمع السلطان بجعفر والأميرة؛ فبدون داعٍ يخبر السلطان وزيره جعفر أن سياسته تجاه اللاجئين من الدول المجاورة قد تشعل حربًا، لتؤكد ياسمين على الكلام، فيرد جعفر بحسم بأن ترك الحدود مفتوحة سيسمح لأعداد كبيرة بالدخول فتحدث الفوضى التي قد تدمر عقربة. بالطبع نفهم من هذا المشهد الخارج عن سياق الرواية رسالة بخصوص أزمة المهاجرين غير القانونيين عبر حدود الولايات المتحدة اليوم، وفيها يكون جعفر الشرير ممثلًا لترامب وكل من ينادي بضبط الحدود.
ولتجنب النقد الخاص بالهوية العرقية للممثلين، غير المؤلف شخصية الأمير الشرير الذي يتقدم لخطبة ياسمين فجعله أميرًا لمقاطعة اسكتلندية يتحدث بلهجة ألمانية! في مشهد سريالي في ركاكته.
أما جعفر، فقد اختير له الممثل مروان كنزاري الذي أخفق بشكل ذريع في دور “أشرف مروان” في فيلم الملاك بسبب الفارق الجوهري بين أدائه كشخص مهتز وعصبي دومًا، ويتقبل الركل من عملاء الموساد في أنفاق لندن، وشخصية أشرف مروان الحقيقية، بالغة الثقة في النفس لدرجة التهور.
هذا الفارق أيضاً يقف خلف الإخفاق الذريع في المقارنة بين دوره وشخصية جعفر الأصلية، الأمر الذي وُصف فنيًا بالمحرج.
أما الأميرة، فتقرر لها أن ترتدي زيًا أكثر حشمة تحت أبعاد نسوية تقضي بألا يُنظر إليها بشكل جنسي، حتى وإن كان ذلك يعني أن ترتدي زيًا هنديًا!
تلى ذلك أغنية جديدة جرى حشرها حشرًا في المشهد، حيث تصرخ في وجه كل الذكور، بما في ذلك أبيها الذي لم يعادها أصلًا، بنبرةٍ غاضبة لتقول أن لا أحد سيُخرسها.
لم تكن ياسمين 2019 أكثر حرية أو قوة من ياسمين 1992. فقط كانت أكثر نسوية؛ كيانًا مؤدلجًا مصطنعًا يكمل المشهد الصوابي الغاضب الذي أراد به صناع الفيلم أن يحشروا أجندتهم السياسية والأيديولوجية في حلق الأطفال والجمهور حشرًا.
أنوثة بري لارسن ونسويتها.. كيف أثرت على كابتن مارفل؟ | حاتم منصور
كيف أصبحت الأجندة النسوية المعاصرة في هوليوود منفرة؟ | حاتم منصور
الأمر دفع حتى بعض الكتاب في صحفٍ يسارية التوجه للتوجس حيال تلك المقاربة.
فهل نحن بصدد انهيار حقيقي في صناعة السينما إن لم تكن الثقافة عمومًا في الولايات المتحدة بفضل هستيريا الصوابية السياسية التي سيكون أول ضحاياها جيل الأطفال الحالي؟!
هل حققت ديزني أمنياتنا الثلاث في علاء الدين 2019؟ | حاتم منصور
جريتا ثونبرج.. دليل اليسار لإنتاج جماعات الكراهية | مينا منير
الأخوات المسلمات أمام تمثال العضو الأنثوي: الإخوان واليسار في غزوة سويسرا | مينا منير