الأساس الثقافي الأول للناطقين بالعربية نشأ على وسيلة أدبية أساسية هي الشعر، الذي كان متداولًا كوسيلة انتقال للمعرفة، وللشهرة وللردع بين مجموعات من الأميين قليلة العدد وقليلة المعرفة العلمية، وفي بيئة قاسية من الناحية المناخية والجغرافية، وبالتالي من الناحية الاجتماعية، حيث تخوض مجموعاتها صراعات طويلة للحصول على الموارد، وتكتسب الصراعات أحيانًا مظهرًا عبثيًا (كحرب البسوس مثلًا)،
ولتقوية سلاح الردع، اعتمد الشعر على كثير من المبالغات في المعنى، بالذات فيما يخص التفاخر بالقوة.
في القرن الأول للعصر الإسلامي، أضاف الفكر الديني للشيعة فكرة مقاومة السلطة، ولو باستخدام التقية، ليضيف بعدًا عقائديًا سياسيا لمعنى “انتصار الحق” إلى المعنى العقائدي العام من قبله، وليرفع من قيمة الشعارات في الفكر الديني.
وفي القرن التالي، الذي يعتبر عصر الذروة في الثقافة العربية، ارتفعت قيمة المبالغة في الألفاظ “الصنعة” في الشعر باستخدام البلاغة، لتضاف إلى المعاني المبالغ فيها، ثم لتبتلعها في النهاية في القرون التالية، بحيث يصبح الشعر الأجود هو الأكثر تكلفًا في الصناعة.
تلك الجذور الثقافية للناطقين بالعربية تعتبر ركنًا أساسيًا في جنوح الفكر الثقافي العربي للانتماء لمدرسة تقوم على الكلام والشعارات أكثر ما تقوم على التحليل والعمل.
وبالتأكيد، فإن لهذا تأثيره في المجال السياسي كما في المجال الثقافي.
إلا أن غزو هذه الأفكار للمجال السياسي ظل محدودًا حتى منتصف القرن العشرين؛ لأن النخب الحاكمة في المنطقة العربية ظلت لأكثر من ألف عام بعيدة عن التأثير الثقافي العربي المباشر، حيث انتمت إما لمجموعات “مستعربة” أو لمجموعات “مستغربة” في مراحل لاحقة.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، انطلقت مدرسة البعث في عالم الشعر بجهود محمود سامي البارودي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم وغيرهم، بالتواكب مع عودة الناطقين بالعربية التدريجي إلى ركب العالم الحديث، وتزامنت مع احتلال المنطقة من القوى الأجنبية، فصنع هذا حالة ثقافية من الرثاء للحاضر والحنين للماضي، حملها معظم جيل “الأفندية” في مصر والهلال الخصيب، باعتبارها مراكز ثقافة الناطقين بالعربية آنذاك.
يمكنك تأمل الشعارات القصيرة مثل “الاستقلال التام أو الموت الزؤام” لتدرك تأثير القوافي الشعرية مع المبالغة في المعنى في وجدان “أفندية” بدايات القرن العشرين.
مع عشرينات القرن العشرين، تصاعدت الفكرة القومية العربية في دول سايكس بيكو “الهلال الخصيب” باعتبارها حلًا مثاليًا للتناقضات العرقية والمذهبية في المنطقة، وبالتزامن مع صعود القومية في أوروبا، وبسقوط الخلافة عام 1924، انتشرت الأفكار المطالبة بعودتها متدثرة بنفس العباءة الثقافية المستندة لتمجيد الماضي وللمظلومية وللمبالغة.
في الأنظمة الشمولية.. لماذا يصل الأسوأ للقمة؟ | محمد فريد
ثم جاءت الثلاثينات بانتشار الإعجاب الشديد بالأفكار الفاشية.
لم تكن ألمانيا النازية، ولا ألمانيا عمومًا، في حالة صراع مع الناطقين بالعربية؛ فالاحتكاك الأخير بين الطرفين كان منذ سبعة قرون أثناء الحروب الصليبية، كما أنها تقاتل ضد أعدائهم “الإنجليز والفرنسيين”.
لكن السحر الحقيقي كان في فكرة ذوبان الأمة في شخص القائد “الملهم” التي استدعت أدبيات عودة المنقذ في الثقافة العربية من صلاح الدين إلى المهدي المنتظر، وتأثر الضباط الصغار بالأخص بهذه الأفكار، لميلهم إلى فكرة الانضباط الجماعي.
