ناقد فني
كان طبيعيًا أن تتفرد السينما المصرية بتناول شخصية “البواب”، وهو اختراع مصري صرف، يصعب العثور على مقابل له في ثقافات أخرى.
البواب ليس مجرد حارس عقار كما تجري التسمية أحيانًا، بل أكثر من ذلك.
البواب يساكن من يحرسهم. يصبح جارًا لهم بالتكليف. وليته مجرد جار عادي، بل مدير تنفيذي للعقار، وموظف استعلامات، ورجل طوارئ، وخادم. يعرف تفاصيل أكثر من اللازم عن حياة الجميع.
البواب لا ينتمي جغرافيًا ولا ثقافيًا للمدينة، التي هي بيئة من يحرسهم. يجب أن يكون ابن القرية المصرية، عادة من القطر الجنوبي. لو كان ابن العاصمة أو المدن لتغير مسماه الوظيفي وطبيعة عمله لفرد أمن متنقل يعمل بالوردية، ولا يهتم سوى بالجانب الأمني للوظيفة، بينما البواب يستمد جزءا من طبيعة مهنته من أصوله الريفية والقبلية.
القدوم من القرى الأكثر فقرًا وتخلفًا جعل سكان العمارات يعتقدون أنه سيسهل السيطرة عليه، وأنه كذلك سيرضى بالقليل ولن يكلفهم أجرة كبيرة. مع تناسي أن الخلاف القيمي بين القرى والمدن سيطاردهم فيما بعد لو تنامى نفوذ هذا البواب. وأنه قطعًا سيحتفظ ببعض الأحكام عليهم منها المعلن والباطن.
الصراع على “الدلع”| كيف هزم رجال الدين الدولة الحديثة بالحياة الشخصية | خالد البري
أحكام البواب مستمدة مما نسميه “أخلاق القرية”. عرفنا تلك المنظومة من السينما بعدد من الأفلام على رأسها البوسطجي ١٩٦٨ للمخرج حسين كمال، ويمكن تخيل أهل قرية “كوم النخل” في هذا الفيلم كمفرخة مستقبلية للعاملين في وظيفة البواب.
الازدواجية، التلصص، الجهل، وأعتى درجات الذكورية الكريهة، هي خلاصة تلك القيم.
في أحد أشهر مشاهد الفيلم يتجمهر رجال القرية عند منزل عباس البوسطجي، الوافد المتمدن للقرية، بمجرد خبر عن اختلائه بالراقصة فيه، بادعاء أنه بذلك يدنس شرف منزل العمدة الذي استأجره.
لاحظ أنها نفس الفكرة التي ستورث إلى البوابين لاحقًا في المدن: الحوائط لها شرف يُدنس، ومن ثمّ البيوت والعمارات التي يحرسونها، بل سيصبح شرف البواب من شرف العقار الذي يحرسه، ولكن أي شرف؟ الشرف على طريقة البوسطجي: “الغازية لازم ترحل”.
بينما السبب الحقيقي لغضب هؤلاء والذي رصدته عدسة الفيلم كان أنهم ليسوا مكان عباس، فمن كل رجال الحفل الهائمين بأنظارهم وكل حواسهم بجسد الراقصة، اختارت هي قضاء سهرتها مع عباس ابن المدينة الذي لا يشبههم.
السلطة من أسفل .. الزوجة الثانية في مواجهة الإسلام السياسي | خالد البري | رواية صحفية في دقائق
البوسطجي يتميز عن أفلام المرحلة التي انتقدت تلك القيم مثل “دعاء الكروان” و”الحرام” و”الزوجة الثانية” بأنه الأعنف في إدانة تلك القيم. ولأنه يفصلها عن الفولكلورية والشاعرية، فيسمي الأشياء بمسمياتها لدرجة تجعل بطل الفيلم يردد وصف “همج” عدة مرات بدون اعتذار. وهو نفس الوصف الذي كانت تقوله الكاميرا.
والأرجح أن تلك النبرة العالية بفيلم البوسطجي تحديدًا، والتي فاقت نبرة كاتب الرواية نفسه، “يحيى حقي”، كانت بسبب صدور الفيلم بعد عام واحد من هزيمة ٦٧، انهيار اليوتوبيا الناصرية التي طالما تغذت على تملق تلك الفئات وتمجيدها بلا شروط.
لكن تاريخ السينما المصرية بما فيها البوسطجي يخبرنا أن أخلاق القرية تأخرت في الوصول للمدينة، رغم قدم مهنة البواب.
نفوذ البواب الاجتماعي ظل هامشيًا في المدن في النصف الأول من القرن العشرين. نرى ذلك تحديدًا بالأدوار التي أداها علي الكسار ومنها فيلم “رصاصة في القلب” ١٩٤٤، ظهر فيها البواب كشخص أكثر تمسكًا بحماية وراحة الساكنين، بل وينفق عليهم من جيبه إذا اقتضى الأمر. لكنه متفهم لأسلوب حياة “الأفندية” ولا يتجاوز حدوده.
