إعلان المخرج داود عبد السيد قراره اعتزال السينما فجّر نقاشًا وجدلًا سينمائيًا كبيرًا.
صحيح أن الابتعاد نفسه ليس مفاجأة؛ لأنه أمر حادث بالفعل. لكن ما صنع الجدل كان الحيثيات التي طرحها وتتلخص في شعوره بغربة عن جمهور هذه الأيام ومنظومة الصناعة والسوق السينمائي.
بقدر شعور الحزن بسماع تصريحات داود عبد السيد وإحباطه من أحوال صناعة السينما وقرار اعتزاله، بقدر تفاؤلي بالمناقشة التي فرضتها تلك التصريحات، والتي قد تكون سببًا في إنقاذ السينما الفنية من أزمتها.
أخص السينما الفنية بالأزمة؛ رغم أن انتقادات داود طالت كل شيء آخر، وعلى رأسها السينما الجماهيرية التي يعيب عليها كونها تمارس دورها الطبيعي بأن تزداد جماهيرية.
فيما يخص السينما الفنية، فإن أهم ما ناقشه داود عبد السيد بالحوار هو علاقة المبدع الجاد بالجمهور وببيئته ومجتمعه، قدر تفاعله معه ودراسته، وذلك الخيط الرفيع بين قيادة الجمهور وبين التماهي معهم أو نفاقهم، معضلة تسليتهم دون تنازل كبير عن استقلال رؤيته.
والنقطة الأخطر التي طرحها كانت أهمية التمسك بأن يسير إبداع الفنان وفق دورة اقتصادية سليمة قائمة على مبدأ العرض والطلب، وليس بتمويلات المنح غير الهادفة للربح والتي تملي شروطها وأجندتها على المبدع، وتعطيه إحساسًا وهميًا بالحرية.
كل تلك النقاط المهمة طرحها عبد السيد في حديثه، وهي من الأمور الأساسية التي يجب حسمها من كل طامح بالعمل في مجال الفن دون تعالٍ، ولا سيمّا فن جماهيري بطبعه كالسينما.
ومجرد التفكير فيها هو تأكيد جديد على جدارة داود عبد السيد وأحقيته بالمكانة الفريدة التي اكتسبها لنفسه كمبدع حقيقي؛ لأن تفاعل الجمهور أو عدمه مازال يعنيه!
فيلم ريش | احذر وأنت تصنع فيلمًا فنيًا.. فربما يشاهده الناس! | أمجد جمال
من أوجه الفكاهة الذكية في ثقافتنا الشعبية، ارتبط الفنان الذي يلوم الجمهور بذلك المشهد الكوميدي العبثي لـ فريد شوقي وهو يؤدي دور المطرب الفاشل في فيلم “بداية ونهاية” حين ينفعل على الجمهور وينهال عليهم بالسباب والضرب لأنهم لا يحبون صوته!
الفارق هنا، أن داود عبد السيد ليس مخرجًا فاشلًا، بل صانع لأفلام جمعت المثقفين والأميين بطبقاتها المتعددة والتي لا تزال تؤثر في أجيال متعاقبة حتى الآن، منهم من اكتفى بالحدوتة ومن أثارته أعمق رمزياتها وهمومها، وهناك اتفاق على موهبته الفذة ورؤيته، حتى لو اختلفنا على بعض أفلامه.
هناك محاولات تاريخية من المثقفين اليساريين لاختطاف داود عبد السيد في دائرتهم، بل واختطاف تيار الثمانينيات كله (الواقعية الجديدة): محمد خان، عاطف الطيب، خيري بشارة، رأفت الميهي.
وذلك بادعاء مغلوط أن أفلام هؤلاء كانت نخبوية بحتة ودائمة الخسارة في شباك التذاكر، وذلك لإكمال سردية “الجمهور المقصر” في حق السينما الفنية. وأنه لا بأس إذن من التمادي في تجاهل هؤلاء الدهماء وصنع المزيد من الأفلام التي لا تستهدف الجمهور.
