أصحاب ولا أعز | لماذا ستضاعف نتفليكس الإنتاجات المشابهة رغم “الغضب الشعبي”؟ | أمجد جمال

أصحاب ولا أعز | لماذا ستضاعف نتفليكس الإنتاجات المشابهة رغم “الغضب الشعبي”؟ | أمجد جمال

26 Jan 2022

أمجد جمال

ناقد فني

سينما عربية سينما مصرية
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

في المعركة الأخيرة حول فيلم “أصحاب ولا أعز”، ظهر فريق تقدمي يبدو سعيدًا بفكرة تحطيم التابوهات والفقاعات الأخلاقية للمجتمع،

التي تجاوزتها بطلة العمل بمجرد أن خلعت قطعة ملابسها الداخلية،

وجرحها بطل ثانٍ بعدم إظهار رفضه القاطع لمبيت ابنته عند صديقها،

ومزّقها ثالث حين استيقظ يومًا ليجد ميوله الجنسية مختلفة،

وحطمها رابع حين لم يذبح زوجته بسبب خيانتها له عبر التشات.

المشكلة أن سعادة وتأييد الفريق التقدمي تؤكد أطروحة الفريق الرجعي بأن هناك “قيما أخلاقية” مس بها العمل من الأساس.

تلك الفرضية تستدعي سؤالا فلسفيا مهم يتجاهله الفريقان: هل يمكن لفن أن يتصادم مع قيم جمهوره ويظل فنًا؟

نظريًا، الأمر شبه مستحيل.

مثلًا، حين تلقي بنكتة تقوم على التلاعب بالألفاظ، أنت تستثمر في المعارف اللغوية المشتركة بينك وبين السامع. وعندما تحكي قصة من تيمة الانتقام مثلًا، فالقصة تنجح مع المتلقي لأنها تستثمر في قناعاتكما المشتركة حول قيمة العدل.

إذًا، القيم في الفن هي جزء من شيء أكبر اسمه “المرجعية”. وهي أساسية، ليس في الرسالة وحدها، بل في التكنيك نفسه.

إنها أبجدية التواصل بين المبدع والمتلقي. لو كان الموسيقار يعزف ألحانه على الآلة الموسيقية، فالقصاص يجب أن يعزف على قيم مجتمعه، حتى لو اختلف مع هذه القيم، يكون اختلافه من داخل المرجعية لا خارجها، وإلا فشل كفنان مرة، وفشلت أحلامه ككاسر للتابوهات مرة ثانية.

نعم، هذا قد لا يفسر نجاح الأعمال المترجمة عن ثقافات أخرى، ولا الأعمال الكلاسيكية المنتمية لعصور وقيم بائدة. ذلك لأن هناك شيئا آخر يفسر نجاح تلك الأعمال خارج محيطها المرجعي، وهو السياق التاريخي أو الجغرافي الذي يضعه لها المتلقي لا إراديًا، فيكون جزءًا من عملية الإيهام القصصي.

اعترف.. الأخلاق في “أصحاب ولا أعز” أفضل كثيرًا من أخلاقك .. هذا سبب انزعاجك | خالد البري

حين يحقق الفن عكس الرسالة المطلوبة

هناك موقف طريف وكاشف يحكيه المخرج هنري بركات، مع أول فيلم من إخراجه “الشريد”، ١٩٤٢، والذي اقتبسه عن قصة لأنطون تيشكوف.

عند عرض الفيلم، فوجيء بركات بجمهور السينما يضحك ويصفق حينما تموت البطلة في نهاية الفيلم، وشعر بالإحباط لأن ذلك لم يكن رد الفعل الذي يريده من المشهد.

فيلم الشريد - 1942 - الدهليز - قاعدة بيانات السينما المصرية والفنانين

ظنّ بركات أن المشكلة خاصة بجمهور تلك الليلة من العرض، فذهب في ليلة أخرى مع جمهور آخر، ليجد نفس رد الفعل في نفس المشهد. ما دفعه لأن يسأل أحدهم عن سبب بهجته فأجابه: “هذه البطلة خانت زوجها وتستحق تلك النهاية”.

