لأكثر من عقد من الزمان، حاول فلول العثمانيين منع أي محاولة للتقارب بين دول المنطقة وإسرائيل. الهدف كان إبقاء ميزة تركيا في علاقتها مع من تصفهم علنًا بـ “العدو الصهيوني”.. أن تصبح هي باب إسرائيل الوحيد إن أرادت التواصل مع محيطها. ومن هنا، تملك أنقرة مفاتيح القوة لتطبيق سياسة العصا والجزرة: تهدد إسرائيل علنًا وتستفيد من علاقتهما الوثيقة سرًا.
لكن الإمارات والبحرين ثم المغرب والسودان تجاوزت الحاجز بإعلان علاقات رسمية وفق اتفاقات إعلان إبراهام.
ومع وصول رئيس أمريكي جديد، ومع تزايد الفجوة بينه وبين أوروبا، بات أردوغان في حاجة ملحة إلى إسرائيل؛ إذ يرى أن فتح فصل جديد مع إسرائيل قد يساعد في إعادته إلى الحظيرة الغرببة واستعادة علاقة عسكرية مثمرة.
حتى الخطاب “العلني” المناهض لإسرائيل بدأ ينحسر، واتخذ أردوغان نبرة مختلفة بشكل ملحوظ، معربًا عن اهتمامه بتحسين العلاقات مع “حليف تركيا السابق”.
لكن مواقع القطع في شطرنج الشرق الأوسط تغيرت. إسرائيل باتت ترى ثمنًا باهظًا لاستعادة الصداقة مع تركيا.. ثمن يجب أن تضمن ألا يخصم من علاقاتها الجديدة في الشرق الأوسط وشرق المتوسط.
لهذا “تتمنع” عن استعادة مثل هذه الصداقة. إلا وفق 3 شروط.
س/ج في دقائق
لماذا حشدت تركيا وعناصرها المحلية الداعمة ضد اتفاقات إبراهام؟
تركيا تملك علاقات مهمة مع إسرائيل:
دبلوماسية وتجارية وسياحية منذ 1992.
تعاون أمني مكثف منذ 1994،
تحالف دفاعي منذ 1997، وصل لمناورات بحرية منتظمة في حيفا، وتدريب الطيارين الإسرائيليين في تركيا، والسماح للطائرات الإسرائيلية بالإقلاع من القواعد التركية لمهام استطلاع ضد سوريا والعراق وإيران.
حتى بعد وصول أردوغان للسلطة، وتبنيه خطابًا علنيًا معاديًا لإسرائيل، حاولت تركيا الوساطة في محادثات سرية بين إسرائيل وسوريا، واستمرت في شراء الأسلحة من إسرائيل، التي باعت أسلحة لتركيا أكثر من أي مكان آخر باستثناء الهند بين عامي 2000 و2010.
لأكثر من عقد من الزمان، كانت تركيا توفر لإسرائيل شريكًا لا غنى عنه في عدة مجالات، بينها:
الباب الأوسع للتعامل الدبلوماسي مع العالم الإسلامي.
الشريك التجاري “الوحيد” في الشرق الأوسط.
المجال الجوي الوحيد المسموح للطائرات الإسرائيلية بالتحليق عبره شرقًا.
في الظاهر، بدا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر منتقدي إسرائيل جرأة على الساحة الدولية، وتبنى خطوات أغضبت إسرائيل، لكنها وفرت له دعمًا بين الجمهور المتأثر بالدعاية العثمانية باعتباره أكبر داعمي القضية الفلسطينية عبر حركة “المقاومة الإسلامية” حماس.
لكن حتى خلال فترات التوتر، لم تقطع تركيا العلاقات مع إسرائيل تمامًا. وبينما عانت السياحة، حافظ البلدان على التجارة والنشاط الدبلوماسي الهادئ.
هل انفصل أردوغان عن تركيا العالمانية في علاقاته مع إسرائيل؟
لم يختر أردوغان ربط علاقات تركيا مع إسرائيل بالتطورات في محيطها الناطق بالعربية.
تعود علاقة تركيا المتكررة مع إسرائيل إلى تأسيس الدولة اليهودية. حتى الحكومات العالمانية فعلت الأمر نفسه. انضمت تركيا بقوة للغرب ضد السوفييت بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك عضوية الناتو. لكنها صوتت ضد خطة تقسيم فلسطين 1947.
بعد ذلك، أصبحت تركيا أول دولة ذات أغلبية مسلمة تعترف بدولة إسرائيل في 1949. لكنها استدعت سفيرها من إسرائيل في أعقاب أزمة السويس 1956.
تحسنت العلاقات. لكن تركيا دعمت القرار الأممي 1975 باعتبار “الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية”.
تحركت تركيا للتصالح مع إسرائيل في 1986، لكنها واصلت انتقاد سياساتها في الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
حدث الاختراق مع بدء عملية مدريد للسلام، فأعاد البلدان السفراء وطورا التجارة والسياحة، وبدأ التعاون الأمني المكثف. واعتبرت المؤسسة العالمانية العلاقات الاستراتيجية مع إسرائيل حاسمة.
لماذا دفع أردوغان وحده ثمن خطابه العلني إذن؟
تايمز أوف إسرائيل تقول إن وصول أردوغان للسلطة في 2002، كان نقطة فاصلة. المؤسسة العالمانية كانت تقيم علاقاتها مع إسرائيل وفق مصالح تركيا في مجالاتها الحيوية التقليدية. لكن أردوغان سار إلى بعد آخر، في محاولته لرسم صورته كزعيم إسلامي.