لم تكن تلك السردية إلا سببًا في مزيد من الفشل والغربة التي تتسم بها أفلام جيل الشباب من السينما الفنية الجديدة، هم ببساطة أساؤوا قراءة موجة الثمانينيات!
ولأننا في بلد بلا أرقام، وصناعة سينما بلا أرقام للفصل. عدت بالأرشيف لبعض العقود، وجدت الرد عند مخرجي تلك الموجة.
أسهل شيء هو الاتهامات وبدون الرجوع للإحصائيات، ولكن زميلنا د. محمد كامل القليوبي قدم إحصائية مع المنتج حسين القلا وجاء فيها أنه إذا كانت السينما تنتج في العام ٦٠ فيلمًا، فإن أفلامنا تقع في العشرة الأوائل من حيث الإيرادات. فهي، إذن، أفلام جماهيرية
بالورقة والقلم لم يخسر لنا أي فيلم والدليل على ذلك هو استمرارنا، بل أن هناك بعض الأفلام التي حققت إيرادات ضخمة لمنتجيها، والمنتج حسين القلا يذكر دائما أن فيلم “زوجة رجل مهم” من أكثر الأفلام التي حققت أرباحا لشركته
ذلك ما يتناساه بعض صناع السينما الشباب الآن، وحاضنتهم الثقافية التي تشجعهم على مزيد من الكسل وتعليق غربتهم عن الناس فوق الشماعات المعروفة. جميعهم التفوا على الفكرة الفنية التي قام عليها تيار سينما الثمانينيات، لكن غضوا الطرف عن فكرة الاستدامة الاقتصادية التي سار عليها رموز هذا التيار. داود منهم. والتي جعلتهم تيارا فنيا بحق يستحق الاحترام.
استخدمت كلمة “الاستدامة” بدل “الأرباح” لأن الأفلام ليس مطلوب منها أكثر من تغطية نفقاتها، ليس مطلوبًا من جميعها تحطيم شباك التذاكر، ولكن مطلوب من صناعها أن يظل الجمهور في حساباته وتطلعاته، حتى لو خسر الفيلم يظل لديه فرص نجاح أخرى بالتلفزيون والمنصات.
تلك كانت الرسالة الأهم في محاورة داود عبد السيد الأخيرة والتي فضل البعض تجاهلها؛ لأنها تعري كسل النخبة المعاصرة. وهذا نص ما قاله عن الاستدامة: “أفضل أن يتم تمويل أفلامي من تذكرة السينما“. مثلما كان يحدث في الماضي مع أفلام جيله والجيل الأسبق.
في أحد أجزاء اللقاء ينظر لفيلمه “البحث عن سيد مرزوق” بعين نقدية، ويمكن اعتباره الفيلم الأفشل جماهيريًا في كل ما قدم.
يعترف داود أن نبرته الطليعية وأسلوبه في الفيلم كان أسبق بخطوات كبيرة عن الجمهور وهذا ليس أمرا جيدا دائمًا، بل على المبدع الإمساك بالنقطة المتوازنة بين طليعيته وبين مزاج الناس.
وهو الأمر المتحقق في أفلامه التالية مثل “الكيت كات” و”مواطن ومخبر وحرامي” و”رسائل البحر” التي حققت شعبية وتأثير كبير.
وما قاله هنا دليل أنه لا يتعالى على الجمهور أو يلومه بمنطق فريد شوقي في المشهد الشهير. ولكن بمنطق أنه لم يعد مستعد للاشتباك، ولا مؤهل لدراسة هذا الجمهور والتعبير عن همومه التي يراها غير غائبة.
بكلمات أخرى يرفض دخول المعركة من بابها.
