باحث في جماعات الإسلام السياسي والتراث الإسلامي
فقرة لم تتجاوز الدقيقة عبر قناة الإخبارية الرسمية السعودية عن تيار الصحوة وأثره السلبي في المجتمع السعودي أثارت جدلًا لم ينته، بعدما تطرقت لجماعة أهل الحديث، وقالت إن منها السلفية المحتسبة التي خرج منها جهيمان العتيبي ومجموعته التي احتلت الحرم، وذكرت عرضًا أن شيخ جماعة أهل الحديث هو المحدث محمد ناصر الألباني.
والشيخ محمد ناصر الألباني هو سوري من أصل ألباني هاجر والده حنفي المذهب من ألبانيا، واستقر بدمشق، حيث تعلم عن والده حرفة إصلاح الساعات، ثم عمل بالمدرسة الظاهرية في دمشق، وهناك اهتم بكتب الحديث، فعمل على تحقيق الأحاديث، حتى ذاعت شهرته في علم الحديث.
عمل فترة في المدينة، ثم غادرها إثر خلافات دينية مع أساتذة الجامعة، فاستقر في الأردن أوائل الثمانينات، وهناك أسس ما يسمى بـ “السلفية العلمية” وبقي فيها حتى وفاته سنة 1999.
الإخبارية السعودية لم تتهم الشيخ ولم تحمله المسؤولية المباشرة عن الإرهاب. لكن التقرير فهم منه أنه ساهم بشكل غير مباشر في تأسيس تيار الصحوة وما نتج عنه من إرهاب.
الأول: ما هي جماعة أهل الحديث التي وصف الشيخ محمد ناصر الألباني بأنه إمامها؟ وفيم تختلف عن السلفية عمومًا والوهابية خصوصًا؟
والثاني: ما مدى مسؤولية الشيخ الألباني ومدرسته عن الارهاب؟
يروق للكثيرين من مؤيدي ومعارضي السلفية المعاصرة أن يحصروها في مدرستي ابن تيمية في القرن الثامن الهجري، ومحمد بن عبدالوهاب في القرن الثاني عشر الهجري:
معارضوها يحملوهما كل مشكلات التشدد والإرهاب وأزمات الخطاب الديني المعاصر، ومؤيدوها يعتبرونهما صحيح الدين وحملته الشرعيين. وفي كليهما اختزال ناتج عن قصور في فهم المذاهب الإسلامية وعقائدها وفقهها وتطوراتها.
بداية فكرة العودة للأصول في مواجهة الأفكار المحدثة متكررة في التاريخ الإسلامي، تأخذ أشكالًا عدة، بداية من أحمد بن حنبل وأهل الحديث، إلى المدرسة الظاهرية لداود الظاهري، ومن بعده ابن حزم، إلى الحركة المهدية في المغرب التي قامت على أساسها دولة الموحدين، إلى حركة ابن تيمية زمن المماليك، ثم مدرسة الدهلوي في الهند، إلى حركات الإصلاح في الزيدية اليمنية أبي الوزير والشوكاني والصنعاني، ثم حركة قاضي خان في الدولة العثمانية، وصولًا إلى حركة محمد بن عبدالوهاب في نجد.
وفي العصر الحديث، نجد محمد عبده ومحمد رشيد رضا وإخوان من أطاع الله في السعودية، والإخوان المسلمين في مصر، والتبليغ والدعوة في الهند، وجماعة المودودي في باكستان، وختامًا بالسلفية المعاصرة التي نحن بصدد الحديث عنها.
كل هذه الحركات تتفاوت فيما بينها مذهبيًا؛ منها الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي والزيدي، وعقديًا؛ منها الأشعري والحنبلي والحديثي والعقلي.
كما تتفاوت فيما بينها في درجة التشدد والميل للعنف والنظرة للآخر على اتجاهين: بعضها إقصائي يهدف إلى توحيد الفكرة وإقصاء المخالف، وبعضها تجميعي يهدف إلى تقريب المسافات بين المختلفين.
ويلاحظ أن درجة الشدة والإقصاء تزيد بحسب مدى اقتران الحركات بتحولات وحروب سياسية، مقابل حركات علمية بحتة في أوقات الاستقرار السياسي، وهي التي كانت الأقل عنفًا وإقصائية.