وهناك نمط الأدوار التي لعبها عبد الغني النجدي، وهو البواب الغلباوي كثير الكلام والسفسطة، لكنه ساذج ولا يتجاوز في سلطته.
وظل الوضع على كما هو عليه في أفلام السبعينيات كما يظهر في فيلم “شقة في وسط البلد” (١٩٧٥)، حيث قدم سيد زيان دور البواب والسمسار الذي يؤجر شقة لمجموعة شباب ويتغاضى عن أسلوب حياتهم بالشقة طالما أنهم يدفعون له مبلغًا كبيرًا.
طبق الفاكهة البلاستيك | خالد البري| رواية صحفية في دقائق
“البيه البواب” (١٩٨٧) كان نقطة فاصلة في نظرة الفنانين والمثقفين لظاهرة البواب وتزايد نفوذه بشكل مستفحل، وبداية استشعار لتأثير ذلك النفوذ على المجتمع. صحيح أن الكاتب يوسف جوهر كان أكثر اهتمامًا في قصته بالجانب الاقتصادي والطبقي للظاهرة، لكنه مرّ على بعض اللمحات المهمة فيما يخص الجانب الاجتماعي.
البوابون في الفيلم استمدوا قوتهم من تشكيل مجتمع موازي يعيش تحت أرض المدينة، يسمون أنفسهم بالرابطة، وهذه الرابطة عبارة عن شبكة مصالح وأمن ومراقبة ذات قدرات تفوق الحكومة نفسها.
والأخطر أنهم يمارسون ضغوط الزمالة peer pressure على بعضهم لتكريس أخلاق القرية داخل المدينة.
أحمد زكي.. كيف استحق اعتذار روبرت دينيرو عن “زوجة رجل مهم”؟ | أمجد جمال
في أحد المشاهد تجتمع رابطة البوابين بقيادة عبد السميع لمناقشة أحوال المنطقة، يزايد عبد السميع على أحد زملائه البوابين لأنه سمح لرجال غرباء بزيارة امرأة تستأجر شقة في عمارته، ويلمح بأن ذلك يجعل زميله ديوثًا.
هذا ما يغضب الرجل وتقوم عركة همجية بين البوابين وبعضهم، لأن أحدهم لم يحافظ على شرف عماراته، وبالتالي يدنس شرف عمارات الحي كله.
في مشهد آخر من البيه البواب يقوم عبد السميع بإجراءات تأجير شقة لإلهام هانم ورجل ثري، فيسألها “هو عدم المؤاخذة يقرب لك إيه؟”
لاحظ هنا كيف امتد مفهوم الشرف الذي تناولناه في فيلم البوسطجي من دار العمدة لعمارة في منطقة المعادي، لمنطقة المعادي كلها التي أصبحت تحت الوصاية الأخلاقية بواسطة مجموعة من الجهلة تحت مسمى “البواب”.
والمفارقة أن عبد السميع الذي يزايد على زملائه البوابين وينتقد تساهلهم في تمرير الرجال الغرباء على شقق النساء صار في ما بعد هو ذلك الرجل الغريب الذي يتردد على شقة إلهام هانم بمجرد استشعاره لغياب الرجل في حياتها،
فطرح نفسه كبديل بزواج صوري بلا شهود ليمارس معها جنسًا رضائيًا كان يحرّمه على الآخرين سواء بعمارته أو العمارات المجاورة.
لكن البيه البواب يمدنا بسبب آخر لتنامي نفوذ البوابين، وهو أن الطبقة المتوسطة (الأفندية سابقًا) وهم المستأجرون في منطقة المعادي الجديدة، صارت طبقة غير آمنة اقتصاديًا وأكثر هشاشة قيميًا، لأنها تهتم بالمادة والصورة الاجتماعية معًا،
بينما طبقة الفقراء التقليدية تنزع عن نفسها عبء الصورة الاجتماعية بدافع الثراء والترقي السريع،
وبذلك تدخل الطبقتان في لعبة كراس موسيقية: الفائز منها يفرض نفوذه الأخلاقي قبل المادي دون مرجعية واضحة، وسط تراخي وتناقض القانون في تنظيم الحياة الاجتماعية. لذلك صرنا نعيش في مدينة عبد السميع البواب.
“رسائل البحر” (٢٠١٠) للمخرج داود عبد السيد، استثمر في الفكرة نفسها،
يسهل تخيل الحاج هاشم (صلاح عبد الله) صاحب العمارة كواحد من الطبقة محدثة الثراء بقيم القرية والسمسرة والفهلوة والتدين المظهري، كأنه نسخة مستقبلية من عبد السميع لو كان استمر ببناء إمبراطوريته الاقتصادية.
يتآمر الحاج هاشم مع البواب من أجل طرد الساكن “يحيى” وهو طبيب سابق وينتمي للبرجوازية القديمة، بحجة أنه يستضيف حبيبته في شقته بالعمارة التي يريد هاشم هدمها والطلوع ببرج شاهق.
السطر الجديد الذي يضيفه رسائل البحر في تلك القضية، أن ترييف المدن لم يتحقق بالبواب وحده، بل عندما أؤتمر البواب من المالك، وكان المالك في الأصل بوابا!