انهيار الدولة الوسطى وصعود الهكسوس في مصر لم يحدث بين يوم وليلة.
شهدت مصر القديمة حالة تفكك تدريجي في ظل الأسرة الـ 13 "1803 ق.م إلى 1649 ق.م".
في أواخر الأسرة الثالثة عشرة، ظهرت الأسرة الـ14 بشكل متزامن. وتشكلت من عدة أمراء حرب كل منهم خرج عن السلطة المركزية للبلاد.
في نفس الفترة، ظهرت موجات هجرة أسيوية للأراضي المصرية شكلت الأجيال الأولى من الهكسوس
ومع فقدان مصر السيطرة على الدلتا وشمال البلاد، كانت مملكة "كرمة" النوبية تصعد في الجنوب، لتشكل الأساس للمملكة الكوشية فيما بعد.
الصعود النوبي من الجنوب حدث بشكل مشابه للهكسوس تقريبًا: زحف هجرات نوبية متقطعة في أواخر عصر الدولة الوسطى بجانب المصريين أصحاب الأصول النوبية الذين تعاونوا مع أقاربهم القادمين من الجنوب.
المؤرخ المصري مانيتون سجل أن الهكسوس دخلوا مصر بغزو مباشر دفعة واحدة. لكن أدلة تاريخية ظهرت مؤخرًا كشفت أن الهكسوس كانوا مهاجرين وأحفاد مهاجرين دخلوا البلاد على فترات ممتدة، قبل أن يستغلوا الفوضى وضعف الحكم المركزي في الاستيلاء على حكم شمال مصر.
وبصعود مملكة كرمة في الجنوب لتستولي على ممتلكات مصر الجنوبية أسفل الشلال الأول قرب أسوان، لم يبق من الأراضي المصرية ما تحكمه سلالة مصرية حقًا سوى شريط ضيق تحت حكم واست - ما تعرف بطيبة أو الأقصر حاليًا.
لم يكن الأمر سهلًا، خصوصًا بعدما بدأ التعاون بين الهكوسوس في الشمال وكرمة في الجنوب.
كيف يمكن لواست أن تحرر كامل مصر إذن بينما هي منطقة صغيرة محدودة؟! الإجابة كانت الاقتصاد والجغرافيا.
في كتاب "صراعات أسست مصر الفرعونية"، يقول جون كولمان دارنيل، إن حكام واست من الأسرة السابعة عشرة كانوا يمتلكون مساحة جغرافية ضيقة لكنها استراتيجية حيث يسيطرون على طرق التجارة بين شمال وجنوب مصر.
هناك 3 طرق يمكن المرور بها : الإبحار في النيل عبر واست مباشرة أو الصحراء الغربية أو الصحراء الشرقية.
الصحراء الشرقية وعرة والطرق الصالحة للمرور فيها قريبة من واست أي أنها تحت حكم ملوك واست. والصحراء الغربية أيضا تحت حكم ملوك واست. والنيل نفسه يمر في واست.
عبر هذه الطرق الثلاثة، فرض حكام واست الضرائب على التجارة المارة بين الهكسوس وكرمة من الشمال للجنوب. هذه الضرائب مولت بناء الجيش المصري.
لكن الأسرة السابعة عشر لم تكتف بهذه الطريقة لبدء الهجوم العسكري المباشر.. كان لا بد من تحطيم الهكسوس اقتصاديًا.
ثروة واست من الضرائب التجارية صنعت قوة عسكرية أقلقت الهكسوس، وكانت بداية الصراع المسلح مع سقنن رع والد أحمس الأول.
يمكن أن نرى تغيرًا حتى في النظام الإداري المصري، كثير من المناصب الإدارية أصبحت تحت مسمى كاتب، بينما المناصب العسكرية تزداد، حتى أن نساء العائلة المالكة كن يحملن ألقابًا عسكرية.
الإشارة هنا أن النزاع العسكري بدأ في محيط واست.
