التكفير الكاجوال | هل صنعت الدولة كائنًا أفلت من سيطرتها؟ | حيدر راشد

التكفير الكاجوال | هل صنعت الدولة كائنًا أفلت من سيطرتها؟ | حيدر راشد

11 Aug 2022
رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك
حجم الخط

تنظيم القاعدة يهدد إبراهيم عيسى لحديثه عن خالد بن الوليد..

تهديد القاعدة إبراهيم عيسى

تسريب فيديو لجثة نيرة أشرف من المشرحة مع موجة من التعليقات الشائنة والشامتة..

عبد الله رشدي يطعن في نوايا مبادرات الثقافة العلمية ويتهمها جملة وتفصيلًا بالإلحاد.

كلها أخبار طرقت أسماعنا في الأسابيع الأخيرة، ثم خفت صوتها لتتيح المجال أمام أحداث أبرز: كالقصف الأميركي الذي أودى بحياة أيمن الظواهري كي يترشح لخلافته مصري آخر، وتجدد المناوشات بين غزة وإسرائيل مع تصاعد الاضطرابات في صيف العراق اللاهب، ونتائج الثانوية العامة التي علق عليها أحد الشيوخ بأنه رسب في الابتدائية وهذا ما دفعه للتخصص في الشريعة!

التبرير الأعمى للعنف

لكن هذه الأخبار تمثل – لمن أولاها بعض الانتباه خلال السنوات القليلة الماضية – حلقات في سلسلة من مواقف التدهور السلوكي والانزلاق إلى تبرير العنف الأعمى وتمجيده، والتماس العذر لمن يرتكبه لا من يتعرض له — ربما لأنه يعاني من ضغوط لا يعرف أحد وطأتها، أو يحاول النهي عن المنكر دون تفويض قانوني، أو يثأر لشرف مخدوش كي يسترد لأسرته كرامتها.

أضف إلى ذلك أن عام 2022 بالذات كشف لنا عن وجود شبكات تواصل مهلهلة (لكنها واسعة النطاق) بين مراهقين وشباب يصنفون أنفسهم كـ “مجاهدين” ويعملون على تتبع العلمانيين والنسويات لأجل “فضحهم” وترك المجتمع يسدد لهم “الجزاء العادل”.

May be an image of ‎3 people and ‎text that says '‎Today !!!! من الشرقيه بيدرس فجامعة الزقازيق ووالدته منقبه ودی صوره ليه فکافيه معفن فالشرقيه خدها احد حبايبنا المحيطين بيه‎'‎‎

وهذه الظاهرة، لولا أنها تباشير لما هو أخطر، كانت سترسم بسمة ساخرة على شفتي أي متابع يتساءل: أحق ذلك؟ مراهقون يتركون فنون الجموح ضد المجتمع ويختارون التطرف الديني؟ هل مجتمعهم مفرط في التحرر كي يقفزوا نحو ضده النوعي والعقائدي؟

الإطار الفكري ومخاطر إهماله | من الماركسيين لأنصار الخلافة.. هل نعاند حركة التاريخ؟ | حيدر راشد

دين السلطان Vs دين العامة

رغم متابعتي للتعليقات الجادة حول هذه الظاهرة، فإني لم أجد تفسيرًا شافيًا لها سوى ثنائية رجل الدين الرسمي ضد الممارس الحر Freelancer التي اقترحها عمرو محمد (مصري ملحد) قبل سنوات. وهي ظاهرة ليست معاصرة بأي حال بل يمكن تتبع جذورها إلى العهد الأموي.

الأمر باختصار أن السلطة السياسية طوال تاريخ الإسلام كانت تلجأ دومًا إلى مبرر ديني لدعم نفوذها وضمان طاعتها، لكن الطبقة المتدينة (من قرّاء ومحدّثين وزهّاد) بحد ذاتها كانت على خصومة دائمة مع الطبقة الحاكمة، إما لأسباب مالية أو سياسية، أو اعتراضًا منها على تلاعب السلطة بأحكام الفقه. ولهذا فقد نشأ شكلان من الدين بحكم الضرورة: دين السلطان ودين العامة.

كان دين السلطان مهتمًا بتفصيلات القضاء والدعاوى والحدود، فضلاً عن أحكام المعاملات والضرائب (أي القانون المدني والجزائي). لكن دين العامة كان مهتمًا أكثر بمعالم العقيدة وما يفصل بين الإيمان والكفر من ناحية، وشؤون العبادة التي تضمن للعامي الملتزم سبيلًا سالكًا نحو خلاص الآخرة بعد أن يستنفده عناء الدنيا.

استعانة الدولة بـ “شيوخ العوام”

واللافت للنظر أن هذه القسمة ظلت صامدة على مر العصور واختلاف الظروف وأشكال الأنظمة، بل إن الدول الحديثة في المنطقة العربية كثيرًا ما لجأت إلى بعض “مشايخ العامة” كي تضمن بهم ولاء الجماهير، بدلًا من تركهم عرضة للتيارات التي تتقاذفهم يمين يسار.