محمد رشيد رضا | وجهه الآخر.. رد أحاديث من البخاري ومسلم وندد بمذابح الأرمن | هاني عمارة
الحركة الوهابية التي قامت على مذهب محمد بن عبد الوهاب والتي تمثل حجر التأسيس الديني للدولة السعودية كانت تيارًا عقائديًا موجهًا بالأساس ضد الصوفية، وتحديدًا في مسألة بناء الأضرحة وما يتصل بها من طقوس النذور والدعاء وخلافه.
وحركة ابن عبد الوهاب أتت مباشرة بعد نهاية حركة قاضي زادة داخل الدولة العثمانية، التي قامت لنفس الغرض ضد الصوفية.
ويعتقد أن محمد بن عبد الوهاب استلهم منها دعوته، خصوصًا أن بعض الباحثين المعاصرين رصد نصوصًا لابن عبد الوهاب تتشابه مع نصوص في كتب محمد أفندي البركوي، كما أن الحركة لا تنفي انتسابها لمدرسة ابن تيمية وأحمد بن حنبل.
ومن يطالع كتاب محمد بن عبد الوهاب الحركي الأساسي “كتاب التوحيد” يجد أن أساس الحركة هو استلهام نصوص القرآن في مسألة التوحيد والشرك، واعتبار أن مشكلة معارضي النبي محمد في العهد المكي هي الشرك وليس إنكار وجود الله، وقياس أفعال مشركي قريش مع السلوكيات والطقوس المرتبطة بالأضرحة وبعض اعتقادات الصوفية.
وهذا هو الجانب الذي انتقد في دعوة الشيخ واعتبر تكفيريًا، خصوصًا مع ارتباطه الدعوة بحروب كان التكفير المتبادل فيها مسألة حاضرة.
أما من جهة الفقه، فالشيخ كان فقيهًا حنبليًا تقليديًا، يتناول الخلاف الفقهي بين المذاهب في كتبه الأخرى بشيء من الاحترام، فلم نجد له طعنا في أبي حنيفة أو الشافعي أو مالك. لذا، لم يكن لدى الوهابية عداء مع الفقه التقليدي والمذاهب الفقهية في العموم.
ولهذا كان أتباع محمد بن عبد الوهاب من بعده يلتزمون بدراسة الفقه وفق المذهب الحنبلي، وفي العقيدة من كتب الشيخ وكتب ابن تيمية ومتقدمي الحنابلة.
الحديث المتواتر والآحاد | هل أتى محمد بن سلمان بجديد؟ وهل له أثر على أرض الواقع؟ | هاني عمارة
مدرسة أهل الحديث مختلفة نسبيًا؛ لكونها بالأساس فقهية تقوم على تقديم الأحاديث على المذاهب. ولها سلف في القرون الثالث والرابع والخامس الهجرية، قبل إعادة الإحياء في اليمن على يد المقبلي والصنعاني، وفي الهند على يد عبد العزيز الدهلوي.
وفي العصر الحديث، أحياها رشيد رضا ومحب الدين الخطيب والمصري محمد حامد الفقي، مؤسس جماعة أنصار السنة، ومحمود خطاب السبكي، مؤسس الجمعية الشرعية، والتي منها جاء السيد سابق صاحب كتاب فقه السنة.
هذا الاتجاه وجد قبولًا من مدرسة الإصلاح بالأزهر، محمد عبده والمراغي ومصطفى عبد الرازق؛ لكونه يفتح باب إعادة الاجتهاد، ولا يتقيد بالمدارس الفقهية. لكنها كانت دائمًا ما تنتقد تشدده وحرفيته.
التحول الفعلي في مدرسة أهل الحديث جرى على يد الشيخ محمد ناصر الألباني بدءًا من ستينيات القرن الماضي..
كيف؟
تتفق سلفية الشيخ الألباني مع السلفية النجدية في أمور العقيدة بالعموم، وخصوصًا في قضايا الإلهيات والتصوف.
لكنهما يختلفان في الفقه؛ حيث يدرس النجديون الفقه الحنبلي التقليدي، وأصول الفقه المعتمدة، ويقرون خلافات المذاهب الأربعة، وخلافات المذاهب الفقهية الفرعية في العموم، ولا يحرمون التقليد، ويدرسون الحديث بشكل منفصل عن الفقه.
أما منهج الشيخ الألباني ومدرسته السلفية فتقوم على الحديث بالمقام الأول، بحيث يكاد يكون المصدر الوحيد للتشريع لديهم؛ باعتباره هو الدليل، مستدلين بمقولة: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”.
لذا، يعمدون لاختزال الخلافات الفقهية والفقه الإسلامي عمومًا في صحة أو ضعف الحديث، ويدرسون الفقه من خلال كتب شروح الأحاديث، خصوصًا عمدة الأحكام للمقدسي وبلوغ المرام لابن حجر.
وتميل المدرسة لعدم التقيد بأقوال المذاهب، وبعضهم يحرم التمذهب، ويحرم الأخذ بأقوال مذهبية تخالف ما يعتقدون أنه صحيح الحديث.
أما في الحديث، فهم لا يتقيدون بالمدارس القديمة، حيث يعمدون إلى جمع كل الأحاديث، ويقسمونها لصحيح وضعيف. ويعتبرون الصحيح مقبولًا بإطلاق، والضعيف مرفوضًا بإطلاق. وهو صنيع لم يسبقهم إليه أحد؛ حيث لا يراعون درجات التصحيح ما بين المتواتر والآحاد من جهة، وما بين الصحيح والحسن من الأخرى، فكلها عندهم عمليًا متساوية في الحجية والإلزامية، في الأصول والفروع.
ولهذا غلب عليهم التشدد في أتفه الأمور، حيث إن المسائل كلها بدرجة واحدة.
صعود وانهيار الإخوان في السعودية .. رحلتهم قبل تعهد بن سلمان بنهاية حقبة ٧٩ | س/ج في دقائق
منهج الشيخ الألباني – برغم رفضه حتى الآن من كبريات الجامعات الإسلامية في العالم – لقي قبولًا واسعًا لدى شباب الملتزمين وطلاب العلم المبتدئين. وهو ما أدى لنشوء تيار السلفية المحتسبة التي تستنبط الأحكام من الأحاديث مباشرة، وتمارس عليها الحسبة الشرعية.
لاحقًا، خرج من تيار السلفية المحتسبة مجموعة جهيمان العتيبي التي اقتحمت الحرم المكي. والتي كان لتصحيح أحاديث المهدي دور مباشر في إسقاطها على الواقع ودعمها لأحلام محمد بن عبد الله القحطاني.
وقد أقر المتهمون أنهم يقرأون كتب الشيخ الألباني وتأثروا بمنهجه الحديثي في الاقتباس من النصوص مباشرة، وترك التقليد والتمذهب، وبعضهم كان يحضر دروسه.
أما الشيخ الألباني نفسه فقد أنكر علاقته بهم، وقال إن مجرد قراءتهم لكتبه لا يجعلهم تابعين له أو معبرين عن منهجه. لكنه رفض وصفهم بالخوارج، معتبرًا أنهم “أخطأوا في مسألة”.
لم يعرف عن الشيخ الألباني فتاوى مباشرة تحرض على التكفير والعنف. وله كتاب فتنة التكفير يبرئ نفسه فيه منهم. كما يؤكد التزامه بالمنهج السلفي التقليدي بطاعة ولي الأمر وتحريم الخروج عليه.
ولهذا يعظم التيار المدخلي الشيخ الألباني.
لكن من ناحية أخرى، تعظم تيارات السلفية السرورية والسلفية الجهادية الشيخ الألباني كذلك.
سبب هذا التناقض أن منهج الشيخ الألباني في فقه الحديث المباشر كان يدعم تلك التيارات في الخروج عن الآراء التقليدية وعدم الالتزام بالمذاهب الرسمية؛ بحجة التزامهم بالأحاديث وتعطيلهم المذاهب الفقهية.
كما أن موقفه من الجماعات الإسلامية السياسية متناقض، وله فيها فتاوى وعكسها، فتجده في أماكن يمدح سيد قطب وحسن البنا، وفي أخرى يذمهما. واغلب تناقضاته تعتمد على تسجيلات؛ حيث تنتشر التسجيلات المجتزأة للألباني في دروسه.
هل هناك علاقة بين الوهابية والإسلام السياسي المسلح؟| س/ج في دقائق