فور شروع الاحتلال الفرنسي في الرحيل عن الجزائر، لم يكن قادتها على قلب رجلٍ واحد.
تصارعت كتلتان على الاستئثار بالحُكم، هما "جماعة وجدة"، والتي ضمّت أحمد بن بلّة وهواري بومدين والطاهر زبيري،
وعلى الجانب الآخر "مجموعة تيزي وزو"، التي ضمّت محمد بوضياف القائد التاريخي للثورة وكريم بلقاسم قائد جيش التحرير.
تطور الخلاف بين الكتلتين إلى مواجهة عسكرية، كان النصر فيها حليفًا لجماعة وجدة.
اعتُقل بوضياف ونُفي إلى المغرب، واستأثرت "جماعة وجدة" بالسُلطة وحدها فقسّمتها بين قادتها البارزين.
في سبتمبر 1962، أصبح بن بلّة أول رئيسٍ لجمهورية الجزائر المستقلة، وعُين بومدين وزيرًا للدفاع ونائبًا لرئيس الدولة، ورُفع الطاهر زبيري إلى منصب رئيس الأركان.
لم يعنِ هذا أن الصراع على الحُكم قد انتهى.
انتشى بن بلّة بالشعبية الساحقة التي تمتّع بها فقرر التصرف كزعيمٍ ثوري، وسعى للاستحواذ على كافة السلطات في يديه.
فإلى جانب رئاسة الدولة، تولّى رئاسة الحكومة ووزارة المالية والإعلام ومنصب الأمين العام للحزب الحاكم.
وبات كل همه أن يُقلص نفوذ حلفائه إلى أقصى درجة ممكنة، ترقبًا للحظة يتحولون فيها إلى خصوم محتملين.
تخلّص بن بلة من معظم القادة الذين اعتقد أنهم سيُعيقون طريقه نحو الانفراد بالسُلطة كفرحات سعيد رئيس المجلس التأسيسي، ومحمد خيضر الأمين العام للحزب، ورابح بيطاط نائب الرئيس.
ولم يبقَ إلا التحدي الأصعب صديقه المقرب ووزير دفاعه قائد الجيش هواري بومدين.
يقول الطاهر زبيري في مذكراته: أصبح للجزائر قائدان بارزان متحالفان في الظاهر، ولكن كلاهما يتوجّس خيفة من الآخر؛
الأول قائد سياسي يتمتّع بشعبية واسعة ودعمٍ من الخارج خاصّة من الزعيم المصري جمال عبد الناصر، والرجل الثاني هو قائد عسكري صعد نجمه بسرعة بعد أن مال إليه الجيش، وأصبح الرجل القوي للمؤسسة العسكرية
سريعًا بدأ بن بلّة في "قصقصة ريش" بومدين، فعارض تدخّل الجيش في شؤون الحُكم، وتعمّد عدم استشارة هواري بومدين عند اتخاذ القرارات السياسية المهمة.
وهو ما رفضه بومدين لأنه لم ينظر لنفسه كمجرد قائد عسكري أنعم عليه رئيس البلاد بقيادة قواته، وإنما هو شريك في الحُكم لولاه لما أصبح بن بلّة رئيسًا.
في زيارة إلى مصر، اشتكى بن بلّة لعبدالناصر من انفراد بومدين بالجيش وكأنه يملكه وحده، فردَّ عليه عبدالناصر مازحًا "أنتَ لديك بومدين، وأنا لديَّ عبدالحكيم عامر".
سعى بن بلّة لكسر سيطرة بومدين المُطلقة على الجيش؛ أمر قائد الحرس الجمهوري بعدم الخضوع لسُلطة وزير الدفاع، كما أخضع قوات الشرطة لسيطرته المباشرة، وكذلك سعى لتشكيل ميليشيات عسكرية موالية له يستخدمها وقت اللزوم.
زادت هذه الإجراءات من نقمة بومدين على رئيسه، وظهرت القطيعة بين الرجلين إلى العلن،
بعدما لم يعد بن بلّة يصحب بومدين معه في في زياراته الرسمية.
بلغ الخلاف بين الرجلين ذروته خلال التحضير للمؤتمر الأول لجبهة التحرير الوطني في 1964م، حين منع بن بلّة بومدين من الاشتراك في المؤتمر.
أثارت هذه الخطوة حفيظة الأخير، فتقدم بصحبة مجموعة من المقربين منه، على رأسهم عبدالعزيز بوتفليقة الرئس الجزائري السابق، باستقالتهم من مناصبهم.
خاف بن بلة من أن تفجر هذه الاستقالات موجة من الخلافات تُفسد المؤتمر، وهو الأمر الذي قد يتخذه بومدين ذريعة لتدبير انقلابٍ عسكري ضده، فرفض هذه الاستقالات الجماعية فورًا.
في يونيو 1965، انهمك بن بلّة في الإعداد للمؤتمر الأفروأسيوي، كأكبر حدث دولي تستضيفه البلاد منذ استقلالها.
أمر بتشييد فندق خمس نجوم، وقصر مؤتمرات فاخر.
من جانبه، اعتقد بومدين أن بن بلّة سيستغل انعقاد المؤتمر الأفرو آسيوي، ليُعلن إزاحتهم جميعًا. وهي الخطوة التي لن يستطيعوا الرد عليها بأي تحرك عسكري بسبب تجمع رؤساء وملوك دول العالم في البلاد.
لذا قرّر أن يأكل بن بلّة قبل انعقاد المؤتمر، وقبل إقامته بثلاثة أيام فقط، حاصر الجيش مقرات الإذاعة والتليفزيون، وانتشر في الشوارع لمواجهة أي عصيان مدني قد ينفذه أنصار بن بلة.
