لنبدأ بفكرة سيعتبرها البعض تفاخرًا مبالغًا فيه:
الحضارة المصرية القديمة هي أول حضارة سينمائية الطباع، قبل اختراع الكاميرا والسينما بقرون.
إذا كنت تعتبر الفكرة السابقة مبالغًا فيها، فتذكر أن فن صناعة الأفلام بدأ كعرض لصور ثابتة متلاحقة بغرض سرد قصص، مع بعض الجمل التي تظهر على الشاشة للتفسير، أو لخلق ترابط في السرد.
هذا تحديدًا نفس ما تراه في عشرات الجداريات والمعابد والمقابر المصرية القديمة. تدوينات وقصص على شكل سلسلة صور متلاحقة، مع جمل وكلمات لتكملة السرد.
يمكنك أيضًا أن تلاحظ اهتمام الفراعنة بالبصريات، في النحت والتماثيل العملاقة والزينة والملابس. وفي أعمال أعقد من كل ما سبق فنيًا وهندسيًا من الناحية البصرية، مثل وضع تمثال في مكان محدد، بحيث تتعامد عليه الشمس في أيام وتواريخ ثابتة سنويًا.
لكن موضوعنا هنا على أي حال لا يخص ما صنعه المصريون القدماء، بل عن الأفلام التي لامست بشكل استثنائي ما، الفخامة والهيبة البصرية التي ميزت حضارتهم ورسوماتهم. مع ملاحظة أن تسلسل القائمة طبقًا لترتيب العرض الزمني.
الأحداث عن طبيب وعالم ينضم إلى بلاط الفرعون. وشيئًا فشيئًا، يدرك أن حياته ومصر كلها على وشك صراعات ساخنة، بسبب تغيرات في القناعات الدينية للفرعون أخناتون.
بيدوفيليا وازدراء أديان | سبع أعمال أثارت غضب ملايين ضد نتفليكس | حاتم منصور
صنعت هوليوود سابقًا أفلامًا عن حضارة مصر القديمة. لكن المصري كان واحدًا من أوائل الأفلام التي حملت سحرًا بصريًا عن هذه الحضارة، بفضل ظهور الألوان وأبعاد الصورة العريضة، وغيرها من ألاعيب السينما الحديثة وقت صناعة الفيلم. وبالطبع بفضل السخاء الإنتاجي في الملابس والديكورات أيضًا.
تدور الأحداث من منطلق خيال صناع هذا الفيلم الذي أخرجه هوارد هوكس، عن فترة إصرار الملك خوفو على بناء مقبرته، التي نعرفها اليوم كواحدة من الأهرامات الثلاثة. وربما سيسهل على ملايين هنا كراهية هذا الفيلم؛ لأنه يربط هذا الإنجاز بجبروت فرعون واستعباد آلاف.
في كلمة (آلاف) السابقة، يكمن أيضًا سحر هذا الفيلم بصريًا. ضخامة المجاميع في عشرات اللقطات منحته رونقا مميزا جدًا، رغم عيوب عناصر عديدة أخرى.
مشهد من Land of the Pharaohs – لاحظ الأعداد
سبق للمخرج سيسيل دي ميل تقديم قصة موسى وفرعون في فيلم صامت أبيض وأسود عام 1923. وعندما عاد لتقديمها في هذا الفيلم، لم تكن السينما قد اكتسبت الصوت والألوان فقط، لكنها كانت اكتسبت أيضًا معايير جديدة في الديكورات والملابس والخدع البصرية.
الوصايا العشرة كان وقت صناعته (الفيلم الأعلى تكلفة في تاريخ هوليوود). لكن رهان شركة بارامونت كان في محله. بمجرد عرضه أصبح واحدًا من أنجح الأفلام في التاريخ، وبحسابات التضخم يظل محتفظًا بهذه الصفة حتى اليوم.
أنجح 10 أفلام في تاريخ هوليوود | حاتم منصور
جزء من رونق الوصايا العشر عامة – وبصريًا بالأخص – ينبع من طابعه الديني. نحن لا نشاهد فقط قصة من أشهر قصص الأديان الابراهيمية، لكننا نشاهدها بعين وخيال راوٍ متدين، يحاول جذبنا لملعبه الروحاني.