أصحاب ولا أعز.. ولا رقابة.. ولا أجندات نتفلكس؟ | حاتم منصور

التحدي من داخل المنظومة

بركات، ابن القاهرة الكوزموبوليتانية، والذي عاش سنوات من حياته في باريس، أسقط من حساباته أنه ربما يخاطب بأفلامه جمهورًا بمرجعية قيمية مختلفة من دائرته الضيقة. وأنه في فن جماهيري كالسينما، لا فائدة من ذلك.

تعلم بركات الدرس في بقية أعماله، فكان مسؤولًا عن تغيير نهاية “دعاء الكروان” عن الأصل الأدبي لطه حسين.

ففي الأصل تعيش آمنة والمهندس أحمد في تبات ونبات وتتسامى الأولى عن حقيقة أن الثاني تسبب في موت أختها، لتعلي قيمة الحب فوق العدل. نهاية لم يكن الجمهور المصري ليستسيغها في ذلك التوقيت. ربما.

صلاح أبو سيف أيضًا، حين قرر قتل “شفاعات” في فيلم “شباب امرأة” تلك الميتة البشعة، لم يكن يفعلها عن قناعة تامة؛ خاصة وشفاعات الحقيقية هي “كارولين” الفرنسية بطلة أولى مغامراته الجنسية في شبابه وهو يتعلم السينما في باريس.

وقال فيما بعد أنه كان ليغيّر تلك النهاية القاسية لولا تفكير المجتمع وقتها. فيكفي أن شفاعات دعمت إمام وعلمته دروسًا عن الحياة.

حتى فطين عبد الوهاب، أكثر مخرجي جيله تقدمية، والذي قدم “الآنسة حنفي” و”مراتي مدير عام”. تنازل قليلًا وهو يحكي “عائلة زيزي” فيساير قناعات العائلة بأن مهنة التمثيل للمنحلين فقط، وتستوجب من الأخين فؤاد المهندس وأحمد رمزي أن يقتحما هذا الوسط “الداعر” لينقذا شقيقتهما سعاد حسني منه.

“نهر الحب” لعز الدين ذو الفقار. لم يبذل فيه جهدًا ضخمًا لتقييف نص تولستوي على القيم المصرية. وهو أحد الأفلام التي يستشهد بها كثيرون في المعركة الأخيرة، باعتبار أن المجتمع وقتها كان أكثر تسامحًا من الآن في التعاطي مع الفنون، وهذا غير حقيقي بدليل “الشاردة” و”شباب امرأة” و”عائلة زيزي”.

والحقيقة أن “نهر الحب” وقت صدوره نال بعض الغضب، ليس من أحد الصبية المختبئين خلف شاشة موبايل كما يحدث الآن، بل من الناقد الأول لمجلة الكواكب، الذي كاد أن يصف شخصية عمر الحريري بـ “الديوث” الذي وافق على علاقة غير شرعية بين عمر الشريف وأخته فاتن حمامة المتزوجة من الباشا زكي رستم. وكتب هذا الكلام على صفحات المجلة الفنية الأولى بمصر عام ١٩٦٠:

محور اعتراضي هو شخصية الأخ (عمر الحريري). فأنا لا أتصور أخًا شرقيًا محافظًا أبي النفس (..) هذا الأخ الذي أقدمه لك، هل يعقل أن يستقبل في بيته عشيق أخته فيرحب به هو وزوجته! هل يعقل أن يثور على الزوج (زكي رستم) الذي التقط لزوجته صورًا في أوضاع مشينة ولا يثور على شقيقته نفسها؟! هل ينصب نفسه قاضيًا يصدر حكم العاطفة ويلغي أحكام الشريعة والقانون الموضوع؟! لا أعتقد بوجود هذا الأخ وإلا فقد هذا اللقب المقدس واستحق ألقابًا أخرى.. أخفها أنه أخ من تل أبيب.” انتهى.

