أى فيلم يُقدم عن رواية شهيرة لا يروق لقراء الرواية حتى لو أخرجه ستانلي كوبريك نفسه. لكنه بالطبع يروق جدًا لمن لم يقرؤوا الرواية.
الخاطرة السابقة كتبها الراحل أحمد خالد توفيق. وقد تكون أنسب مدخل لحديثنا هنا عن مسلسل ما وراء الطبيعة الذي أنتجته نتفليكس اقتباسًا من رواياته، وأخرجه عمرو سلامة وماجد الأنصاري، بكل ما أثاره المسلسل من جدل بين عشاق الأصل الأدبي.
Doctor Sleep.. يعالج جروح 40 عامًا بين ستيفن كينج وستانلي كوبريك | ريفيو | حاتم منصور
ظاهرة “إحباط قراء الأصل الأدبي” تحدثنا عنها بالتفصيل في مقال مسلسل ما وراء الطبيعة – 5 أسباب للقلق و 5 أسباب للتفاؤل لمن يرغب في قراءة المزيد عن أسبابها. لكننا نذكرها كمدخل؛ لأن كاتب هذه السطور من عشاق الأصل الأدبي، وأي محاولات للتخلص من تأثير هذه الجزئية ستصبح عبثية من ناحية. ولأن قراء روايات ما وراء الطبيعة بالملايين، ويستحقون بالتأكيد مقالات نقدية لا تتجاهل الأفكار والمقارنات الإجبارية التي ستدور بأذهانهم من ناحية أخرى.
ما الذي يقدمه المسلسل إذن بشكل مختلف عن الأصل الأدبي؟ والأهم أي هذه التغييرات جيد وأيها سيئ؟ وهل يمكن أن يجذب الجمهور الذي لم يقرأ الروايات؟
1- نجح فريق الكتابة (عمرو سلامة – محمود عزت – عمر خالد – دينا ماهر) إلى حد كبير في ربط عدة أعداد وأساطير مختلفة، داخل نسيج درامي واحد مترابط، يحتفظ بأغلب المعالم في الأصل الأدبي، ويمنح السرد طابعا يليق بمسلسل سريع من 6 حلقات، وبحدوتة لها خيط درامي رئيسي: بطل ينكر الظواهر الغرائبية بسبب تجربة وعقدة قديمة من طفولته، وينتهي به الحال لتصديقها بعد مواجهات تتضمن عقدة طفولته.
2- استحدث مسلسل ما وراء الطبيعة تغييرات مهمة بخصوص بعض الشخصيات، بغرض منحها مزيد من المرونة دراميًا على الشاشة. على سبيل المثال الإسكتلندية ماجي ماكيلوب صديقة وحبيبة البطل، أصبحت هنا طبيبة وتتحدث العربية إلى حد ما.
Knives Out.. كيف طعننا ريان جونسون بأخطر سكاكين أجاثا كريستي؟ | ريفيو | حاتم منصور
هذا يناقض الأصل الأدبي (فيزيائية – لا تعرف العربية). لكنه مفيد؛ لأن جعلها طبيبة إجراء يسمح بتداخل أفضل لها في مغامرات السلسلة من ناحية. ولأن المتفرج العربي لن يتحمل مشاهدة شخصيتين رئيستين تتحدثان بالإنجليزية طوال الوقت بينما يقرأ هو الترجمة أسفل الشاشة من ناحية أخرى، وهي المشكلة التي لم تواجه أحمد خالد توفيق في رواياته.
1- رفعت إسماعيل هنا بالأساس (شخص كئيب ومهموم – سليط اللسان – فظ الطباع – عدواني أحيانًا).
في الأصل الأدبي كان (ساخرًا – عدميًا – غير عدواني – غير مبالٍ – ويمكنه أن ينسى كل كوارث وورطات الكون بسيجارة أو كلمة حانية من حبيبته).
آرثر كونان دويل وطوطمه الذي وجده في شارلوك هولمز | مارك أمجد
من جديد، لا بأس بأي تغيير من حيث المبدأ. لكن هذا تغيير لم يجعل شخصية رفعت إسماعيل فقط مختلفة عن الأصل، بل جعلها أقل تسلية.