الفخامة والعظمة البصرية المتواصلة هنا لمصر القديمة، وفرعون وجيوشه وحاشيته في كل لقطة، ليست مجرد إبهار بغرض الإبهار، بل هي عنصر مهم يدمجنا في القصة، ومفتاح ضروري لفهم فرعون، وموقفه العنيد المتكبر، الرافض لفكرة وجود كيان أو إله أعظم منه.
القصة كانت موضوع عشرات الأفلام الأخرى بعدها. لكن حتى في فيلم حديث ضخم الإنتاج مثل Exodus: Gods and Kings ومع مخرج ثقيل الوزن مثل ريدلي سكوت، ونجم في شهرة كريستان بال، لم ينجح أحد بعد في زعزعة مكانة الوصايا العشر، كالعمل السينمائي الأيقوني عن موسى وفرعون.
كليوباترا حمل أيضًا وقت صناعته لقب (الفيلم الأعلى تكلفة في تاريخ هوليوود) بسبب حجم الإنفاق على الملابس والديكورات بالأساس. لكن على عكس الوصايا العشر، لم يحقق المطلوب منه في شباك التذاكر.
فتنة اليزابيث تايلور والبذخ الرهيب في الملابس والديكورات، وبصمة المخرج جوزيف مانكيفيتس التي تمنح لكليوباترا ومصر القديمة هيبة بصرية في كل لقطة، عناصر كافية لمنح الفيلم تذكرة استحقاق للتواجد هنا.
فيلم كليوباترا | كيف لخص اختيار جال جادوت أزمات الشرق والغرب المعاصرة؟! | حاتم منصور
لكن ما يميز فيلم كليوباترا أكثر وأكثر بصريًا، هو تلك المشاهد التي نرى فيها الفخامة المصرية في مواجهة الفخامة الرومانية. وحقيقة أننا لن نشاهد اليوم أبدًا مشهدًا كالتالي، في عصر أصبح فيه الجرافيك هو أداة استنساخ المجاميع العملاقة، وبناء الديكورات الضخمة.
مشهد وصول كليوباترا لروما
يقتبس هذا الفيلم البولندي أحداثه من رواية بنفس الاسم، عن فرعون شاب قليل الخبرة يتولى الحكم، وسط مخاطر متنوعة تهدد العرش والبلاد. وتحمل الرواية إسقاطات فلسفية عديدة عن السلطة والمسؤولية والقيادة.
الوجودية المسيحية بين بولس ونجيب محفوظ: قراءة في رواية “الطريق” | مينا منير
تم تصوير الكثير من مشاهد الفيلم في مصر، وما يميزه بصريًا ليس السخاء الإنتاجي على طريقة هوليوود، ولكن الاختيارات الجريئة مثل:
1- الطابع اللوني الذي يستبعد أغلب الوقت الألوان الزاهية، ويستبدل ذلك بدرجات باهتة، تجعل لأي شيء ذهبي أو ناري اللون، حضورًا بارزًا في أية لقطة.
2- التركيز على تفاصيل غير معتادة سينمائيًا. في مشهد لمعركة مثلًا، نشارك الجنود معاناة ما قبل الاشتباك، وإرهاق الجري وسط أرض صحراوية رملية.
جدير بالذكر أن المخرج المصري شادي عبد السلام، شارك في فيلم فرعون كمستشار فني ومصمم ملابس.
من المخجل أن يحضر فيلم مصري واحد فقط هنا، خصوصًا إذا وضعنا في الاعتبار أن اجمالي إنتاج السينما المصرية غير قليل من ناحية الكم. لكن المومياء الذي أخرجه شادي عبد السلام حالة سينمائية خاصة جدًا، لدرجة تعوضنًا نسبيا عن هذا الجرح.
أحداث الفيلم تدور عام 1881م عن شاب مصري، يكتشف أن قبيلته تعيش منذ قرون على سرقة وبيع الآثار المصرية القديمة، وعليه الآن أن يحسم اختياره. هل يترك الأمور على ما هى عليه، ويخضع لنظام القبيلة المتوارث وضغوطها؟ أم يختار تصحيح الأوضاع؟
مصر تتحدث عن نفسها وترد أيضا على نفسها .. بصوت أعلى | خالد البري
الحبكة لا تدور إذن في مصر القديمة على عكس باقي اختياراتي هنا، لكن ما يجعل المومياء جديرًا بالتواجد دون ثانية تردد، هو نجاحه في توظيف المكان والآثار كعنصر حاضر، يترك تأثيره على جميع الشخصيات.