لهذا تبنى خطابًا علنيًا معاديًا لإسرائيل، بدأ برفض الدعوات للقاء مسؤوليين إسرائيلين أثناء الانتفاضة الثانية، وإن كان واصل الاتصالات السرية معهم في أكثر من ملف.
وفي أواخر 2008، تشدد أردوغان في انتقاداته لإسرائيل، بعدما شنت إسرائيل عملية ضد حماس في غزة بعد يومين فقط من اجتماعه مع رئيس الوزراء آنذاك إيهود أولمرت في أنقرة؛ إذ خشى أردوغان أن يظهر بصورة المتواطئ، بما يضر بصورته الجديدة في العالم الإسلامي.
المشهد تواصل خصوصًا في الاشتباك اللفظي مع الرئيس آنذاك شيمون بيريز في دافوس يناير 2009.
وصلت العلاقات إلى “الحضيض” في مايو 2010 حين بارك أردوغان تحريك قافلة بحرية تحمل إسلاميين من أكثر من دولة إلى غزة على متن السفينة التركية مافي مرمرة. لكن كوماندوز البحرية الإسرائيلية هاجموا السفينة وقتلوا 10 نشطاء أتراك، لتسحب أنقرة سفيرها وتطرد السفير الإسرائيلي.
بوصول جو بايدن لرئاسة الولايات المتحدة، يخشى أردوغان أن يتضرر بتاريخ الخصومة الشخصية بينهما. حي إيتان كوهين ياناروجاك، الباحث التركي في معهد القدس للاستراتيجية والأمن، يقول إن تركيا تعتبر إسرائيل ممثل الإدارة الأمريكية في الشرق الأوسط، وتتوقع أن تساعد تقوية العلاقات معها في نزع فتيل المشاعر المعادية لأردوغان في الكونجرس وفي إدارة بايدن.. لكنه ليس السبب الوحيد:
1- الخصومة مع بايدن:
في ولاية ترامب، كانت “الكيمياء” بين الرئيس وأردوغان كافية للحفاظ على العلاقات في مواجهة المصالح الإقليمية المتضاربة والمشاعر المناهضة لأردوغان في الكونجرس، لكن بايدن مختلف.
في 2014، اتهم بايدن سياسات أردوغان كسبب رئيسي لصعود داعش.
في 2016 وصفت الصحافة التركية بايدن بـ “أحد منفذي الانقلاب العسكري”. كان محركًا رئيسيًا لرفض واشنطن تسليم فتح الله جولن لأنقرة.
وكمرشح في 2020، وصف أردوغان بالمستبد، وتعهد بتدفيعه الثمن. أردوغان كان بين أواخر من هنأ بايدن، وبايدن بدوره لم يقبل طلب أردوغان إجراء محادثة هاتفية حتى الآن.
2- تحالف السعودية – الإمارات – مصر:
عزلة تركيا الإقليمية تتزايد. تحالفت مع قطر في دعم الإخوان الذين سقطوا في أكثر من دولة، في مواجهة تحالف السعودية والإمارات ومصر.
التحالفان في تنافس إقليمي، وتركيا تتباعد مع الغرب الذي يتقارب أكثر من التحالف الثلاثي.
هنا تخشى تركيا أن يتوسع التحالف لتنشأ كتلة ضخمة معادية لأنقرة، خصوصًا بانضمام مصر إلى تحالف آخر مع اليونان وقبرص لحماية مصالحهما في شرق المتوسط ضد قرصنة تركيا.
انضمام إسرائيل إلى كل هؤلاء – خصوصًا بعد اتفاقات إعلان إبراهام – يعني أن تركيا فقدت كل المنافذ.
3- العقوبات والانهيار الاقتصادي:
التدخلات العسكرية التركية سبب آخر للقلق في أوروبا التي تتجه لفرض عقوبات على تركيا بسبب تورطها في سوريا وليبيا وناجورنو كاراباخ وشرق المتوسط.
الاتحاد الأوروبي يضم 5 من أكبر 10 شركاء تجاريين لتركيا، والتهديد بفرض عقوبات، بضغط من فرنسا وقبرص واليونان، بينما يعاني الاقتصاد التركي من مشكلات عميقة، يعني سجب مفتاح شعبية أردوغان بين الطبقة العاملة التركية.
من المرجح أن يكون لإسرائيل ثلاثة مطالب رئيسية في المحادثات مع تركيا:
1- رفع يدها عن حماس:
ستطلب إسرائيل وقف تخطيط أنشطة حماس العسكرية من أراضي تركيا ووقف منح الجنسية التركية لقادة الحركة.
2- وقف التوغل في القدس:
ستطلب إسرائيل شفافية تركية أكبر بشأن أنشطتها في القدس الشرقية؛ إذ تسعى عبر الإخوان لفرض نفوذها في الأحياء العربية وفي الحرم القدسي من خلال مبادرات وتمويل للأنشطة الثقافية والسياسية. وبحسب ما ورد طلبت الأردن ودول عربية أخرى من إسرائيل أن تفعل أقصى ما يمكن للحد من النفوذ التركي المتزايد في القدس.
3- إيقاف “بلاعة البلاغة”
أخيرًا، من المحتمل أن تطالب إسرائيل أردوغان بالتخفيف من حدة لهجة خطابهم المناهضة لإسرائيل. جاليا ليندنشتراوس، الباحثة في معهد دراسات الأمن القومي في تل أبيب، تقول إنه نظرًا لعدم خفض العلاقات رسميًا في 2018، فيمكن لتركيا أن تختار إعادة سفيرها من جانب واحد، تاركًا لإسرائيل أن تقرر متى أو ما إذا كانت سترد بالمثل.