جزء من متعة الأصل الأدبي كانت في أن البطل يستمتع ويسخر أحيانًا مما يمر به من كوارث، أو على الأقل ينقل لنا ذكرياته عنها بشكل ساخر وممتع. هنا زاد الطابع الجدي، وانخفض جانب المرح والسخرية.
قد يكون السبب في هذه النقطة أن ممثل الشخصية أحمد أمين معروف ككوميديان بالأساس، وأن عمرو سلامة خاف أن يسقط في تهمة تشويه الشخصية وتعديلها لتناسب الطاقات الكوميدية لممثلها، فسقط في فخ موازٍ وهو الجدية والتجهم.
الشىء المبشر على أي حال أن أحمد أمين أثبت أنه اختيار أكثر من جيد للدور، وأن تفاؤلي به في مقال التوقعات السابق كان في محله.
أمين جيد في الدراما كما هو جيد في الكوميديا والسخرية. وبمجرد أن تتاح له معالجات أفضل ومساحة أقوى لبلورة الشخصية في خطها الساخر، سيحلق بشخصية رفعت إسماعيل للمنطقة التي يستحقها كلاهما. في الحقيقة نهاية مسلسل ما وراء الطبيعة نفسها توفر بذرة جيدة لهذا التحول المطلوب.
في كثير من الحالات يصبغ الممثل الشخصية بمرور الوقت، بقدر ما تصبغه، وتصبح ملكه أكثر ما هي ملك لأصلها الأدبي. اذا كنت لا تصدق هذه الجزئية، فعلى هذا الرابط مثال عملي شهير لهذه الحالة.
2- العيب الثاني كان محاولة فريق الكتابة استخدام جمل الروايات كما هي بالفصحى في بعض المقاطع، لملامسة الأصل الأدبي في خطوة لم يكن لها داع، بل وصارت مصدر تشتت في كثير من الحالات. ربما كان الأفضل الاعتماد على اللغة المصرية تمامًا، أو على الأقل تقليل هذه الجمل.
رزان جمال التي تلعب دور ماجي، أجنبية الملامح والروح فعلًا، وهي نقطة تحتاجها الشخصية بشدة. ربما ينقصها الجانب الملائكي المطلوب للشخصية، لكنها نقطة تحققت نسبيًا بمرور الأحداث، وأتخيل أنها ستتحقق بشكل أفضل مستقبلًا حال تقديم مواسم أخرى.
الأزمة الرئيسية – التي لا تعيبها كممثلة – كانت في الشكل واللوك الذي اختاره صناع المسلسل لها من حيث الشعر. في كل ثانية تظهر فيها على الشاشة أعاني بشدة لتجاهل هذه الباروكة، وهى نقطة تنقلنا للحديث عن الجانب البصري عامة في المسلسل.
10 اختيارات تمثيلية رفضها الجمهور ثم أثبتت صحتها | حاتم منصور
رغم الجهد الواضح في تنفيذ شكل مقنع للقاهرة في الستينيات من حيث الديكورات والملابس وخلافه، ظهرت مشكلات بخصوص طريقة تنفيذ الأماكن الأخرى.
الريف المصري هنا مثلًا أقرب للريف في فيديوكليب منه لريف ذي مصداقية، خصوصًا مع أسلوب توزيع المصابيح الخاطف للعين. المشاهد النهارية كانت أفضل بشكل ملحوظ.
بصفة عامة قدم مدير التصوير أحمد بشاري أوراق اعتماده في هذا المجال، بفضل عشرات المشاهد في المسلسل، ويستحق الإشادة بجانب ثنائي الإخراج (عمرو سلامة – ماجد الأنصاري). يحتاج فقط للتخلص من اللمسة الاستعراضية قليلًا، وهي أزمة تصيب الغالبية في مرحلة البدايات وإثبات الذات.
