ناقد فني
الخبر الجيد في فيلم الإنس والنمس أن محمد هنيدي عاد. والخبر السيء أن هذه العودة تأخرت كثيرًا.
لا أتذكر آخر فيلم من بطولة محمد هنيدي أمتعني، ولمست تفاعلًا جماهيريًا صادقًا معه بنفس درجة فيلمه الأخير “الإنس والنمس”.
مشرع محمد هنيدي السينمائي، ككوميديان بارع وقادر على الإضحاك بربع إيفيه، انحدر مع نهاية العقد الأول للألفية، ربما بعد “وش إجرام” أو “عندليب الدقي” أو “أمير البحار” (اختر بحسب درجة تسامحك معه).
السبب أن محمد هنيدي لم يقرأ المرحلة جيدًا، ولم تعد أدواته القديمة صالحة لمجاراة التيارات الجديدة في الضحك. أدرك محمد هنيدي متأخرًا أن الكوميديا الاجتماعية الواقعية التي حكم بها سوق السينما بـ صعيدي في الجامعة الأمريكية – همام في أمستردام – بلية ودماغه العالية وغيرها من الأفلام التي تعتمد بصفة أساسية على خفة ظل البطل، لم تعد الورقة الرابحة في زمن أحمد مكي وأحمد حلمي والثلاثي شيكو وهشام ماجد وأحمد فهمي… زمن الأفكار الخاطفة والصراعات الغرائبية.
فقصص الضحك تجاوزت صراع البطل المكافح الذي يواجه المجتمع لتحقيق ذاته، أو للانتصار على العصابة الشريرة، أو للفوز بحبيبة تفوقه مالًا وجمالًا بالوسائل العقلانية. لم تعد تلك الكوميديا التي تأخذ نفسها بجدية هي المطلوب.
صارت الأفلام تقوم على أفكار أكثر مفارقة وهزلية، وتغيرت صراعات الأبطال لصالح الغرائبية البحتة والفانتازيا الصارخة.
هكذا صارت السينما الكوميدية المسيطرة بعد محمد هنيدي ورفاقه، وها هو يدخلها أخيرًا بجديد أعماله، فيلم الإنس والنمس.
من 2010-2019 .. سبعة أفلام مصرية صنعت عقد الألفية الثاني | أمجد جمال
فيلم “الإنس والنمس” يعيد المخرج شريف عرفة للكوميديا لأول مرة بعد إكس لارج ٢٠١١، وهو أيضُا صاحب القصة، وشارك مع الكاتب كريم حسن بشير في السيناريو والحوار.
آخر تجارب شريف عرفة في كتابة قصص أفلامه – في فيلمي الكنز والممر – كانت مليئة بالعيوب والثغرات، لكنه هنا ككاتب ومخرج أقرب لفورمة الناظر وفول الصين العظيم.
في أفلام الرعب الكوميدية عادة ما تطغى حالة منهما على الأخرى. هنا كان الضحك طاغيًا، واستغل الفيلم كليشيهات سينما الرعب للسخرية منها والخروج بمواقف طريفة وإفيهات أغلبها مضحك.
شريف عرفة المخرج يكون في أفضل حالاته حين يحتفي بشخصيات فاشلة ومهمشة وضعيفة وبلا طموح “المنسي- الإرهاب والكباب، الناظر، فول الصين العظيم” أكثر منه حين يحتفي بالبطل المغوار المثالي الوطني “مافيا – ولاد العم – الممر- الكنز”؛
فأدواته الإخراجية تلمع كلما وقف في معسكر المستضعفين، بينما يبدو واعظًا ودعائيًا كلما انضم لمعسكر الرائعين.
ولحسن الحظ أن فيلم الإنس والنمس ينتمي للمعسكر الأول.
فيلم “الممر”.. شريف عرفة وضع الفن في كفة والذخيرة في الكفة الأخرى | أمجد جمال
يجسد محمد هنيدي في فيلم “الإنس والنمس” دور “تحسين”، شاب بسيط يعمل على تشغيل بيت الرعب في إحدى الملاهي. توقعه الظروف في طريق نارمين “منة شلبي”.
يُعجب بها، وتدعوه لزيارة منزلها للتعرف على عائلتها. وفي ما بعد يكتشف أن حبيبته من نسل الجن، وأن عائلتها رصدت له فخًا في المنزل يهدد حياته.
الفكرة غريبة، لكنها ليست مكتملة الطزاجة، تبدو خليطًا بين فكرتي فيلم Get Out ٢٠١٧ للمخرج والكاتب الأمريكي جوردان بيل، حين تتداخل مع “الإنس والجن” ١٩٨٥، الذي يحاكي فيلمنا عنوانه بشكل واضح وساخر.
لكن، بقيت بيرسونا محمد هنيدي الكوميدية التقليدية حاضرة ومطلوبة، وتحديدًا شخصية محي الشرقاوي في فول الصين العظيم، الشخص الجبان، ناقص الذكورة، دائم التلويح بقوة وشجاعة لا يملكها.
