هذه الشذرة المتبقية من كتاب “عن الطبيعة” المفقود للفيلسوف اليوناني زينوفان Xenophanes حملت أول محاولة فلسفية لنقد خيالات البشر الدينية حول الآلهة، فما الذي دفع ذلك الشاعر الجوال المعروف بسخريته اللاذعة، لنقد دين اليونان؟
عباقرة الفلسفة (1) | أنكسيمندريس | أبو العلوم المجهول صاحب نبوءة التطور الأولى | مصطفى ماهر
زينوفان شاعر وفيلسوف يوناني. ولد في القرن السادس قبل الميلاد في مدينة كولوفون. وكان كثير الترحال بين المدن اليونانية المختلفة.
يخبرنا في أشعاره المتبقية أنه ظل أكثر من ستين عامًا يتجول دون أن يستقر في بلد معينة، وربما يعود ذلك لغزو الفرس لمدينته وهروبه منها، فلم يعرف الاستقرار بعد ذلك.
كان زينوفان واحدًا من “الشعراء الجوالين” وهي طائفة كانت تنشد أشعار الملاحم الكبرى خاصة أشعار هوميروس وهزيود على العامة في الأسواق والأماكن العامة أو للملوك في قصورهم.
وفي البداية كان زينوفان كباقي الجوالين يبجل أشعار هوميروس “الإلياذة والأوديسة” حتى أنه قال:
الإيمان والدين.. أيهما الطريق إلى الآخر؟
لا نعرف الأسباب الحقيقية التي دفعت زينوفان لرفض الشعر والدين اليوناني لاحقًا.
لكن المؤكد أنه كان أول من تمرد بشكل صريح على حصر الشعر في إنشاد قصائد هوميروس وهزيود، وبدلًا من ذلك، اتخذ الشعر أداة للتعبير عن أفكاره الخاصة.
كانت أفكار زينوفان الجديدة مرتبطة برفض صورة الآلهة وصفاتهم في أشعار الملاحم التي كانت تمثل دين الشعوب اليونانية. فمثلًا تصف ملحمة الإلياذة كيف خدعت الإلهة “هيرا” زوجها الإله “زيوس” – كبير الآلهة اليونانية – عن طريق الإغواء، لأنها كانت تريد مساعدة الإغريق في حربهم ضد مدينة طروادة، في الوقت الذي يقف زيوس ضد الإغريق، ويصاب هيكتور الفارس النبيل المدافع عن مدينته بجروح بالغة ويخسر المعركة، لأن زيوس كان غارقًا في النوم نتيجة لمكيدة زوجته الإلهة هيرا!
لم تجسد تلك الملاحم الآلهة في هيئة بشرية فقط، بل وصفتهم بأفعال غير أخلاقية يرفضها البشر، فالآلهة تزني وتسرق وتخدع بعضها البعض، فالصورة العامة التي تقدمها القصائد أن أقدار البشر ومصائرهم تقع تحت رحمة نزوات وصراعات مجمع الآلهة.
الإطار الفكري ومخاطر إهماله | من الماركسيين لأنصار الخلافة.. هل نعاند حركة التاريخ؟ | حيدر راشد
رفض زينوفان وصف الآلهة بتلك الصورة، واعتبرها من قبيل الإهانة والتحقير.
وبدلًا من مجمع الآلهة اليوناني، دافع زينوفان عن إله منزه تمامًا عن كل الأفعال البشرية و التصرفات غير الأخلاقية، فلا يجمعه بالبشر سوى صفة “العقل”.
إله زينوفان إله عاقل، كله سمع وبصر، متحد بالطبيعة كلها، ويحركها بالفكر فقط، ولا يمكن وصفه بأي صفة بشرية، كما أنه موجود في كل مكان بغير أن يتحرك، إذ لا يليق بالإله أن يغير موضعه على حد قوله.
إن كان زينوفان استبدل بآلهة اليونان إلها واحدا متحدا بالطبيعة، فلماذا لا نعتبره نبيًا؟ ولماذا نعتبره فيلسوفًا طالما أنه كان مشغولًا بقضايا دينية؟
نظرية داروين .. يوم أن أدرك الإنسان علة وجوده | حيدر راشد
الفارق بين الدين والفلسفة لا يتعلق بالكلام حول مسألة الإله، بل في طريقة عرض الفكرة. لذلك نصف زينوفان بأنه فيلسوف اتخذ الشعر أداة للتعبير عن فلسفته؛ حيث إنه لم يقدم فكرته الجديدة في إطار دعوة دينية تستهدف جذب أتباع أو مؤمنين له، ولأنه لم يزعم أن فكرته عن الإله هي من قبيل الوحي الإلهي، بل توصل لها من خلال تأملاته في الديانات المختلفة في المدن التي زارها في ترحاله.
من هنا نفهم قوله الذي بدأنا به المقال، فكل شعب يصور الآلهة على حسب شكله وطباعه، فتصير الآلهة سمراء اللون عند الشعوب الجنوبية، وشقراء عند اليونان.
في واحدة من شذراته البديعة يقول:
تلك العبارة عن سعي الإنسان للحقيقة الكبرى الممثلة في الله، هي في الحقيقة أفضل مثال عن معنى الفلسفة ذاتها. فالكلمة في أصلها اليوناني تعني “حب الحكمة” وليس “امتلاك الحكمة” لأن الفيلسوف هو من يعتقد أن الحكمة الكاملة لا يمكن الوصول لها، ونحن نعتمد فقط على الظن فيما يخص بحثنا عن الحقيقة.
ربما تظن أن تلك الفكرة عن عدم قدرة الإنسان على امتلاك الحقيقة النهائية فكرة محبطة، لكنها في الواقع كانت المحرك الحقيقي لكل إبداع حضاري لأنها تجعل العقل دائم الحركة والتطور، وربما كان تواضع زينوفان في الشذرة السابقة هو أول انتباه لتلك الفكرة.
1- فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط – أحمد فؤاد الأهواني.
2- ربيع الفكر اليوناني – عبد الرحمن بدوي.