حضارة مصر القديمة لاعب خفي لكن مؤثر في الدراما هنا، كشبح غامض نستشعر وجوده وثقله طوال الوقت، وبشكل بصري لا تخطئه عين أحيانًا، وقادر على اختراق عقلية أي متفرج. لاحظ هذه اللقطة مثلًا:
وللتقارب أكثر وأكثر، تحمل وجوه الشخصيات نفسها، ومساحات تعبيرها المحدودة جدًا، بصمة جمود قريبة من وجوه التماثيل التي تحيط بهم.
الإيقاع الهادئ والصارم جدًا للفيلم، يضغطك كمتفرج تدريجيًا لتصبح تحت سطوة هذا التقارب/ التباين بين الأحياء في الفيلم، وبين المصريين القدماء الحاضرين كتماثيل فقط.
ماذا حدث؟ ومتى انتهى العظماء وبناة هذه الحضارة القديمة، وحل محلهم مهربون ولصوص وأوغاد في جيل الأحفاد؟ وهل لا تزال هناك بقايا عظمة ما نحملها دون أن ندري، من جيل الأجداد؟ هذه الأسئلة هي روح الفيلم.
الهوية المصرية.. حينما تكون جنسيتك حقيقة بيولوجية | مينا منير | دقائق.نت
رغم وجود أسلحة سينمائية مهمة أخرى، مثل توظيف اللغة العربية الفصحى في الحوار لتضيف صرامة أكثر وأكثر، وتخلق احساسا أقوى بزمن الأحداث القديم، يظل أهم ما يميز المومياء هو سلاح الصورة. ولهذا لم يفشل في مخاطبة نقاد وسينمائيين أجانب، غير قادرين على فهم تأثير لغة الحوار المستخدمة، وشاهدوه مصحوبا بترجمة.
بالنظر لما سبق ذكره عن فيلم المومياء، وموهبة شادي عبد السلام كمخرج، وعلى سبيل التويست أيضًا، سختار الفيلم الأخير بطريقة مختلفة عما سبق. طريقة: ماذا لو؟!
إخناتون أو مأساة البيت الكبير، كان المشروع التالي لشادي عبد السلام في السينما الروائية بعد المومياء، وبالنسبة لكاتب هذه السطور، هو بدون منازع (أهم مشروع فيلم مصري لم ننجزه فعليًا للأسف).
6 أسباب لنكسة السينما المصرية المستمرة بخصوص أفلام حرب أكتوبر | حاتم منصور
النية كانت أن يبدأ التصوير عام 1972 واختار وقتها لدور إخناتون الجاد جدًا، فنانًا مسرحيًا شابًا مجهولًا جماهيريًا اسمه محمد صبحي. نعم هو نفسه النجم الذي تعرفه اليوم كممثل كوميدي بالأساس.
الديكورات والملابس اللازمة لإعادة ميلاد إخناتون على الشاشة، جعلت الميزانية المطلوبة نصف مليون جنية، وهو مبلغ مهول أوائل السبعينيات بمقاييس ميزانيات السينما المصرية. ولم يجد شادي عبد السلام موافقة سواء من منتجي السينما، أو من الجهات الحكومية التي مولت فيلمه السابق (المومياء).
على مدار أكثر من عقد كامل بعدها، ظل شادي عبد السلام مخلصًا لحلمه، وقام بتعديل السيناريو عشرات المرات، وصرح أكثر من مرة أن فيلم إخناتون مرتبط بحاضر مصر مثلما هو مرتبط بماضيها، لذا هو دومًا قيد التعديل طبقًا للمستجدات، حتى تأتي لحظة الدعم الإنتاجي، وإعادة بعث إخناتون على الشاشة.
لكن هذا الحلم السينمائي ضاع للأسف وانتهى تمامًا بوفاة شادي عبد السلام عام 1986 وبفقدان السينما المصرية لفنان استثنائي جدًا عشق تاريخ أجداده، وكان من الممكن أن يترك بصمة سينمائية أكبر وأكبر عن حضارتهم لولا مرضه.