ربما جرت محاولة لاحتواء النفوذ المصري العائد، وهو ما ظهر في قصة رسالة ملك الهكسوس لسقنن رع بأن أصوات أفراس النهر في واست تزعجه في أواريس - عاصمة الهكوسوس "تل ضبعة" بالشرقية حاليًا.
صحيح أن سقنن رع لقي مصرعه في أرض المعركة. لكن الضربة الأخطر التي تلقاها الهكسوس كانت في عصر كامس ابن سقنن رع .. تقول لوحة كامس إنه عندما أراد مواصلة الحرب، كانت هناك محاولات تهدئة. لكنه قال لمستشاريه "ما فائدة قوتي هذه؟" وبدأ حملته العسكرية في الشمال حتى حرق الأسطول التجاري والعسكري للهكسوس.
كانت ضربة موجعة؛ لأن لدينا أثار عن رسالة اعترضها رجال كامس يستنجد فيها ملك الهكسوس بملك كرمة يقول له فيها "كامس يهاجمني على أرضي، مثلما يهاجمك الآن. أنا لم أهاجمه، لكنه اختار أن يجلب الضرر علينا".
هذا النص عثر عليه هوارد كارتر قبل حتى أن يكتشف مقبرة توت عنخ أمون، وباقي النص لا يوحي برأي دارنيل بأن ملك الهكسوس كان يعلم حتى اسم ملك كرمة، لكنه علم بأن ملك كرمة السابق مات والخبر وصله متأخرًا. لكنه كان يريد التدخل العسكري لإبعاد كامس عن تدمير ممتلكات الهكسوس في محيط أورايس.
لوحة كامس أيضًا تقول إنه لم يهاجم أواريس نفسها، بل كل ما تملكه خارجها، أي أنها كانت حملة تدمير اقتصادي في الأساس، بجانب حملة ضد كرمة لمنع تحالف الجيشين ضده.
الأدلة الموجودة تشير إلى أن كامس أشرك شقيقه الأصغر أحمس معه في الحكم، قبل أن يتوفى، بعد حوالي 5 سنوات في الحكم.
ما نعرفه عن الحملة العسكرية التي قضت على الهكسوس في مصر أن أحمس أيضًا لم يبدأ بمهاجمة أواريس مباشرة، بل قاد قواته أولا إلى ممفيس العاصمة التاريخية للدولة القديمة والمركز الإداري لمصر،
ثم قاد الهجوم على حصن "تجارو" - بقاياه حاليًا في تل حبوة بالقنطرة جنوب بورسعيد - على طريق رئيسي بين مصر وكنعان كان يعرف باسم "طريق حورس" العسكري.
بهذا، منع أحمس هروب الهكسوس للجنوب أو الشمال، بينما ترك لهم طريقًا واحدًا للهروب من أواريس، وهو الصحراء باتجاه شمال سيناء ثم فلسطين.
السبب أن هذا الطريق لا يتمع بمصادر مائية كافية لأعداد كبيرة، وهو ما يعني أن عددًا كبيرًا من الهكسوس الهاربين سيضطرون للخروج بسرعة للابتعاد عن الصحراء وعن الحدود المصرية. وهو ما حدث فعلًا.
بعد اقتحام حصن تجارو، اتجه أحمس أخيرًا إلى أواريس.. ولم تكن هناك مواجهة كبرى بها؛ لأن أغلب الهكسوس اختاروا الهرب من مصر والتحصن في شاروهين - تل العجول في غزة حاليًا- وكانت تلك المواجهة الأخيرة بحصار طويل استمر 3 سنوات.
بعدها لم نسمع عن الهكسوس مطلقًا؛ لأنهم لم يكونوا في الحقيقة شعبًا واحدًا، بل تحالفات قبلية من مناطق مختلفة أقرب إلى كونفيدرالية منها إلى دولة حقيقية.
كتاب صراعات شكلت مصر الفرعونية – جون كولمان دارنيل
قصة الحضارة – ويل ديورانت
عصر الدولة الوسطى (ورلد هيستوري)