في أحد أفضل مشاهد فيلم “الإنس والنمس” تغوي الجنية محمد هنيدي لممارسة الجنس بالقوة، فيقاومها بمرجعية أنثى تقاوم الاغتصاب.
المشهد كان مضحكًا؛ مرة لأن المفارقة بارعة في كتابتها، ومرة لأنه يستثمر أسلحة بطله القديمة بالإضحاك في إطار جديد.
هنا، تذكرت شخصية العاهرة التي جسدها محمد هنيدي في “جاءنا البيان التالي” وهي تلاغي طلعت زكريا في موقف كوميدي أيقوني. فبرغم أن العالم هذه المرة غريب عن عوالم سينما هنيدي السابقة، بدا وكأن الفيلم كُتب من أجله بفضل هذه المشاهد، وهو الأصلح لبطولته.
كذلك ملاحظتي على شخصية الأب “شريف دسوقي”.
لم يعطنا الفيلم سببًا أو هدفًا من صلة القرابة بينه وبين تحسين. ولو كان مجرد شخص غريب ظهر في الوقت المناسب ليساعد البطل لكان الأمر مقبولًا دون تعقيد في تصميم تاريخ أسري له، بلا هدف أو منطق.
٢٠ عامًا على فيلم الناظر.. ليس مجرد فيلم في هوجة المضحكين الجدد | أمجد جمال
يحسب لكوميديا الفيلم أن الإيفيهات جاءت متنوعة في روافدها، وأظن الفضل هنا لكريم حسن بشير:
بعضها إفيهات “سوشال ميديا” تغازل شريحة عمرية صغيرة من الجمهور لم تعرف محمد هنيدي سوى عبر حساباته في فيسبوك وتويتر التي لا نعلم من يديرها حقًا،
ويمتد هذا النوع من الإضحاك لشخصيتي الأخت “دنيا ماهر” وزوجها “محمود حافظ” وهما يجسدان ظاهرة “الإنفلونسر” الشعبي، بتوظيف كوميدي جيد، وتوظيف درامي لا بأس به.
وإفيهات أخرى نابعة من مواقف فيلم “الإنس والنمس” نفسه، وهنا تتفوق شخصية النمس الكبير بتلقائية الممثل عمرو عبد الجليل التي وضعتنا أمام الجني الأخف ظلًا على الإطلاق.
وأحيانًا كانت الإفيهات نابعة من السخرية من فورمات الرعب وعالم الخوارق نفسه، فجاءت ليسخر فيلم الإنس والنمس من نفسه ومن الأفلام المشابهة، ويكسر الحائط الرابع في بعض الأحيان. والأمر الجيد أن الضحك يتصاعد في النصف الأخير من الفيلم، على غير العادة التي كانت تفتعل فيها الأفلام الكوميدية جدية مصطنعة مع فصولها الأخيرة.
ورغم أن فيلمه يظل مخلصًا للخوارق بالمفهوم الشرقي: إبليس والجن والدجالين والأحجبة والأرض السابعة والمساخيط، إلا إنه يمزج هذه الشرقيات بالسمات الشكلية لأساطير الرعب القوطي Gothic Horror. هذا يتضح في معمار وديكورات المنزل الملعون، ووضع سياق هامشي للزومبي وتوضيح رمزية الدماء كما في تلك الأساطير.
الزعيم | من الثلاثي لمحمد رمضان.. مصير من نافسوا عادل إمام | عبير عبد الوهاب
أسعدتني عودة الموسيقار مودي الإمام لوضع موسيقى الفيلم، بعد غياب طويل عن السينما، فيما جاءت موسيقاه متطورة تقنيًا عما كان يقدمه قديمًا بآلة الأورج وحدها، نظرًا لقلة الإمكانيات.
باتت موسيقاه أكثر نقاء وفخامة من حيث التنفيذ، لكنها أيضًا شديدة الألفة مع أسلوب موسيقاه الخاطفة في أفلام التسعينيات مع شريف عرفة. وهو أمر جيد ومثير للنوستالجيا.
في واحد من أطرف مشاهد فيلم الإنس والنمس تُعرفنا عائلة الجن على رقصتها الاحتفالية بأهزوجة مضحكة، وهنا تدخل بعض نوتات مودي الإمام من خارج المشهد لتصاحب الرقصة والأهزوجة، ما ذكرني بنفس ما فعلته موسيقى مودي في “الإرهاب والكباب” مع ثورة الأسرى داخل مجمع التحرير وهتافهم الجماعي للكباب.
أسوأ ما في فيلم الإنس والنمس هو أغنية أوكا والاستعراض الذي صاحبها.
بجانب أنها لا تنجح في إيصال المفارقة المطلوبة منها “الشياطين تسمع أغاني مهرجانات”، شعرت أن الهندسة الصوتية لها غير متوافقة مع الماستر الصوتي للفيلم.
موسيقى مصر القديمة | كيف علموا العالم السلم السباعي؟ وما علاقته بـ “طقوس الخميس”؟ | أمجد جمال
ديدو – البعض لا يذهب للمأذون مرتين – مش أنا – العارف.. واحد منهم يستحق ثمن التذكرة | أمجد جمال