وألقت قوة عسكرية القبض على رئيس الجزائر، وهي المهمة التي قادها الطاهر زبيري بنفسه.
فُجع عبدالناصر بتلك الحركة المفاجئة من بومدين، ولم يتكن يتخيّل أن الخلافات بينهما ستصل إلى هذا الحد.
رفض هذا الانقلاب فور معرفته به، وأعلن الحرب عليه.
نُظمت مظاهرات صاخبة ضد هواري بومدين في شوارع مصر، وبعثت مصر وفدًا في اليوم التالي لإعلان الحركة تشكّل من قائد الجيش عبدالحكيم عامر، والصحفي محمد حسنين هيكل.
طمأن بومدين رفاق عبدالناصر على صحة بن بلّة، وأخبرهم أنه سيخضع لمحاكمة عادلة، لكنه رفض طلبهم بتسليم بن بلّة إلى القاهرة
بعد هذه الزيارة، بقيت أجواء الغضب ملبّدة بين مصر والجزائر، وفرض عبدالناصر حصارًا سياسيًا على الجزائر.
لم ينقشع هذ الخلاف إلا في أعقاب نكسة يوليو بعدما دعم بومدين مصر بجانب من الأسطول الجوي الجزائري.
لعب الانقلاب الجزائري دورًا غير مباشر في إضعاف عبد الناصر.
ففي ذات العام الذي انتُخب فيه عبد الناصر رئيسًا للبلاد مرة جديدة بنسبة ساحقة 99.9% -وفق الأرقام الرسمية - تلقى تلك الصفعة الجزائرية من حيث لا يدري.
سياسيًا، ضُربت هيبة ناصر في العالم العربي في مقتل بعد عجزه عن حماية صديقه المُقرّب بن بلة، والانقلاب عليه دون أي تخطيط مُسبق بالقاهرة، وفشل وساطته في الإفرج عليه.
وهو ما وأد كافة طموحات ناصر لتعويض فشل الوحدة مع سوريا بوحدة جديدة مع جزائر بن بلّة وعراق عبدالسلام عارف، الذي كان يدور أيضًا في الفلك الناصري.
محليًا، أدرك عبدالناصر أن الدبابة وحدها مَن تصنع الرؤساء في العالم العربي خلال هذه الفترة، فها هو بن بلّة المجاهد ذو السُمعة الدولية والشعبية الطاغية يُطاح به من منصبه، واقتصرت الاعتراضات على بضعة إدانات دولية وحفنة مظاهرات داخل الجزائر وخارجها خفّت قوتها بمرور الوقت.
وفي غضون شهر، كانت الجزائر طوع بومدين وصحبه بلا معارضة.
لم يكن من المستبعد أبدًا نجاح هذا النموذج في مصر، فإذا رغب عامر في الإطاحة بناصر من السهل أن يجد حلفاء دوليين في من كان يصفهم ناصر بـ"الأنظمة الرجعية"، فيما ستكفل سيطرة عامر التامة على الجيش سيطرة تامة على الدولة إن رغب في الإطاحة بناصر من منصبه.
خوف جمال من "مصير بن بلّة" منعه من دخول المواجهة المحتومة مع عامر، فبقي على رأس الجيش، بصلاحياته المتضخمة التي نازَع فيها عبدالناصر على السُلطة.
أخطاء عدة ارتكبها عامر هذه السنة، ما كانت لتمرُّ.
ابتلع ناصر نبأ زواج عامر بالممثلة برلنتي عبدالحميد بمرارة، وآثر عدم التصعيد معه مرة أخرى.
أيضًا، خلال زيارة عامر للعراق أعدّ له أمين هويدي تقريرًا سريًا عن المسؤولين العراقيين الذين سيقابلهم. أهمل عامر هذا التقرير ووجده خدم الفندق على الأرض وحصلت المخابرات العراقية على نسخة منه، وكاد يثير أزمة بسبب تضمنه تحليلاً وافيًا -الإيجابيات والسلبيات- بحقِّ قادة العراق. لم يكن بمقدور ناصر معاقبة عامر فقرر سحب السفير من بغداد!
عيّن عامر صديقه شمس بدران وزيرًا للحربية، برغم عدم ثقة ناصر في كفاءته لهذا المنصب، وهو ما دفع الجيش ثمنه لاحقًا فادحًا بتحوّله إلى مؤسسة بيروقراطية جعلته عاجزًا عن الصمود في حرب يونيو.
فيما استأثر عامر برئاسة لجنة "تصفية الإقطاع"، التي امتلكت صلاحيات استثنائية وصفها السادات في مذكرات بأنها "أعنف إجراء شهدته مصر في تاريخها، وكانت تمثل قمة الإرهاب والكبت وامتهان الكرامة".
وبالتأكيد فإن استمرار عامر كأحد أهم مراكز القوى في السياسة المصرية، لعب دورًا في دفع ناصر لإنشاء ما عُرف بتنظيم "الطليعة العربية"، الذي خطط ناصر ليكون تنظيمًا جماهيريًا سريًا قادرًا على تحريك الجماهير عند الحاجة إلى ذلك أو عند الانقلاب عليه!
رغم ذلك لم يكن بمقدور ناصر الإطاحة بعامر إلا بواسطة "كارثة من السماء" أو نكسة تخسر فيها مصر سيناء. والمفارقة أن عامر سعى لاستغلال ذات الحدث للإطاحة بناصر لكن جمال كان أسرع وأكثر حزمًا لمرة أولى وأخيرة.
الانفجار، محمد حسنين هيكل (كتاب)
نصف قرن من الكفاح، الطاهر زبيري (كتاب)
الفرص الضائعة، أمين هويدي (كتاب)