لكن، أغفل هذا الناقد أن تبريرات ما يراه غير أخلاقي تكمن بين سطور ما كتبه حول زوج التقط لزوجته صورا مشينة كي يبتزها من أجل مكاسب سياسية لشخصه.

ألا يكفي ذلك لفضح فساد هذه الزيجة وكونها أكثر انحطاطا من أي علاقة للفكاك منها بمسمى آخر.

الشريد لبركات ونهر الحب لذو الفقار، يجمعهما الأصل الروسي ونفس العلة ونفس النهاية،

لكن الثاني نجح مع الجمهور والمجتمع وأخذ موقعه بين الدرر الكلاسيكية رغم بعض الهجوم الحنجوري الذي تعرض له، بل ويشعر الناس كل مرة بتعاطف وحزن بالغ مع النهاية المأساوية لبطلته،

بعكس الأول الذي سقط من ذاكرة وأرشيف السينما بعدما ضحك الجمهور على مأساة بطلته.

السر يكمن بأن الثاني تحدى المرجعية القيمية للمجتمع من داخل المرجعية نفسها. بينما الأول فلم يمر من خلالها.

مسلسل لعبة نيوتن | مقالي الذي لن أكتبه عن لحمية محمد ممدوح ولحية محمد فراج | خالد البري

داتا نتفليكس في مواجهة الغضب الاستعراضي

الدرس من المقارنة السابقة هو أن موجات الغضب الأخلاقي تجاه أي عمل فني تنقسم لنوعين:

  • غضب حقيقي يترجم لفشل فني.
  • غضب استعراضي لكسب بعض الوجاهة الاجتماعية، أو تحت ضغوط الزمالة، أو لتعمد تصدير صورة معينة عن الغاضب.

وهي تفسيرات نفسية تنطبق بشكل أكبر على زمننا الحاضر. وتفسر معظم حالات الهيستيريا الجماعية المعاصرة حول التريندات. وتؤكدها دراسات علم النفس السيبراني ومفاهيم مثل الهوية الشبكية online identity.

وفي عصر الأرقام نفسه، صارت المسألة أسهل على صناع الأفلام وبخاصة منصات العرض الإلكترونية، التي تخضع محتواها لخوارزميات تحليل شديدة الدقة،

نتفليكس لا تملك أن تقرأ أرقام شباك التذاكر، ولا أن ترسل مندوبيها في رحلات للسينمات كي يدرسوا انفعالات الجمهور كما فعل بركات منذ ثمانين عامًا.

نتفليكس لديها ما هو أقوى من كل ذلك. أقوى من صراخ الميديا والسوشال ميديا. نتفليكس لديها الداتا.

تعرف كم دقيقة شاهدناها. وما اللقطات التي عدناها. وتاريخ مشاهداتنا السابقة لديهم.

تعرف أن السروال الذي خُلع في الثلث الأول من الفيلم لم يمنع المستخدم من الوصول للثلث الأخير حين يعلن مِثلي عن نفسه.

May be an image of ‎4 people and ‎text that says '‎حقيقة العالم حاليا القصة كما يراها عشاق الوهم الرقابة المصرية نتفلكس نتفلكس c daqaeq دقائق‎'‎‎

أصحاب ولا أعز.. الأكثر انتشارًا

نتفليكس تعرف أنها قدمت واحدا من أنجح الأفلام العربية في السنوات الأخيرة إن لم يكن أنجحها على الإطلاق في نسب الانتشار القياسية، وأنهم نجحوا في أهم ما يسعى له الفنان بأعماله: إثارة الفضول.

نتفليكس تعرف الآن أن أسباب نجاح “أصحاب ولا أعز” قد تكون نفسها أسباب الهجوم عليه.

لا خوف عليهم، ليسوا في موقف حرج ولا في وضع ضعف، لأن لديهم كل الأدوات التي تجعلهم يميزون بين الغضب الحقيقي والغضب الاستعراضي وهذا سيترجم في مشاريعهم الإنتاجية القادمة للشرق الأوسط.

موت القبلة الأولى | انهيار الحب وازدهار البورن في السينما النظيفة | خالد البري | رواية صحفية في دقائق

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك