تاريخ مصر القديمة ظل أسير الحكايات التوراتية الممتزجة بأساطير المؤرخين العرب حتى فك شامبليون رموز حجر رشيد سنة 1822. ليبدأ “علم المصريات” الذي يعتمد تاريخ الحضارة المصرية “الموثّق” بعيدًا عن القصص الديني.
في كتابه “مصر في الأساطير العربية” يرصد الدكتور عمرو عبد العزيز منير ركام الأكاذيب عن تاريخ الحضارة المصرية في كتب المؤرخين العرب، الذين مزجوا القصص التوراتي بالخيال العربي لصناعة تاريخ خرافي، يشمل أساطير عن:
# تمثال أبي الهول الذي كان يتنبأ بالغيب ويكلم الزائرين حتى قال له النبي موسى: “اسكت يا ملعون”.
# المومياوات التي يتم طحنها لتشفى جميع الأمراض مهما كانت مستعصية.
# الأهرام التي يقول بعضهم إن بانيها الملك “سوريد بن سلهوق بن شرياق”. ويقول آخرون إنما الملك “سلموق بن درمسيد”. ويقول غيرهم بل “شداد بن عاد”. وفريق يزعم أنه “بطليموس القلوني”. ويقول غيرهم هو النبي يوسف الذي جعل الأهرام مخزنًا للطعام لمواجهة سنوات القحط! ومنهم من يقول بل النبي إدريس!
# أساطير أخرى طالت النيل، وأحجام المصريين الذين زعموا ضخامتهم.
حتى أصول المصريين نسبها بعضهم لجد أسطوري من أحفاد النبي نوح اسمه “قبطيم” أو “قفطايم” أو “قفط” أو “قبط”، ويقال إنه من أبناء “مصرايم بن حام بن نوح”! ومصريم هذا نسبوا إليه اسم مصر نفسه مع اختلاف في صيغة اسمه بين “مصرين، ومصرايم، ومصريم، ومصرام، ومصر”.
فلا وجود في مدونات المؤرخين العرب لـ “كِمِت”، الاسم الأصلي لمصر، ولا لأسماء حكامها، أو الأسرات الشهيرة التي حكمتها. وبالتأكيد لا ذكر عن الحضارة المصرية وما فيها من علوم وفنون.
10 قصص محكية عن النبي موسى .. أين الحقيقة وأين الأسطورة؟ | الحكاية في دقائق
يحلو للبعض الادعاء بأن المؤرخين العرب سبقوا شامبليون في فك رموز اللغة المصرية بما يزيد عن ألف عام.
حددوا “جابر بن حيان” الذي صنف في ذلك كتابه “كشف الرموز”، وأبو أيوب بن مسلمة صاحب كتاب “أقلام المتقدمين”، وذو النون المصري صاحب كتاب “حل الرموز”، وأحمد بن وحشية النبطي صاحب كتاب “شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام”.
هذا الأخير بالتحديد يبالغ البعض بشأنه لدرجة الزعم بأن شامبليون سرق منه الفكرة؛ كون كتابه تُرجم في لندن عام 1806 قبل اكتشاف شامبليون بـ 16 عامًا.
يتجاهل هؤلاء عمدًا أن أول محاولة حقيقية لفك رموز الهيروغليفية كانت على يد الكاهن المصري “هورابولو” صاحب كتاب “الهيروغليفيكا”، وهو سابق على ابن وحشية بقرون. لكن محاولتيهما لا تختلفان كثيرًا لسبب بسيط؛ لأنهما لم تنجحا، ولم تتجاوز كونهما مجرد محاولات غلب عليها الخرافة والادعاءات السحرية التي لم تترجم متون الحضارة المصرية.
ثم يأتي من يبرر سبب هذا التاريخ المختلق عن الحضارة المصرية في كتابات المؤرخين العرب، ويرجعه إلى عامل عدم معرفتهم باللغة المصرية القديمة! وهو تبرير يناقض الادعاء السابق ويزيد الأمر تعقيدًا؛ كون قلة المعرفة قد تجبرك على السكوت، لكنها لا تجبرك أبدًا على اختلاق تاريخ أسطوري، إلا إذا كان لديك أغراض أخرى.
هل اكتشف العرب حجر رشيد قبل الحملة الفرنسية؟ 3 شواهد تدعم الفرضية | هاني عمارة
الملفت أن اتجاهين متوازيين يظهران في التعامل مع الحضارة المصرية في الثقافة التوراتية والعربية:
– أولهما: شيطنة الحضارة المصرية ووصمها بالوثنية والكفر والضلال والإجرام والطغيان؛ إعلاءً للتصورات التوراتية والإسلامية.
– ثانيهما: يعمل على اختطاف الحضارة المصرية لتصويرها في صورة توراتية وإسلامية!
فعلها اليهود. وكررها قطاع واسع من المسلمين مؤخرًا، فزعموا أن المصريين القدماء كانوا موحدين مسلمين، وأن النبي إدريس هو من علمهم التحنيط والطب والزراعة والكتابة ولبس المخيط وتخطيط المدن والحكمة والعلوم الرياضية والفلكية، وهو المشار إليه باسم “أوزيريس”!
قالها صراحة مفتي مصر الأسبق على جمعة:
سبقه نديم السيار في كتابه “قدماء المصريين أول الموحدين” فزعم أن علماء المصريات أخطأوا في ترجمة “نتر” بمعنى “إله” بينما الصحيح أنها “ملاك”، وفق تفسيراته شديدة التكلف، التي تجاهلت عمدًا أن الكلمة نفسها المستخدمة في وصف الآلهة المتعددة هي ذاتها المستخدمة عنده لوصف الإله الواحد!
من بعده، روج الفكرة مصطفى محمود في “العلم والإيمان”:
وسيم السيسي ورث الاتجاه من صديقه نديم السيار، ونقله للإعلام وسط حفاوة ممن يريدون أن ينطق التاريخ بما يناسب أهوائهم الدينية:
حتى الروائي الشاب أحمد مراد، أخذ الفكرة وصنع منها روايته الأشهر “أرض الإله”.
الاتجاه الآخر في التعامل مع الحضارة المصرية قائم على ازدرائها، فرغم وصف التوراة مصر بـ “جَنَّةِ الرَّبِّ” ورغم اعتراف العبرانيين بفضل مصر عليهم، لكن التوراة نفسها مسؤولة عن شيطنة مصر وحضارتها القديمة!
صورت مصر باعتبارها البلد الضال الكافر أهله والمؤله حكامه، فاستحق الغرق والإبادة بضربة عصا! وعملت على تكرار ذلك بلسان أنبياء الأزمنة الأخيرة لبني إسرائيل، مثل: “الاحْتِمَاءُ بِظِلِّ مِصْرَ خِزْيًا”. و”تَكُونُ أَرْضُ يَهُوذَا رُعْبًا لِمِصْرَ”. و”وَأَجْعَلُ أَرْضَ مِصْرَ مُقْفِرَةً .. خَرِبَةِ .. وأُشَتِّتُ الْمِصْرِيِّينَ بَيْنَ الأُمَمِ، وَأُبَدِّدُهُمْ فِي الأَرَاضِي”.
ورثت الأديان الأخرى تلك الصورة. حتى بات قطاع واسع من المسلمين يعتبرون الحضارة المصرية “وثنية عفنة لا يجوز الفخر بها”.
أمثال وجدي غنيم الذي يرى أن الفراعنة لم يذكروا في القرآن إلا على سبيل المذمة:
أما مفتى الديار المصرية الأسبق على جمعة، فقدم مبررات لعدم تحطيم الآثار المصرية، بقوله: “ما أمرنا نبينا بهذا، فكون أقوام لا نعرف لغتهم على جهة اليقين، ولا نعرف أحوالهم، واختلفت أنظار الناس فيهم…، فهذه حضارة فيها وفيها، فيها ما هو شرك، وفيها ما هو توحيد، والتحطيم والتكسير ليس من ديدن المسلمين”.
حرب الماعت | موكب المومياوات بين “اللي على راسها ريشة” و”اللي على راسه بطحة” | أحمد رجب
من المؤسف الاعتقاد بأن شرط فخرنا بالحضارة المصرية أن تكون ناطقة بنفس معتقداتنا الدينية بمنطق “الولاء والبراء”، فلن نرضى عنها حتى تتبع ملتنا!
هذا المنطق المتعصب دينيًا كامن وراء محاولات شيطنة الحضارة المصرية.. وفي الوقت نفسه محاولات اختطافها في صورة توحيدية، وكأن تعدد الآلهة يعيبهم ويعيب تفوقهم في العلوم والفنون والحضارة.
التعدد كان له رمزيته وقيمته الروحية، وكان طبيعًا في جميع الحضارات القديمة، ولم يترك أثرًا على التخلف أو التقدم الحضاري.
مصر القديمة التي لم تكن في حاجة للتوحيد لنعترف بمجدها وحضارتها.
كذلك عدم التمييز بين المعرفة التاريخية المجردة وبين الانحياز الديني في التعامل مع التاريخ؛ فسحب الاعتقادات الدينية على الحقائق التاريخية شديد الخطورة على الدين والتاريخ معًا.
والمؤسف أن تكون هذه الاتجاهات في التعامل مع الحضارة المصرية هي السائدة إلى الآن.
لماذا ظل السيسي صامتا في استقبال الموكب الذهبي؟ مصر حقيقة مش أساطير | خالد البري