والمثال الأبرز على ذلك بالطبع — والذي قد يستغرب ألا يأتي مقال كهذا على ذكره — هو محمد متولي الشعراوي، أستاذ الشريعة في السعودية الذي عاد إلى مصر كي يصبح أبرز وعاظها تحت سمع الدولة وبصرها، والمساهم الأكبر في تشكيل وعي عامة المسلمين المعاصرين خارج المخيم السلفي أو التكفيري. ولكن هل سلم الشعراوي نفسه من دعاوى التكفير؟

لنشاهد معا هذا الفيديو:

ربما تظن أن الرجل يكتفي بتصفير القيمة الأخلاقية لمنجزات غير المسلمين، ولكن هيهات. فقد فتح في الثمانينات جبهة حرب على ثلاثة من مثقفي مصر وكتابها المخضرمين: توفيق الحكيم، زكي نجيب محمود، ويوسف إدريس، موجهًا إليهم تهمة الارتداد والكفر. إليك شيئًا مما قاله الأخير عن هذه المعركة التي لم تخطر على باله:

لقد كنت أتصور أن يتصدى داعية جليل مثلك، أن تتصدى أنت بالذات لهذه الموجة الرهيبة من المتاجرة بدين الله، واستعماله لأغراض شخصية محضة، ولشفي الغليل والطعن من الخلف والانتقام الشخصي الرخيص، كنت أتصور أن عالمًا جليلًا مثلك يقول لهؤلاء الناس: قفوا، فالإسلام العظيم الحنيف ليس لعبة في يد أمثالكم، ولا في يد غيركم، والاتهام بالكفر والإلحاد بدعة، ما لم يقم عليه برهان أكيد، لا من الشواهد فقط وإنما باعتراف المرتد نفسه أو الكافر وإصراره على ردته وعلى إعلان كفره، فإن من يوجهها افتراء هو من تجب محاكمته.
 […] كنت أتصور أن تقف أيها العالم الجليل ضد هذه الغوغائية وضد هؤلاء الغوغاء الذين يسيئون — أول ما يسيئون — إلى الإسلام نفسه، ويجعلون منه وهو السمح الفسيح، ملكًا خاصًّا لهم يُدخلون فيه من يشاءون ويخرجون منه من لا يعجبهم، حتى ولو لم يعجبهم شكله أو شخصه.
[…] عجبت لأني أدركت أن نفس العالم الذي كنت سأستنجد به قد أصبح على رأس موكب الذين كنت سأشكوهم إليه

شرارة أولى.. ثم بدأ الحريق

إن هذا المستوى من التصعيد لم يكن سوى الشرارة الأولى في طريق طويل من الفتن الطائفية والاغتيالات المعنوية والجسدية، من الرصاصات التي اخترقت فرج فودة إلى الحبال التي سحلت حسن شحاتة، ومن موجات العنف ضد المسيحيين في المنيا مرورا بحرق منازل البهائيين في الشورانية ووصولًا إلى تفجير كنيسة القديسين. وحقيقة أن الدولة المصرية كانت تكتفي بملاحقة المرتكبين ومقاضاتهم دون قطع الطريق على روافد التطرف (ماليًا أو أمنيًا) وصده بالحجة القاطعة والمعرفة الغنية، إنما تكشف عن فجوة كبيرة في وعي الطبقة المسؤولة عن صنع القرار.

@daqaeqnet #مواعظ_الشعراوي ♬ original sound – دقائق نت

كما أنها — برعايتها لمؤسسات الأزهر وإنفاقها السخي عليه — لا تقدم للجموع رسالة واثقة مفادها أن صاحب المال هو صانع الرأي، بل إن الوجوه التي يصدرها الأزهر للإعلام هي من يكسب رقعة بعد أخرى من النزاع على وعي العامة وأذهانهم: من الشيخ أحمد كريمة الذي رفض الإقرار بفحص DNA كبيّنة شرعية في قضايا النسب، إلى الشيخ محمد أبو بكر الذي يحدثنا عن سرقات الجن، فضلا عن “الدكتور” عبد الله رشدي الذي يستهزئ بـ “الإله المقتول” وعقيدة الخلاص المسيحية، ويقضي وقته في وصم النساء والعلمانيين بما يحلو له.

الإصلاح الديني | هل الدولة جادة في تحقيقه؟ ومن المستفيد الأكبر من تعجيله / تعطيله؟| حيدر راشد

بحاجة إلى موقف أيديولوجي راسخ

إن الحكومات العربية القائمة (باستثناء تونس كما يبدو) لا تزال، برغم الهزائم المذلة التي مني بها الجهاديون في الشرق الأوسط منذ مقتل الزرقاوي وحتى مقتل البغدادي والظواهري، تتهرب من مهمة تاريخية ثقيلة: هي صياغة موقف أيديولوجي راسخ الأساس يستطيع أن يستوعب بمرونته هموم العامة وتساؤلاتهم، لكن فيه من التكامل والمعقولية ما يكفي لإرضاء المثقفين ويتيح لهم سبل البحث دون أن يتهجم عليهم أحد.

لا يمكن التغاضي عن تجارب ومساعٍ طموحة جرت في السنين الأخيرة من أجل نزع فتيل التطرف، وتهيئة بعض المجتمعات الغنية لمستقبل أكثر تفاهمًا وتفاعلًا مع المحيط العالمي، لكننا بانتظار النتائج التي تعدنا بها هذه التجارب كي نستطيع تقييمها والاستدراك عليها إن لزم الأمر، خاصة أن أبعاد التشدد لدينا أشد تفصيلًا، وتحتاج لحلول أشمل وأعمق.

رابط مختصر
للمشاركة لـ فيسبوك

موضوعات متعلقة

التعليقات (0)

يجب عليك .. تسجيل الدخول أو التسجيل لتتمكن من التعليق.

تعليقات الفيسبوك