يعترف داود في لقائه، أنه لا يعرف شيئا عن مجتمع السينمات الجديد، ورمز له بمنطقة التجمع الخامس، وتلك الطبقة المستعدة لدفع ٧٠ أو ١٠٠ جنيه في تذكرة سينما، هو لا يعرف عن تلك المجمعات السينمائية الفارهة سوى أسمائها، لا يعرف حتى طريق الذهاب لها بسيارته ولا ينوي.
هذا موقف سلبي وانهزامي، ويجعله في نفس الجيتو الثقافي مع صناع السينما المستقلة الجديدة، فقط يتفوق عليهم في الترفع وعزة النفس التي تجعله يرفض أن يقدم فنًا بالتبرعات وخارج منظومة العرض والطلب.
البواب في السينما | أخلاق القرية في أرقى أحياء العاصمة.. الحياة تحت وصاية عبد السميع! | أمجد جمال
شكوى داود متجاوزة المحلية، هي نفسها شكاوي سكورسيزي وتيري جيليام وكوبولا.
والأدهى أن مخرجا من عيار ريدلي سكوت نفسه، والذي كان مصنفا باعتباره المخرج الشعبوي الأبرز في الثمانينيات والتسعينيات، خرج منذ أسابيع بنفس الشكاوي!
حتى ستيفن سبيلبرج الذي اخترع مفهوم “البلوك باستر” ورائد السينما الكونية لم يعد يملك ترمومتر الجمهور، وصارت أفلامه بعيدة عما يطلبه الناس تمامًا.
العالم يتغير، ليس شرطًا للأفضل، لكن التغير أمر واقع. وأزمة السينما عالمية. في عادات المشاهدة وثقافة الجمهور وأسلوب إدارة الوقت، وشكل الوسيط المرئي الترفيهي نفسه.
هؤلاء المبدعون يخاطبون جيلا شبّ على الهواتف الذكية وتطبيقات التواصل، ومجانية المعرفة والمحتوى. بالطبع هذا جمهور مختلف، والمؤكد أن لديه همومه الخاصة حتى لو كانت مخبأة في أسلوب حياتهم المبهرج ظاهريًا.
ربما على داود عبد السيد أن يفعلها ويذهب لسينمات التجمع الخامس التي تخيفه ولا يستسلم لأصوات فقاعات الإحباط ومنطقة الراحة التي تجوّد على تصريحاته وتضغط عليه من أجل تسييس موقفه، فمشكلته أساسًا فنية ثقافية، مشكلته في التواصل المفقود.
أما مسائل كالاحتكار والرقابة فيسهل تجاوزها بقليل من المرونة والحنكة.
داود ذكر أن أفلامه كلها عن ذلك البطل الذي يخرج من شرنقته لعالم آخر ويخوض تجربة تغير حياته، مثل يحيى ويحيى ويحيى.
ليس على داود عبد السيد الاعتزال، بل عليه أن يخوض بنفسه رحلة مثل يحيى لعالم السينمات الجديد،
فليتحمل إصلاحات الطريق الدائري وفلاش رادارات شارع التسعين، وصخب الفود كورت، وعتمة النظارات ثلاثية الأبعاد وشراء بعض السلع التي لا يحتاجها في سبيل مشاهدة فيلم مع هذا المجتمع ليفحصه برؤيته النقدية السديدة.
فقط عليه الاقتراب لا الابتعاد والشكوى.
لعله تماهى مع هذا المجتمع وخاطبه بفنه، وربما تأكد نفوره وخرج بقصة تنقدهم وتسخر منهم.
عليه أيضا أن يدخل لعالم المنصات ويتعرف على التغيير الكبير الذي أحدثه في ثقافة المشاهدة،
فليشاهد مثلا الفيلم الأخير لآدم مكاي Don’t Look Up على نتفليكس، ليتأكد أن الجمهور دائما مستعد للاستمتاع بفيلم يسخر منهم ويصفعهم على وجوههم بشرط أن يكون مبدعه قريبا منهم ويعرفهم حقا، والأهم يهتم بتفاعلهم.