لم يكن انقلاب رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941، وانحيازه لقوى المحور إلا تعبيرًا صارخًا عن صعود هذه الأفكار، والتي أثرت في سوريا ومصر أيضًا، لكن تحت السطح ولو مؤقتًا: “من المعروف أن الحركة الوطنية المصرية مثلًا كانت منحازة لألمانيا وأن إذاعة برلين العربية كانت مسموعة في المنطقة بقوة”.
في هذه الفترة، سيتشكل حزب البعث الذي سيندمج لاحقًا مع حزب آخر ليصبح حزب البعث العربي الاشتراكي، والذي يبدو اسمه وحده دالًا على المزيج الذي يكونه.
بنهاية الحرب، انتشرت الأفكار البلشفية لتضيف مزيدًا من الأفكار اليوتوبية “الطوباوية” حول الجمود والدوجمائية السياسية المغلفة بشعارات أخلاقية وإنسانية، وأضافت قضية فلسطين الكثير من الحطب على تلك النار المشتعلة، ليصبح المسرح السياسي مهيئًا لنقل هذه الأفكار الثقافية الممتزجة معًا إلى عالم السياسة.
نقطة التحول بدأت في يوليو 1952 في مصر، لكن تأثيرها الخارجي الحقيقي بدأ في منتصف الخمسينات، مع إذاعة صوت العرب، وبداية التحريض على نوري السعيد وحلف بغداد.
ثم جاء الانتصار الكبير لهذا “المزيج الثوري” في أعقاب زلزال حرب 1956، والتي برغم الهزيمة العسكرية فيها فإن نتائجها السياسية المتمثلة في غروب شمس الامبراطوريتين البريطانية والفرنسية حول العالم، وصعود فكرة جمال عبد الناصر كبطل أوحد وزعيم، قادت لتحول هذا الوضع إلى نموذج، سواء في الدول القريبة ثقافيًا “سوريا والعراق وليبيا” أو للدول التي تخوض معركة تحرر “الجزائر وفلسطين واليمن الجنوبي”.
بناءً على كل ما سبق فإن العالم العربي تأسس فيه محور ثوري راديكالي بحلول مطلع السبعينات، يضم هذه الدول، بالإضافة للحركات القومية واليسارية الموالية لها في بقية الدول.
فمن جهة عادت مصر – بسبب أثر الحرب النفسي والاقتصادي على الشعب وصناع القرار معًا – إلى مدرسة الواقعية السياسية،
ومن جهة أخرى، ساهم ارتفاع أسعار البترول اللاحق في مزيد من التمكين الاقتصادي للعراق وليبيا والجزائر، ليدفعها نحو مزيد من الراديكالية مع رغبة في ملء “كرسي الزعامة”
ثم أضافت الثورة الإيرانية 1979 أول انتصار للفكر السياسي الشيعي القائم على المظلومية في المنطقة، ليتحول قطاع كبير من الشيعة العرب إلى الإعجاب بالإلهام “الفارسي”.
هل تدفع إيران أخيرًا فاتورة 40 عامًا من تصدير الثورة ؟ | عبدالله عيسى الشريف
ومنذ نهاية السبعينات، تغير الكثير في المشهد، إلا أن النقطة التي يصعب تجاهلها هي أن دول “جبهة الصمود والتصدي” التي قادت مقاطعة مصر بعد معاهدة السلام “العراق، سوريا، ليبيا، اليمن الجنوبي، الجزائر، فلسطين” تكاد تكون لا تزال متطابقة مع دول “محور الممانعة”، مع إضافة لبنان ومع اعتبار اليمن بلدا واحدا،
والفارق الأساسي أنها فقدت استقلالها السياسي لتصبح أكثر تبعية لإيران أو لتركيا.
يمكنك ببساطة ربط هذه الحالة الفوضوية بالأسباب الثقافية والسياسية المذكورة، لتستنتج أن الدوجمائية السياسية والشعارات استخدمت بالقوة كوسيلة لتوحيد منظومات سياسية هشة، لكنها زادت الطين بلة، فقامت بتفكيكها أكثر، لتنتهي رحلة البحث عن التحرر والوحدة إلى التبعية والتفكك.
الغزو العراقي للكويت | أغسطس 1990.. غروب الشعارات وصعود الواقعية | محمد زكي الشيمي