أنجح 10 أفلام رعب في التاريخ |حاتم منصور
هذه نقطة تنطبق هنا على النداهة والجاثوم والمومياء الفرعونية بدرجات مختلفة، لكن أخص بالذكر وحش “العساس” الذي يظهر للبطل في صحراء ليبيا؛ لأنه لم يكن فقط ضحية فقر الخيال، بل أيضًا ضحية سذاجة في التنفيذ.
مقطع “العساس” إجمالًا يصلح كإثبات أن كتابات أحمد خالد توفيق كانت سينمائية أكثر من صناع السينما والتليفزيون أنفسهم. ليس فقط لأن الرواية (أسطورة حارس الكهف – العدد 7) تتركك لتخيل شكل أكثر رعبًا وفزعًا لهذا الوحش، لكن أيضًا لأن الصراع فيها كان تصاعديًا وموترًا، قبل الوصول للذروة والحل.
في المسلسل تآكل كل ما سبق لثوان معدودة على الشاشة، تحمل من السذاجة أكثر مما تحمل من الإثارة والشد العصبي.
نفس الشىء يمكن قوله عن صراع آخر يدور تحت الماء. طبقًا لمسار الأحداث بعده، فالفكرة كانت أن نشاهد بوضوح شخصًا يضحي وينقذ آخر، مفضلًا أن يغرق هو بدلًا منه. لكن ضعف التنفيذ جعل المشهد يفقد دلالته المطلوبة. استنتاجي أن طاقم التصوير والتمثيل ومخرج هذه الحلقة (ماجد الأنصاري) أرادوا المشهد بشكل مختلف، ولم ينجحوا في تنفيذه بهذا الشكل.
إينيو موريكوني.. بتهوفن السينما أم موسيقار الفرص الضائعة؟ | حاتم منصور
بعض اللمسات السريعة الذكية في السرد تستحق الترحيب، وتحمل تحية عطرة وإحالات لقصص وأساطير من الأصل الأدبي لم يتضمنها مسلسل ما وراء الطبيعة، لكن ربما سنشاهد بعضها في مواسم قادمة. ومنها مثلًا البرنامج الإذاعي بعد منتصف الليل، وأسطورة عدو الشمس.
نفس الأمر يتطبق على تفاصيل أخرى، مثل البومة الشهيرة التي زينت مطبوعات السلسلة من أعلى، وأصبحت اللوجو المميز لها، وتظهر هنا في التتر وفي مشاهد من المسلسل.
في الحقيقة قد يكون مسلسل ما وراء الطبيعة أول عمل مصري أشاهده، ويحمل لمحات ذكية من مجالي تسويق وإبداع في صناعة الأفلام والمسلسلات وألعاب الفيديو عالميًا:
المجال الأول يطول شرحه نسبيًا، لكن لنقل باختصار مُخل أنه إعطاء المعجبين بسلسلة/ نوعية أفلام كل ما يحتاجونه ويداعب خيالاتهم بخصوصها. والثاني هو الإحالات الخفية السريعة غير المباشرة، التي تلامس ذاكرة المتفرج بخصوص شخصية أو فكرة أو قصة يعرفها، وتمهد الطريق لظهورها.
كيف شكل “يوسف شريف رزق الله” نقطة تحول في علاقة الملايين بالسينما؟ | حاتم منصور
مقابل هذه الألاعيب الطريفة، ينسى السرد أحيانًا التمهيد لتفاصيل وعلاقات مهمة لدرجة أتخيل أنها ستثير حيرة المتفرج الذي لا يعرف الأصل الأدبي. لكن هذه نقطة أترك الحكم والنقاش فيها للمتفرجين والنقاد القادمين للمشاهدة بهذه العين الطازجة، بما أنهم الأقدر على حسمها.
يتعثر المسلسل أيضًا أحيانًا لأسباب صارت شبه مستديمة في المسلسلات والأعمال المصرية والعربية للأسف، ومنها هنا مثلًا فريق أطفال غير موفق نهائيًا في تمثيله.
