ناقد فني
لا يمر شهر دون طرح عمل درامي مصري مصنوع وفق فورمات منصات المشاهدة، عشر حلقات وأقل.
إنتاج جيد، إيقاع سريع، مساحة للتجريب، طواقم سينمائية محترفة، وأفكار أعلى من سقف الرقابة التقليدي. والأهم من كل ذلك: صدى وتفاعل جماهيري كان حكرًا على موسم رمضان. لكنه لم يعد.
مسلسل منورة بأهلها “قصاقيص صور” هو أحدث تلك الأعمال.
منصة شاهد أنتجت وعرضت المسلسل. والمفاجأة أنه يحمل توقيع مخرج من عيار يسري نصر الله في أول تجربة درامية طويلة له، بعدما جرب حظه في حلقة من حلقات مسلسل نمرة اتنين لنفس الجهة الإنتاجية، ولم تكن النتيجة مبهرة.
لكن المخرج الذي شاركت أفلامه في مهرجانات العالم الكبرى، يواصل كسر التوقعات بالتدليل على مرونته وتكيّفه مع المفردات والظروف الإنتاجية الجديدة.
تواجده حتى اليوم، باعتباره آخر مخرج “فنان” من جيل الوسط ولا يزال يعمل وفق معطيات السوق ودون تقديم تنازلات صارخة، أمر يستحق الإشادة.
مسلسل البحث عن علا | الرجال ليسوا ضروريين في عالم الكومباوندات | أمجد جمال
مسلسل منورة بأهلها “قصاقيص صور” من تأليف الكاتب محمد أمين راضي.
يحكي حكاية ملغزة تدور في الفترة من منتصف التسعينيات وحتى 2010، حول وكيل النيابة آدم (أحمد السعدني) الذي يحاول فك طلاسم جريمة قتل غامضة راح ضحيتها المصوّر الشاب مهاب (محمد حاتم) فتقوده الجريمة لعشرات الجرائم وتكشف عن عالم سفلي لعصابات يحركها أثرياء ورجال دولة فاسدين.
كما اعتدنا، لا يحكي محمد أمين راضي قصصه بالطريقة السهلة، فيعتمد على السرد اللا خطي؛ متنقلًا بالأزمنة مع كل مشهد، ومغيرًا لمحاور الأحداث من شخصية لأخرى.
لا يمكنك تحديد بطل واحد للقصة، حتى الشخص المنوط به حل اللغز، لا يمر الكثير قبل أن نتأكد أنه ليس محور الأحداث الفعلي، فضلًا عن كونه الشخصية الأقل جاذبية مقارنة ببقية الشخصيات وعددهم كبير دون بهرجة وزحام، مرسومين بتمايز مدهش، ولدى كل منهم مساحة عادلة على الشاشة.. كل منهم بطل قصته.
قصص راضي تنبض بحيوية. دائمًا يطعمها بأدوات الحياة العارضة: كتاب، صورة، أغنية… تكون هذه الأداة محركة للدراما بشكل مفصلي.
وكذلك فهو يأبى أن يكتب قصصًا عادية، فقط ملاحم. لعل هذه الملحمة الأنضج والأكثر تماسكًا في كل ما كتب.
الدوافع مفهومة ومتصادمة بما يكفي لتسيير الدراما، والحبكة معقدة بشكل مثير. وإن كان يعيبها بعض الصدف غير المنطقية والمتمثلة في روابط ما بين بعض الشخصيات، تحديدًا وكيل النيابة الذي يتضح أن جميع المتورطين في الجريمة مروا في وقت ما بحياته الشخصية، دون منطق وبلا داع.
لكن، يتفادى راضي مشكلات أخرى تكررت في نصوص أعماله السابقة مثل الرمزيات التي لا تقود إلى شيء، والتحايل بإخفاء المعلومات أو تأجيل طرحها لاصطناع الإثارة والغموض،
في مسلسل منورة بأهلها “قصاصيص صور” تشعر أن كل معلومة تأتيك في موعدها المناسب؛ والأهم أن لغز الجريمة لا يصبح السبب الوحيد للمتابعة، بل يمتد الفضول لمتابعة مصائر الشخصيات إنسانيًا، لدرجة تجعلك تشتاق إذا غاب أحدهم.
مسلسل الجسر | أين تفوق على مسلسل “النهاية” وأين خيب التوقعات؟ | أمجد جمال
تيمة الجريمة هي القشرة السطحية من القصة، بينما القشرة الأعمق، حول شخصيات عادية هاجرت من مدن وقرى المحافظات المختلفة لمطاردة حلم العاصمة “القاهرة منورة بأهلها” قبل أن ينقلب الحلم لسلسلة كوابيس، ويتحول أولئك البشر من أشخاص أنقياء إلى فسدة، منحلين، ووحوش آدمية.
غضب الكاتب تجاه القاهرة، أو فكرة المدينة الصاخبة عمومًا، كان يحتاج ولو لقليل من التعمق الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي؛ كي يكتمل نضج القشرة الثانية من القصة، لكنه اكتفى بشرور المدينة كمفارقة قصصية ليس إلا.
ذلك لا ينتقص من العمل، طالما نجحت القشرة السطحية، لكنه يعود بنا لسمة مستمرة في قصص أمين راضي، تشعر أن الكاتب متردد في الإفصاح عن نفسه، يفضل تقديم ذاته دراماتورجي بارع، وهو كذلك، لكن يصعب تكوين وجهة نظر عن توجهاته ونظرته للحياة من خلال قصصه، وبرغم مرور تلك القصص على عشرات الإشكاليات المجتمعية والمعضلات الفلسفية، فقط تمر. البشر أنانيون وفاسدون.. ماذا بعد؟
في مسلسل منورة بأهلها “قصاقيص صور” إحالات عديدة للكاتب أسامة أنور عكاشة وشخصيات مسلسلاته الشهيرة، معظمها في إطار ساخر وناقد حيال السيناريست الذي عُرف بتوجهاته مفرطة المثالية، والتي قد تستحق السخرية فعلًا.
لكن المرجح أن ما يناقض راضي في أعمال عكاشة ليست المثالية، بل الشفافية، وهو يحصن نفسه منها بدروع فولاذية، فيذيب غموضه الشخصي في غموض حبكاته وشخصياته وعوالمه الغرائبية.
الحلقات الأخيرة لمسلسلات راضي دائمًا يصاحبها جدل، انتقادات، مطالبة بتفسيرات. “منورة بأهلها” ليس استثناء. كل ذلك يمكن تفاديه لو كتب راضي نصوصه بمرجعية مؤلف لا يخشى ترك دليل عن نفسه.
أصحاب ولا أعز | لماذا ستضاعف نتفليكس الإنتاجات المشابهة رغم “الغضب الشعبي”؟ | أمجد جمال
رغم أن أحداث مسلسل منورة بأهله “قصاقيص صور” تمتد لـ 15 عاما، لم يلجأ يسري نصر الله إلى تغيير ملامح وأشكال ممثليه بدرجة ملحوظة.
قد يعاب عليه ذلك كنوع من الاستسهال في الراكورات. لكني وجدت هذا الأسلوب أكثر ملائمة لمورال المسلسل؛ فإذا كنا بصدد حكاية عن أفاعيل الزمن بالشخصيات، فالأفضل أن نميّز تغير تلك الشخصيات عن طريق التأمل في دواخلهم، أسلوب كلامهم، وقراراتهم، لا في تصفيف شعرهم.. وقد كان.
العاصمة بطل رمزي في هذا العمل. رغم ذلك لم أشعر بروح العاصمة في صورة المسلسل بشكل مشبع ومكتمل التعبير عن ديستوبيا اجتماعية مرتبطة بالمكان، المشاهد الخارجية مقتضبة، لقطات تأسيسية مكررة، السويس تشبه مطروح، ومطروح تشبه القاهرة. منذ عدة أشهر قرأت منشورًا للمخرج يشكو فيه من بعض التضييقات التي واجهها طاقم العمل في أيام التصوير الخارجي. لعل هذا هو العذر.
في المقابل، نجح يسري نصر الله بالتحكم في مود العمل داخليًا كقائد أوركيسترا خبير، هناك براعة في تجنيس درجات القوطية والنيو-نوار معًا. واهتمام استثنائي بعنصري الأزياء والإكسسوارات، وجهد في تصميم واختيار مواقع التصوير. موسيقى تامر كروان جاءت – على غير العادة – مينيمالية منزوعة التفاصيل؛ لتفاقم أجواء الغموض والغرائبية.
عادة يميل يسري نصر الله في الكاستينج لممثليه المفضلين المُجربين، وباستثناء كريمة منصور التي لم توفق في دور “باكينام”. كافة الممثلين هنا في مواقعهم المناسبة وفي أفضل حالاتهم، يقودهم للمقدمة غادة عادل وباسم سمرة.
من الصعب قول ذلك عن مسلسل مصري، لكن منورة بأهلها “قصاصيص صور” احتوى على مشاهد ولقطات من النوع الذي لا يُمحى من الذاكرة المرئية بسهولة. والبطل هنا خصوبة خيال الكاتب، وتميز رؤية المخرج.
لن ننسى لقطات “مصنع الولادة”، أو “المصارعة”. لن ننسى حتى المأساة التي حكتها سلوى شاهين (ليلى علوي) عن ماضيها، رغم أن الشاشة لم تعرضها، لكن أظننا رأيناها.
مدرسة الروابي للبنات | دراما مدرسية من خارج “المُقرر” | أمجد جمال