على ذكر التمثيل تجدر الاشادة باختيارات أخرى قدمت المطلوب منها دون زيادة أو نقص، ومنهم مثلًا آية سماحة في دور هويدا (خطيبة رفعت الساذجة)، وسماء ابراهيم في دور رئيفة؛ أخت رفعت إسماعيل العصبية سليطة اللسان التي نطلق عليها عادة في مصر لفظ قرشانة!
الأول هو رشدي الشامي، ويلعب دور رضا (الأخ الأكبر للبطل). أدائه منح للشخصية ثقلا تستحقه، وأنقذ مواقف درامية وجمل حوار كان يسهل أن تسقط مع أى ممثل آخر في فخ الافتعال.
الشامي على ما أعتقد واحد من هؤلاء الموهوبين الذين يفهمون بالفطرة الفارق بين التمثيل، والأفورة في التمثيل، وهذا شىء نادر جدا جدا للأسف حاليا!
الثاني هو عبد السميع عبد الله، ويقدم شخصية طبيب ريفي. كل شىء في لغة جسده وصوته وطريقة كلامه، يمزج بين الغرابة وخفة الظل ويترك انطباعا مريبا. اجمالا قد يكون أقرب شخصية للطابع الأدبي لهذه السلسلة الغرائبية التي لا تخلو من مرح!
في عصر اعتدنا فيه مشاهدة هراء وحشو وملل مسلسلات الـ 30 حلقة، والسائد فيه رصد ملايين لهذا الهراء يذهب أغلبها لنجمات بصفر موهبة، لكن بدولاب ملابس ضخم وعمليات تجميل وشفط سنوية، ومعهم نجوم بصفر موهبة مماثل، لكن بعضلات بارزة ليس إلا، لدينا الآن في ما وراء الطبيعة شيء مختلف يستحق التشجيع.
ما سر رداءة مسلسلات رمضان ولماذا ستظل كذلك؟ | حاتم منصور
لدينا مسلسل ذهبت أغلب ميزانيته لصناعة شىء متقن ومختلف، بدلًا من أن تذهب كشيك متضخم للنجوم.
لدينا سرد سريع ومكثف في 6 حلقات ليس إلا. لدينا عمل يجرب اتجاهات جديدة بدلًا من أن يستنسخ الموجود. والأهم من كل ما سبق: لدينا شركة عالمية اسمها نتفليكس، قررت أن تلقي حجرًا وسط بحيرة راكدة متعفنة اسمها المسلسلات العربية.
ربما الأجدر توجيه سكاكين السخرية والاستهزاء للأعمال والنوعية التي تستحقها فعلًا، لأن مسلسل ما وراء الطبيعة على كل سلبياته أفضل من 99.9% مما نشاهده في عالم المسلسلات والأفلام العربية. وربما سيشجع نجاح المسلسل – وهو النجاح الذي أعتبره تحقق فعلًا – على إلقاء حجر ثان وثالث وعاشر، وعلى دخول شركات عملاقة أخرى المجال الإنتاجي في المنطقة العربية.
خط دم | أول فيلم مصاصي دماء عربي.. هل هو كذلك؟ وهل استحق الهجوم؟ |أمجد جمال
بعض العيوب والسلبيات كان سيستحيل إصلاحها، ومنها مثلًا اختيار ممثل ضعيف لدور رفعت إسماعيل الرئيسي، لكن من حسن حظنا وحظ أبو الرفاع، أن المسلسل لم يسقط في أي من هذه العيوب الكارثية.
رفعت إسماعيل هنا في مسلسله نصف منحوس، وهو شيء جيد جدًا جدًا قياسًا بتاريخه مع النحس!.. والـ 6 حلقات بداية مقبولة جدًا وبها أسعد ولها قلبي يطرب، إذا كنت تعرف ما أعنيه، وتتذكر هذه الأمور في الروايات.
لنأمل أن يعود هذا الأحمق قريًبا بشكل أفضل وأفضل في جزء ثان، وأن لا تلتهمه وحوش السوشال ميديا التي تطالب دومًا بالتجديد والجودة، لكنها لا تفترس إلا الأعمال التي تملك فعلًا نصيبًا ملحوظًا من الصفتين!